تسنيم طه - موسم العودة إلى الشمال...

"أنا هِنا شَبِّيت يا وطني ،،، زَيَّك ما لْقِيت يا وطني"


وكأنه، بتـعمده انتقاء تلك الكلمات، لحظة دخول المركبة حدود العاصمة، كان السائق يعلم ما سيختلج نفوسنا من حنين لأيام الطفولة، واشتياق لأيام الوحدة ومعاني الانتماء الحقيقي للأرض.

بحبورٍ، تهللت وجوه الركاب مع صدوح الموسيقى من المُسَجِّل، وبحماسٍ ارتفعت أصواتهم في كورال مع كلمات الأغنية، لتنتابني قشعريرة، فجرت دموع التأثر في داخلي، ومنعتني من مجاراة حماس أصواتهم المنصهرة مع صوت "سيد خليفة":

"يا الخرطوم يالعندي جمالك....جنة رضوان،

طول عمري ما شفت مثالك......في أي مكان"

وتململتُ في مكاني بقلق أكبح جماح لهفتي للترجل عن المركبة لكي تلثم قدماي تراب الوطن الذي لم أعرف لي وطنًا سواه، وأردع غصة حسرة الابتعاد عنه، مرددة في سري كلمات أحمد شوق "وطني ولو شغلت بالخلدِ عنه، نازعتني إليه في الخلد نفسي"، رغم أن الذي شغلني عنه لم يكن لا خلدًا ولا نعيمًا، بل بؤسًا وحربًا ودمارًا، ثابرت لأتجاوزها حتى أعود إلى أحضانه من جديد.

منذ البارحة وأنا أتحرق لعيش هذه اللحظة، تحرقًا أنساني قساوة الرحلة الشاقة التي استمرت أربع عشرة ساعةً، تعرضت فيها مركبتنا، في الطريق بين مدينتي "المُجْلَد" و "الفُولة"، لقطاع طرقٍ غريبي الأطوار، لم يتعرف أحدٌ على هويتهم ليجزم إن كانوا من أبناء المِسيرية، لكوننا في ديارهم، أم من قبيلة الدِّينْكا أو إحدى قبائل البَقَّارة الجنوبيين، وذلك لالتزامهم الصمت التام أثناء نهبنا وتجريدهم لنا من كامل ممتلكاتنا.

لحسن الحظ أن أذاهم لم يطل أجسادنا. ولكن قبل اختفائِهم في ظلام السهول الواسعة، أصابوا إطارات المركبة الأمامية والخلفية ليتركونا في خلاءٍ مظلمٍ موحشٍ مخيفٍ لا يكسر صمته سوى عواء الحيوانات البرية، وبكاء الأطفال الخائفين. ومرت لحظات عصيبة كأنها دهر، قبل أن تمر سيارة "بوكْسْ دَابُل كابينة"، بدد نور مصابيحها حلكة سواد الليل البهيم، وتعلقت جميع الأنظار بسائقها الذي ترجل بعجلةٍ، وسأل عن الأمر بفضولٍ، قبل أن يهز كتفيه بعدم اكتراث، عندما علم بقصة قطاع الطرق، ليؤكد أنّ ذلك يتكرر كثيرًا ولا داعي للقلق من مجرد لصوص.

كنت من المحظوظين الذين تطوع السائق بأخذهم معه في طريقه إلى مدينة المجلد. لكن، وبدل الشعور بالامتنان لابتعادي عن أصوات الحيوانات المرعبة، انتابتني مخاوِفُ من أن يهزمني تأنيب الضمير فيثنيني عن قراري، فأواصل التوغل جنوبًا أبعد من مدينة المُجْلَد، لأجد نفسي من جديد وسط الأرامل الثلاث اللواتي تركتهن في "رُومَامير"، فأعود أستأنف حياتي القديمة وروتيني الممل معهن: حرث الأرض ورعي الأبقار نهارًا، ثم التسلل ليلًا إلى قرية "روبجابا" داخل الغابة هربًا من هجمات المتمردين لمواجهة أخطار لا تقلُّ فتكًا من البشر، من حيواناتٍ مفترسةٍ وعقارب وثعابين، وخاصة المخلوق الغريب المسمى" كُور أقار"، ذلك الكائن البشري الغريب صاحب العينين كالجمرتين وأكواع الأيدي والركبتين المعكوستيْن والطول الذي يتجاوز المترين، آكل البشر الذي لا يتوانى عن ابتلاع إنسان بأكمله في لحظة جوع.

