الدخول في التابوت

الدخول في التابوت​



وضع ابهامه على الصفحة، حدق جيدا قبل أن يتنقل بالبصمة على المساحة البيضاء، تنمل الإبهام، بات شبه مخدر، استبدله بالسبابة، تنملت، جرب الأوسط فالخنصر فالبنصر، وقفت يده كلها فوق البياض الممتد كغيمة ملفوفة بسحب من عهن منفوش، امتصته السحب، فانزلق في كومات من ضباب رمادي يتجه نحو التعمق في سواد مكدس، مزدحم، غلفه المجهول بخيوط عنكبوت يفيض سما.



ما الفرق بين الحياة والموت؟ سألته نفس شاردة من غيبوبة مكتظة بالتناقض، ما الفرق بين الثقة المنزوعة من القلب المعذب بالحنين لتجربة الثقة الموطدة في القبور؟ سألت النفس الواهمة بشيء من اليقين المخلوع من نفس تتوق للشيء الخفي، ربما النقاء، وربما الصفاء.



قالت النفس المتوثبة: القبور لا تتحدث، لكن العظام المتحللة المتكلسة، يمكن أن تخبرك بالكثير عمن انسلخ عنها، عن عمره، طوله، جنسه، مرضه، حتى أنها تستطيع الاسترسال بالحديث كمذياع لا يتوقف. بمن أثق إذا؟ بالشمس التي تغيب؟ بالقمر الذي يأفل؟ بالجليد؟ بالصحراء؟ حتى هذه كغيرها، لا تكف عن الصفير والجواح والهسهسة والطقطقة.



هناك شيء فيَ ذاتي، تكويني، يرجني، يخضني، كما يرج الزلزال الأرض من أعماقها، وكما يخض الفيضان ما على سطحها، يحمله من مكان ليضعه في مكان لا يشبه ما كان يألف ويعهد ويعرف، في كائنات تتوغل، تتعمق، تتجذر، تمد جذوعها وسيقانها، فيغزوها فطر يكاد لا يرى، يفتتها، يحللها، وينثرها فوق مكان البصمة تماما، فيختفي النثار، وتتلاشى البصمة، يقتحم المجهول غامض من الغيب المخبأ في الإضمار القصي عن المحسوس، الملموس. تتقاطر العقارب من كل الجهات، لكنها رغم ما تملك من عيون تظل عمياء عن رؤية البؤرة التي تتضفر بأعماقي كضباع لا تكف عن سفك الروح أمام الحياة، فهي هكذا خلقت، كالكلاب التي تستمد حياتها، بقاءها، من الألم المعتصر من الضحية التي تنهش وهي تراقب بلوعة اختفاء روحها المطحونة بين الأنياب والأضراس.



كان عليك منذ أزمان غابرة، منذ عصور تمددت فيك من الخاصرة حتى الخاصرة، أن تدرك مرة واحدة، بأن الأشياء تقرأ من بدايتها حتى نهايتها، كي تدخل الذاكرة كبيضة تتحول يرقة، فشرنقة تفتح عالمها للطيران بأجنحة تتقن الصعود والهبوط والدوران والالتواء، رغم حداثة اللحظة التي فردت الجناحين في أفق مفتوح.



الحياة الآن تم اختبارها، بالجوارح، وبالنفس والروح، لكن الموت شبحا يطاردك منذ اللحظات التي رآك النور ورأتك الظلمة، بينهما حاجز يومي يسحبك نحو الوسن، ورغما عنك، عن أنفك، وكل ما فيك، يقذفك بنوم يغيبك عن الوجود، عن الإحساس، عن اللذة الغامرة، والألم المكتسح، لتكون معزولا عن الدنيا وكل ما فيها، كأنك لم تختبرها ولم تختبرك، لم تشاهدها أو تشاهدك، وحين تصحو، تكون كالمخبوط الخارج من صرع أمسك بنواصيك وأقدامك، لكنك فور فرك العينين، تنسى كل شيء عن الموت الذي كنت تغرق فيه حد العجز عن اليقظة.



الفرق بينك وبين ذاتك عميق، تماما كالفرق بين القدرة على اكتساب التجربة من الصرخة التي مزقت السمع وأطفأت البصر فيك، لكنك رغم ذلك بقيت كما اللحن تحن للصرخة ذاتها، لتدور في فراغ يقودك نحو فراغ لا يتسع سوى لفراغ، كالحلم الذي جاءك ليجس قدرتك على التعلم من اللحظة، لحظة الفزع من رؤيتك للعالم وهو ينهار ويتمزق، كسراب يكسره ويشظيه الصدى، يومها داهمك الحلم، وربما الرؤيا، رأيتك وأنت ترى الأرض تقضم من تحت قدميك، تتهاوى، وأنت تركض نحو الريح، تركض وتركض، والأرض تتلاشى، تتبخر، ولا يبقى من ورائك سوى موطن كعب القدم، وأنت تعدو بكل ما فيك من قوة، وكأنك مجموعة من خيل جامحة متوترة غاضبة، وخلفك، تحت الكعبين فقط مساحة واحدة للأمام تستعد للتهاوي والتلاشي والذوبان، الخوف يمسك بقبضته الصارمة النائتة خفق القلب المتسارع المشتبك مع اللهاث والعرق والرعب، فقط يمكنك العدو والركض ، وأنت محشو بالجزع والخرع، الحياة كلها، الوجود كله، الكون كله، ليس فيه سوى العدو الموصول بالعدو، فالأرض من ورائك لا مكان فيها لقدم، لصوت، لرؤية، لعين، عليك الإسراع ما استطعت، فإن لم يجد كعب القدم مكانا على الحافة التي يلاحقها الاندثار ستغيب في العدم، التوجس يغذي الجبن فيك وأنت تحاول طي ما تبقى من الأرض، وفجأة، تصل حافة الكون، نهايته، فلا الأمام أمام، ولا الوراء وراء، هوة من فراغ تنتصب أمام عينيك، وهوة من فراغ تبتلع الخلف، تتقلى الروح وتشوى، يختطفك العجز المطلق، فتصحو وأنت تشرق بلعاب أغلق الحنجرة، تتلوى، تقفز وكأنك ممسوس، الموت الذي طاردك في الحلم، هو ذاته الذي يخضخضك ويرجك، وأنت أنت ذاتك، ما زلت لا تعلم يقينا، أخرجت من الحلم، أم ما زلت فيه.



أرأيت كم أنت غافل عن لحظة التجربة؟ حتى الحلم الذي جاء من الموت لينتشلك من الغفلة، لم يتمكن من تلقينك درسا عن الثقة، عن البصمة التي طبعت فوق بياض لم يحمل غير البياض، ما زلت أذكر حديث الأنامل معك، ربما، وربما لوحدها عوالم وأكوان، ربما، لم تسمع أنين الإبهام حين طويته للأسفل، ولم تسمع شهقة السبابة وهي تنادي الإبهام ليقف معها على حدود التوحد، فتنتفض الوسطى لاجئة للخنصر، أما البنصر فيأخذه الشده والدهشة، يعلو صليل الأصابع وهي تبحث عن مكانها، عن تجربتها، عن ثقتها التي تشابهت الآن مع غفلتك وجهلك وهما يصدقان بثقة المؤقت المتغير، فيعلو صرير النفس المفجوعة ليغطي البصمة ويلوث البياض الذي كان قبل طي الإبهام يظن بأنه يملك نقاء أو صفاء.



ماذا تريد من الحلم؟ الهروب من ذاتك التي تصفدك بمعاتبتها وقرعها ولومها لك؟ أم الدخول في حالة اليأس الذي يفجر القنوط؟ أنت لا تعرف، وذاتك ذاتها لا تعرف، لكنك تستطيع تذكر الحلم بكل ما فيه، كتلك الأفعى العملاقة التي كانت تسير نحوك وأنت جامد، مغلول بالحيرة والذهول، لا تملك من إرادتك سوى انتظار وصولها إليك، رغم خروج معدتك في مسار نحو الحلق، وسقوط القلب في هاوية الرعب، قدماك في الأرض كوتدين يغوصان نحو العمق، تماما كما كانا لحظة الهروب من اندثار الأرض، وحين وصلتك والتفت بكل ثقلها وقوتها عليك، ضاقت الروح، لكنها كانت خبيثة إلى حد الخبث الذي لا يحد ولا يوصف، فهي تشد حتى توصلك مرحلة النهاية، ثم ترخي، تراك تنفست نفسا واحدا، فتعود لتضغط بكل قوتها وهي تنتصب برأسها أمام عينيك، هي تراك فريسة بلا حول ولا قوة، وأنت تراها من خلال عيونها التي تغوص فيك، الموت الذي ناداك ذات يوم لتدرك معنى التجربة، لكنك فور نهوضك منه، من الحلم، عدت لطبيعتك، القادر على التعود من خلال إنكار الحلم وما فيه من رسائل، أنا لا أعرف لماذا تركتك الأفعى طريح الأرض؟ ربما لم تجد فيك ما يستحق أن تقتل، وربما شمت فيك رائحة سم سيقتلها، كأنك ضفدع لا يتقن التغذي سوى على ما يحقنه بسم زعاف.