فقد كنتُ قد عقدتُ العزم على مواصلة طريقي بمفردي بعد أن فقدتُ الأمل في مساندة أمي لي.

فقبل ثلاث سنوات، وبعد واحدة من هجمات متمردين قبيلة النُّوير على منطقتنا، اغتصبتُ فيها أمام عينيها، توسّلت إليها من بين دموع قهري، أن نهرب من منطقة الحرب، وننزح مع النازحين جنوبًا وراء نهر "كيير". لكنها رفضت بحجة أن أمها المسنة لن تقوى على السباحة في ذلك النهر الخطير المليء بالتماسيح والأفاعي والأسماك القاتلة. ولما قدمتُ اقتراحي الثاني لكي نعود إلى الخرطوم، وبختني بشدة مستنكرةً عليّ اعتقاد أن تترك أمها مرة ثانية كما فعلت قبل ثلاثين عامًا.

- سنأخذ جدتي معنا، أجبتُ بصوت مخنوق.

- أمي لن تقوى على تحمل وعورة الطريق أبييّ والخرطوم، أجابتني بنهرة

فارتفع نشيجي ومنعتني الغصة من مواصلة الكلام. فكسرت أمي مهابة الصمت بيننا بنهرتها الصارمة، أثناء رفعها لكفها المعروقة لتمسح بها حبيبات عرقٍ انبثقت على شُلوخ جبينها قبل أن تؤكد:

- لن أترك بيتي وأرضي ومواشيّ لأبناء المتمردين ينعمون بها بعد هروبنا.

ومع تدحرج كرة الغضب في داخلي، انحلت عقدة لساني فصرخت فيها بهستيرية:

- تريدين البقاء والمجازفة بأرواحنا من أجل حماية ممتلكات مادية؟

فرمتني بنظرة حادة وزمت شفتيها امتعاضًا قبل أن تعترف بأنها عاهدت أمها بالبقاء بجوارها إلى آخر يوم من حياتها، لكي تنفذ وصيتها وتدفنها في أرضها بجوار عشيرتها من أبناء الدِّينْكا نَقُوك.

فكانت تلك اللحظة، التي أفهمتني أنني لن أستطيع تغيير رأيها ما دامت أمها على قيد الحياة. وهكذا، تقبلت الواقع على مضضٍ، وواصلت روتيني بصمتٍ تام، واجتهدت دون أن أنجح، في كتم الصوت الداخلي الملح عليّ ليل نهار، ليذكرني بأن مكاني الحقيقي ليس على تلك الأرض الغريبة التي سقت إليها قسرًا، وإنما حيث ولدتُ وتلقيتُ تعليمي ونسجتُ أحلامي على نبرات صوت والدي الحنونة، أثناء تكراره لي وأنا أصغي باهتمام حتى صدقته، بأن خلف عيني البريئتين تقبع صورة لامرأة متميزة ستصل بذكائها لأعلى المراتب العلمية كتلك التي وصلت إليها فكتوريا يار أرول، أول امرأة جنوبية ذهبت للدراسة في جامعة الخرطوم، أو لأعلى المراتب السياسية كتلك التي وصل إليها جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي تقلد منصب النائب الأول لرئيس جمهورية السودان، قبل أن يُفجَع الجنوبيون بخبر تحطم طائرته ذلك اليوم المشؤوم من نهاية شهر يوليو عام 2005، بعد ستة أشهرٍ فقط من توقيع اتفاقية "نيفاشا" للسلام الشامل.