الموت هو اليقين النابت من المطلق الذي لا مطلق غيره، من الخالق، خالق الموت، وخالق الحياة، والناس مثلك تماما، يهبطون بإرادة الغرور المنزوع من الصلف، يؤمنون بالحياة كبداية، اسبقية، فقط لأنهم شاهدوا الأجنة وهي تخرج من الأرحام، ولمسوا العجز المطلق القادم مع البكاء المتوحد مع الألم، ألم المخاض، وطلقات الولادة، ليختلط هذا كله بالزغاريد والأهازيج وتشقق الوجوه من الحبور المتفجر بوصول المولود لعتبة التراب والرمال والسوافي.



فرح متقد، يُذهب العقل، ويُغيب الإدراك، يمحق الفطنة التي لم تتوقف أمام الغيم المرصوف بالمجهول، لتسأل بلوعة تلهف وفجيعة، جوى وشجو: من أين جاء هذا المولود الملطخ بالأشياء؟ بالغرائب والعجائب؟ من معلوم؟ أم من مجهول؟ من جلي بَيِنٍ محدد؟ أم من العدم المحشو بالعدم؟ كل هذا لا يدور بين الحاجبين والمحجرين، حتى أنه لا يقع في مساحة البصر والبصيرة، لعجزنا فقط عن فهم الموت الذي منه انتقلنا للرحم، لنخرج منه ملامسين التراب الذي خلقنا منه، ومنه نأكل، وإليه سنعود ونحن غارقين بالموت الذي ييبس الجسد ويشحنه بالبرودة والتجمد.



الموت أسبق من الحياة، وهو صاحب السطوة التي تغل بكل بساطة مفرطة بالبساطة، كل شيء وجد في الوجود، حتى الشموس والأقمار، الكواكب والنجوم، المجرات والثقوب السوداء، كلها جاءت من الموت، من يقين الموت، وهي مرهونة لوقت ما، لتعود إليه، خاضعة، صاغرة، مقهورة، خانعة، ذليلة، مذعنة، فلا حول لمخلوق سوى الوقوف أمام الوقت بانتظار الموت.



هل ما زلت أنا أحاول رسم بصمتي فوق الصفحة البيضاء؟ ربما، وربما دائما هي أكبر من امتداد الزمن في الزمن، والوقت في الوقت، فهي غامضة، خفية، تحمل التأويلات والتوقعات، الشيء وضده، اللاشيء ونقيضه، لذلك فقط، توطدت علاقتي بها أكثر من علاقتي مع الذي يسكنني، يحتل ذهولي وشغفي، ذلك الشيء الغريب المتحرك، اللزج، الدبق، الذي يخلعني من جذوري، ويغرسني بجذوري، هو يشبهني، في عشقة لمفرد ربما، ويشبهني حين أنتظر الموت، في أحايين كثيرة على بوابة الميلاد.



هذه الحياة، مزقتني، ولصقتني، فتتني، وجمعتني، نثرتني في الهباء، لملمتني، خبأتني في قمع عاصفة لولبية، نحتتني على رمال في صحارى تغزوها الرياح ولا يعرفها الغيم أو المطر، كأنها تشدني من ناصيتي نحو حوارية واحدة ووحيدة، الجفاف، اليبس، النشفان، وكلها صور مبسطة من صورة الموت حين يرفع الغطاء ويتحول البصر من حالة العجز التي رافقت العمر، ليتحول إلى حديد، ليرى ما لا تستطيع المخلوقات كلها رؤيته وهي منغمسة بغرورها الذي تزوده الحياة بها منذ لحظة الميلاد التي أهملت الصلة بين القادم من الرحم والتراب الذي وقع عليه فاختلط به وتسرب تحت الجلد كامنا حتى اللحظة التي تحول البصر بها إلى حديد.



ما الذي تعنيه البصمة التي أرقتني فترة طويلة من عمري؟ وماذا يعني إن كانت على صفحة بيضاء أو سوداء؟ خمرية أم توتية؟ على حجر كريم أو حجر كلسي؟

كل شيء سينتهي، وأول النهايات "ربما" التضاد والتناقض، التباين والتعارض، التضارب والتنازع، "ربما" الثغرات والفجوات، التفارق والتناقص، ومعها ستختفي اللذات، تتلاشى، تندثر وتنقرض، ستذوب زرقة السماء، ويفنى الصبح المتنفس من العتمة، سيندرس الشفق الذي كان يؤجج الجمال والهيبة، ويُمحق الشفق المبلل بدماء الأفق المسفوح، سيغيب الولد والحفيد، وتطوى كل ذكرياتهم مثل غزال استقر في مِعَد أسود غزاها الدود والنسور، سيحل ظلام مكدس في ظلام، حجب ظلمات تتشابه وتختلف مع حجب ظلمات الرحم المستعد للحياة، فقط سيصحو التراب الذي تخفى تحت الجلد يوم وقعت عليه يوم الولادة، سيرافقك نحو اللحد الضيق، شديد الضيق، وسيغطيك التراب بتراكم يعزل حتى رائحتك عن سطح القبر، ومن جوفك، سيخرج الدود، كجيوش لا تحدها العين ولا يدركها البصر، ستهضمك ثم تهضم ذاتها، فقط تراب فوق تراب، هذا كل ما القبر حين يفتح ليوضع مكانك جسد جديد، عاد من الحياة، للأصل الذي نبت منه، الموت، العدم، اليقين.