قبل تلك الاتفاقية، كانت البلاد غارقة في نزاعٍ مسلحٍ طويل، امتد مباشرة بعد الاستقلال عن المستعمر الإنجليزي عام 1956، وتفاوتت أسبابه بين النزاع على الموارد والنزاع على السلطة وبين دور الدين في الدولة المستقلة وعن تقرير المصير. ولم تهنأ البلاد بالسلام إلا أحد عشر عامًا بين 1972-1983، بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا برعاية الرئيس جعفر النميري قبل أن تعود الحرب لتشتعل من جديد.

كان والدي يقصَّ عليّ تفاصيل ذلك النزاع الطويل بنبراتٍ حزينة ثم غاضبة عند تذكر أهله الذين مات أغلبهم بالرصاص في ساحات المعارك أو بالألغام والدانات أثناء نزوحهم من أماكن النزاعات المسلحة. ولكن نبرة صوته كانت دائمًا تعود لهدوئها واتزانها أثناء ختمه لقصصه، وهو يمسح على رأسي بحنانٍ، ليطمئنني بأن تلك الحرب لابد وأن تنتهي في يومٍ من الأيام، لأن دوام الحال من المحال، وبأنني سأعيش فترة السلام وسأكبر وأصبح امرأة لها شأن.

وهكذا قوى إيماني بنفسي، وصدقت أن مصيري سيكون مختلفًا عن مصيرهما هو وأمي، اللّذيْن قضيا حياتهما في مزاولة أعمال شاقة أورثتهما انحناءاتٍ في الظهر وأوجاعٍ في العظام. فلكي يوفرا لي ولأختي ثمن الكراسات والاقلام حتى نكمل تعليمنا، تنقل أبي بين مدن العاصمة المثلثة (الخرطوم وبَحْري وأُم دُرْمان) ليمارس مهنته كعامل في أعمال البناء من نقل الطوب وخلط الإسمنت بالرمل ورفعها إلى أعالي البنايات تحت أشعة الشمس الحارقة، في الوقت الذي كانت فيه أمي تقضي وقتها في التنقل بين بيوت الأغنياء لكي تغسل وتكوي الملابس، وتنفض الغبار عن الأثاث وتمسح البلاط، وتغسل أواني المطبخ وأحيانًا تطبخ، تنظف الأفنية وتكنس الحدائق من أوراق الأشجار الجافة، وتخرج أكياس القمامة بعيدًا عن البيت، قرب أحدة أعمدة كهرباء الحي، حيث ستأتي شاحنة النفايات لجمعها.

ومن أجل مراعاة تعبهما، وبفضل الإيمان الذي زرعه والدي في روحي، تفوقتُ في دراستي مرحلة بعد مرحلة بدون عناء، ودخلت الثانوية بتفوقٍ، إلى أن اقتربت من مرحلة أجتاز امتحان الشهادة، فكرستُ وقتي وجهدي لكي أحصل على المجموع المؤهل لدخول كلية الاقتصاد، أملًا في الحصول على منحة دراسية بعد التخرج تمكنني من دراسة الماجستير في الاقتصاد والعلوم السياسية بإحدى الجامعات البريطانية أو الأمريكية. لكنني لم أكد انتهي من امتحان الثانوية، حتى أجبرنا على التوجّه إلى الجنوب، بعد إعلان نتيجة استفتاء حق تقرير المصير للجنوبيين بترجيح كفة الانفصال عن الوحدة بنسبة 95 في المائة. وبدل أن أشارك الجنوبيين فرحتهم، حزنتُ حزنًا شديدًا وبكيت بحرقة ألمًا على مفارقة صديقتي والمكان الذي نشأت فيه، من أجل التوجه إلى أرضٍ مجهولة. ولما تمردتُ وأبديتُ رفضي مرافقة أهلي إلى الجنوب بحجة مستقبلي، توسلني والدي وأقنعني بأن بإمكاني تحقيق أحلامي في أي مكان. ولكيْ لا أكسر خاطره رضختُ واستبدلت حلم دخول جامعة الخرطوم بدخول جامعة "بحر الغزال" الكائنة في مدينة "واو"، على بعد حوالي 270 كيلومترا من منطقتنا التي نزلنا فيها، وعلى أكثر من 1200 كيلو متر جنوب العاصمة الخرطوم.

لكن لمّا رأت أمّي في أحلامي خطرًا على حياتي، تعمدت ملئي بالخوف من الذهاب إلى مدينة "وَاوْ"، وتفننت في سرد قصص خرافية سمعتها من نساء الحي عن وجود أقوام من أعرابٍ فاتحي لون البشرةِ يُسمون بـ"الدُّور" يكرهون الجنوبيين ويقتلونهم إن فشلوا في طردهم من المدينة. ولما لاحظت عنادي وتمسكي برأيي ، لجأت لاستخدام وسائل الابتزاز العاطفي، فبكت وناحت قبل أن تتوسلني حتى لا أتركها تُفجع بمقتلي. ولما ضعفتْ مقاومتي أمام وسائل ضغطها عليّ، تنهدتُ بانهزام وعدتها بإعادة النظر في مواصلة تعليمي. في هذه اللحظة، تدخل والدي، لما أحس أن زوجته قد بالغت في تصوير مخاوفها لتثنيني عن مشروع دراستي، ووعدها بأن يرافقني إلى مدينة "وَاوْ" ويبحث له هناك عن عملٍ يبقيه بجانبي، بمجرد أن تنتهي مراسم تزويج أختي، المخطوبة لأحد أبناء قرية "مَرْيال أشاك".

لكن هيهات هيهات. فقد غير اندلاع الحرب الأهلية مسار جميع الخطط.

فلم يمر أسبوع من زواج أختي حتى شن متمردون من قبيلة "النِّوير" هجمات على منطقتنا، قُتِل فيها والدي لأفقد بموته، ليس فقط فرصة التحاقي بالجامعة، ولكن أيضًا جميع معاني الأمان والسند والإيمان بنفسي.

وانغمستُ طويلًا في حزني عليه، قبل يصحو الصوت الداخلي، بانتهاء العام الثاني من الحداد، ليذكرني بوعدي له أن أصبح سيدة لها شأن.

وازداد علو الصوت الداخلي بعد تعرض قرية "مريال أشاك" إلى هجمات من قبيلة المسيرية، مات فيها زوج أختي الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر أن يأتي ويقوم بذبح شاه أمام بيت والديها، كما اقتضت العادة، ليستطيع أخذها معه من جديد، بعد أن أكملت عامًا بعد إنجاب ابنهما الأول. فأُصبتُ بالاكتئاب لرؤية أختي تبكي ليل نهار حزنًا على زوجها، وتتمسح كل يومٍ بالرماد، رمزًا لحداد المرأة المتوفى عنها زوجها كما اقتضت واحدة من عادات قبيلة الدينكا التي اكتشفتها بعد مجيئي إلى جنوب السودان، كعادة تكسيرِ الأسنانِ الأمامية من أجل إكساب الفم جمالًا، وعادة زواج الأخ بأرملة أخيه، وعادة تشليخ الجبهة لإكساب الرجولة، وأن غير المُشَلَّخ يعتبر صبيًا مراهقًا مهما بلغ من العمر.

وهكذا عقدتُ العزم على التوجه بمفردي للخرطوم، ليس فقط تتبعًا لهمسات الصوت بداخلي لتحقيق ذاتي، ولكن أيضًا هربًا من مشاعر التأنيب من العجز على مساعدة هؤلاء النسوة الوافدات إلى قريتنا: أرامل شابات كُتب عليهن تربية أبنائهن بمفردهن، فربطن الأحزمة حول بطونهن الجائعة، وتوجهن بشجاعة وهمة الهمة للعمل في الحقول وفي رعي الماشية لتوفير الطعام لتلك الأفواه الشرهة والبطون الجائعة، وتقبلن مصائرهن بصبرٍ وجلدٍ. لكنهن وقفن عاجزات أمام موت أطفالهن الذين كان الموت يتخطَّفهم واحدًا تلو الآخر بسبب تفشي امراض وبائية منها الجدري والحصبة والملاريا.