قالت أناي، وأناي، لذاتي، وذواتي: هل أدركت سر الحياة؟ سر الوجود؟ هل أشبعت الصفحات والكتب ولو نزرا قليلا من شيْ ينأى بك عن ألم كلمة واحدة من قريب أو بعيد؟ هل كان الفرح الذي اجتاحك في لحظة مفعمة بالتدفق والسيلان، غير مخلوط بالحزن الذي يقف على خيط أدق من خيط العنكبوت؟ هل فككت لمرة واحدة لغز الواضح الجلي؟



كل الأشياء تختبرك، توغل في صناعتك بكل زفرة وشهقة، بل بما هو أقل من ذلك بملايين المرات، لكنك كعاجز، مشلول، كسيح، تظن بأنك من يختبر الأشياء، من يرتبها في الأنا والذات، حتى يصل الأمر إلى اعتقاد راسخ، بأنك تمسك التجربة وتفليها كما يفلي القرد ذاته من القمل والصبئان، يصيبك الزهو وتنتفخ الثقة، زهو الجهل، وثقة الخديعة، فيضيع العمر وأنت تجدف بين دوامات وحوامات دون أن تغادر مكانك.



فتأتي اللحظة من ذاكرة النسيان تماما، تهزك، ترجك، تخضك، لكنك الآن بلا حول، بلا قوة، لا تستطيع اللمس أو الهمس، فقط جحوظ ممعن بالجحوظ، كل الكون، كل الوجود، كل القوى العاتية المدمرة، والقوى المتفجرة لتبث الحياة والجمال في صحراء طحنها الجفاف حتى الموت، كل هذا وغيره، من البعوضة وحتى المجران والأفلاك، ترضخ للبرودة التي تتسلل من قدميك، كدبيب نمل دؤوب، لتدخلك عالم لا أحد على الأرض يعلم عنه شيئا، وإن كنا نغذي أنفسنا بما نملك من أخبار، كلها بتفاصيلها شيء يبقى خاضعا للحظة التي يحدث التصادم معها لحظة تسبيل العين التي كانت قبل هنيهة فقط تشد العالم نحوها، فتفشل، لإن التصادم أوقف الزمن، وخيب الذهول، وقمع الذهول.



حتى وأنا أكتب الآن ما أكتب، وأظن بأني أمسك بالحروف لوصف ما أريد، شرح ما أصبو لشرحه، لست سوى أنا تحاول التحايل على أناها، وذات تستمرئ خديعة ذاتها، هذا التداخل، التشابك بين الوعي والغيب، بين الإدراك والمجهول، بين المعرفة والجهل، بين العجز والقدرة، يوزع التثاؤب والوسن على كل شيء، فيتمكن الغبش، الضباب من تحطيم شعاع الشموس وانفجارت الكواكب والنجوم، حين يلفها الدخان.



ماذا تريد؟ قالت الأنا والذات.

لمس الحقيقة بيدي، قلت.



قالت الأنا والذات: ألم تر بأنك ما زلت تبحث عن المحسوس، هل النار تؤذي الميت؟ وهل يؤذي سقوط نيزك رأسا تمدد فوق دكة الغسل؟



قلت للأنا والذات: هل وصلت للحقيقة؟



قالت الأنا والذات: ربما، أليس ربما هي رفيقة أنفاسك منذ الميلاد؟



قلت: ربما، لكني الآن أستطيع فقط القول بكل ثقة، رغم ما يعتريني من نوازع واختلاطات، سألجأ فقط للفطرة، فهي اليقين الذي لم أدرك من قبل، بأنها اليقين الذي يتساوى مع يقين الموت. وحين يأتي الموت، بأي شكل من الأشكال، سأخرج فطرتي من أعماقي وأدمجها بلحظات الرحيل وعيون الغياب، فهي رغم كل شكوكي ووساوسي، تبقى نعمة الله التي زرعها فينا رحمة وإحسان، رأفة ومحبة وحنان، لنمسك بالنقاء المولود من البراءة، البراءة المتفجرة من السكينة. عل هذا اليقين بالفطرة، يرافق خطواتي وميلادي الخالد حين أسجى باللحد لتبدأ مرحلة التواصل مع الله جل في علاه.



مأمون أحمد مصطفى زيدان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...