****

ظل صوت الفنان "سيد خليفة" يصدح من مسجل العربة، ويتعالى برفقته غناء المسافرين الفرحين بعودتهم إلى الخرطوم:

" يا الخرطوم يا العندي جمالك،،،جنة رضوان،
طول عمري ما شفت مثالك،،،،في أي مكان".

وبينما قرص الشمس البرتقالي يتوارى خلف الأفق، وصلنا إلى محطتنا النهائية، لتتعالى زغاريد النساء والرجال على حدٍّ سواء.

وما أن توقفت المركبة، حتى ترجلت وخريت ساجدة على الأرض، شكرًا على نعمة استنشاق رائحة تراب الخرطوم من جديد، رغم أن شعيرة السجود ليست من شعائرنا الدينية.

اقتربت مني فتاة عشرينية من بنات الخرطوم، يبدو أنها عائدة من الجامعة بعد يوم دراسي طويل، وأمسكتني من كتفي ثم أنهضتني وهي تسأل عن الخطب بذعر. رعتُ نحوها عيني الغائمتين بدموع التأثر، ثم أخبرتها من بين عبراتي بفرحي بالعودة إلى الشمال، فتنهدت قائلة: "حمد الله ع السلامة"، ثم انصرفت لحال سبيلها. بنظرة امتنان شيعتها إلى إن اختفت، ثم توجهتُ لموقف المواصلات المتّجهة إلى سوق ليبيا في أم درمان، حيث يسكن خالي.

وقبل صعودي على الباص الأخضر الكبير المسمى بـ"باص الوالي"، وتجنبًا لحدوث مشاكل أمام الركاب عند مطالبته بثمن التذكرة، أخبرت الكُمْساري (شابٌ قصيرٌ ذو أسنان عريضة شديدة الاصفرار كادت توصمه ببعض الدمامة لولا ابتسامته المتفائلة) بعدم امتلاكي لأي نقود، فمسحني بنظرة فاحصة ثم سمح لي بالركوب دون أن يقول شيئًا، قبل أن يواصل مناداته: " ليبيا، ليبيا".

فتقدمتُ بحماسٍ ثم اتخذتُ المقعد الأمامي على يمين السائق. لكن للأسف، كان الليل قد أرخى سدوله على المدينة، فتعذر تحقيق نيتي باكتشاف ما آلت إليه الخرطوم في غيابي هذه الست سنوات. فأغمضت عينيّ لأريحهما من شدة أضواء السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس، فقادني ظلامها إلى تساؤلاتٍ كيف سأجد صديقة عمري، ثم إلى ذكريات أحد حواراتنا القديمة يوم أخبرتها برغبتي في الدّراسة، ثم بابتسامتها الواثقة وهي تستشهد بمقولة الدكتور عبد الله الطيب "العلمُ أدابٌ وما سِواها حرفٌ ومهنٌ" لكي تقنعني بأن أشاركها دراسة الآداب لكي نواصل جلوسنا جنبًا إلى جنب في مدرجات الجامعة، ثم بملاحها الحزينة عندما أكدت لها بحزمٍ تمكسي بتحقيق حلم والدي ودخول كلية الاقتصاد.

تنفست الصعداء لطرد حسرة إضاعتي رقم هاتف صديقتي، التي ربما كانت تنتظرني الآن لتستقبلني بحفاوة العائد من الغربة. فبعد انتقالنا إلى الجنوب بشهرٍ واحدٍ، فقدت جميع الاتصالات بكل معارفي في الخرطوم، بعد سرقة هاتفي النقال في عملية سطو ليلية.

أفقت من حسرتي وأنا أحاول تفادى الاصطدام بزجاج الباص الأمامي، إثر توقف الباص المفاجئ. في البداية ظننتها ضغطة طارئة من قدم الساق على كابح الفرامل لتفادي خطرٍ في الطريق، لكن مع التفاتتي نحوه وملاحظة مثابرته لكي يعيد أدارة الماكينة، بتكرار أدارة المفتاح، فهمت أن في الأمر مشكلة أو عطلاً فنيّا ، وتشاءمت.

تطوعت مجموعة من الشباب بالنزول لدفع الباص من الخلف، ونفذوا تعليمات السائق بدقّةٍ، فأصدر "باص الوالي" حشرجة مزعجة قبل أن ينطلق وسط طريق زراعي، لم أحتج للنظر خارج النافذة لكي أتبين معالمه، بعد أن أخبرتني رائحة روث الأبقار أننا نخترق منطقة "حِلَّة كوكو"، حيث أكبر مزارع الماشية لإنتاج وتصنيع الألبان في ولاية الخرطوم.

لكن لم تمضِ سوى عشر دقائق، حتى ترنح الباص مرة أخرى أثناء مرورنا بجوار السفارة الألمانية ثم من محطة "كافوري" قبل أن يتوقف تمامًا عند محطة "كُوبَر". عندها طلب السائق من جميع الركاب إخلاء المركبة، فترجلتُ على مضضٍ أصارع تفاقم شعوري بالتشاؤم عند تذكر ما حدث لنا البارحة في الطريق بين مدينتي المُجْلَد والفولة.

مرت لحظات نسيت فيها نفسي وأنا أستعيد معاناتي البارحة، بعد أن أوصلنا سائق البوكس إلى مدينة "المُجْلَد"، مع لسعات البعوض وطنينه المزعج، وقساوة الأرض والأرق وأنا افتش في ذاكرتي على رقم هاتف خالي المقيم في أم درمان، الذي كان قد رفض ترك تجارته الناجحة في الخرطوم من أجل المخاطرة بمستقبلٍ مجهول في الجنوب، والذي لولا اتصالي به لما تمكنت من الصعود على متن المركبة الوحيدة المتجهة للخرطوم في صباح الغد، بعد أن رفض سائقها أي مقايضةٍ متمسكًا برأيه في الدفع المقدم نقدًا أو بتحويل ثمن التذكرة رصيد لكروت شحن في هاتفه كما أنقذني خالي.

أعادني إلى الواقع تضجر الواقفين بجواري، عندما طالت فترة الانتظار لوصول مركبة أخرى تقلنا إلى أم درمان، فتابعت وجوهم المتعبة بيأسٍ كاد يتسرب إلى أعماقي، لولا انفضاضهم عني بمجرد لوحان طيف حافلة "هايِس" في الأفق، تدافعوا نحوها راكضين وملأوها إلى آخرها في لمح البصر. بذهولٍ تابعت البقية التي لم تجد مكانًا داخل الحافلة "الهايس"، وتعجّبت من سرعة هرولتهم في أثرها، ناحية سجن كُوبَر وكأنهم قرروا مسابقتها في الوصول إلى محطة بَحْرِي الوسطى، لكي يبحثوا عن مركبة تقلهم إلى أم درمان.

ومع اختفائهم جميعًا وجدت نفسي أقف وحيدة كشجرة في مهب الريح، فأخذت أتلهى عن شعور الجوع بالتلفت حولي حتى لمحت كلابًا ضالة تنبشُ في قمامةٍ على بعد أمتارٍ، فتساءلت إن كنت سأجد ما يمكن أكله لو زاحمتها. وازداد تقلص معدتي مع تخيل إيجاد بقية ساندويتش شاورمة بالحمص والشطة الخضراء، لكنني طردت الفكرة بسرعة عندما لمعت لي أنيابها في الظلام، فأخذت نفسًا عميقًا لفح دواخلي بسخونة هواءِ شهر أبريل، ثم ضغطتُ بيدي على بطني لكي أُخففَ من حدةِ الجوع، ثم أغمضت عيني وأخفيت وجهي بين راحتي يديَّ ودعوت "نياليك" الإله الأعظم أن يجعل لي مخرجًا.

وعندما فتحتمهما وجدت سيدةً خمسينية تتقدم نحوي بصحبة طفلٍ في الخامسة يبدو أنه حفيدها، يترنحُ من النعاس، تجرُّه من يده الصغيرة بيمينها بينما تحمل بيسراها كيسًا مملوءًا بالخبز. ألقيت عليها تحية سريعة ثم طلبتُ منها صدقة، فأعطتني رغيفًا دون أن تقول شيئًا، فسرحتُ طويلًا في ثوبها المشجر بأوراقٍ خضراء وبرتقالية، ذكرني بأحد ثياب والدة صديقة طفولتي، فرجعت أتساءل كيف سأتمكن من العثور على صديقة عمري، إذا ما ذهبت إلى بيتهم في "شَمْبات الحِلَّة" ووجدت أنهم قد رحلوا.

ولما أفقتُ من شرودي لأشكر السيدة، كانت قد ابتعدت مهرولة وكأنها تخشى أن يسقط حفيدها نائمًا فتضطر لحمله، فانقضضتُ على الرغيف والتهمته بنهمٍ لم ينجح في سد جوعي، فعاودتني فكرة مزاحمة الكلاب، فطردتُها بسرعة، ليس فقط خوفًا من أن تهاجمني تلك الحيوانات الضالة، وإنما حياءً من أن يلاحظني السائق والكُمْساري المنبطحان على ظهورهما تحت الباص المتعطل.

تقدمت ببطءٍ أتقصى رائحة الخميرة التي تملأ الأجواء، وسرتُ بمحاذاة الطريق الذي جاءت منه المرأة أملًا في العثور على ذلك الفرن البديع الذي باعها ذاك الخبز اللذيذ، فوجدته بسهولة يلاصق سينما كُوبَر من الناحية الشمالية، فتقدمتُ بترددٍ نحو البائع الشاب ذي سحنة أبناء منطقة الجزيرة، ثم تسمرت أتأمله بخوفٍ واتساءل إن كان من الذين يتصدقون ويحسنون الصدقة أم من أولئك الذين ينهرون السائل، فبدا لي طيبًا، فواصلتُ تأمله وتخيلت أن اسمه جبريل، وبأنه يجيد أداء أغنية "في الفجرية طالِع ،،،بيزْرَع في المَزارِع"، وبأن والده مزارعٌ يمتلك حقولًا شاسعة من القطن والسمسم في أرض البطانة.

فتشجعت وأخذت نفسًا عميقًا وأنا أتقدم لأقف في الصف وراء رجلٍ بدين، فأطل وجه جبريل ليسألني عن طلبي، فابتسمت له وقلتُ بأنني لست مستعجلة، فأكمل محاسبة الرجل البدين الذي انصرف محملًا بأكياس رغيفٍ وبسكويت شاي بالسمسم ومعجنات بالجبن، أسرع في وضعها داخل سيارته الـ "توسان" بجوار ثلاثة أطفال يتقافزون كالقرود.

تقدمتُ ببطءٍ، وكما فعلتُ مع الكُمْساري في موقف الحافلات بـ"الحاج يوسف"، أخبرتُ جبريل بأنني لا أمتلك نقودًا، ثم طلبتُ منه بصوتٍ منكسرٍ أن يعطيني رغيفًا أَسُدُّ بها به جوعي، فحدجني بنظرة عطفٍ ثم أسرع يلتقط رغيفين ساخنيْن من صينية خارجةٍ للتو من الفرن قبل أن يمدهما لي ويقول: "تفضلي يا بنت العم"!، فجعلت كلمة "بنت العم" الدموع تتسابق إلى مقلتي، بينما روحي تستشعر الحسرة على أيام التعايش التي عشناها في الخرطوم في جوار الشماليين الذين طلبنا الانفصال عنهم، لنذهب الى الجنوب ليقاتلنا أبناء عمومتنا الذين مزقونا تمزيقًا منذ اندلاع الحرب الأهلية نهاية عام 2013.

وقفت أطالع البائع بامتنان وذهولٍ وغصة بلعتها بصعوبة لأشكره على كرمه وتضامنه، فابتسم وقال: "العفو يا بنت العم" ثم احتفى في الداخل، فأدرتُ ظهري وأسرعتُ في التهام الخبز الحار بنهمٍ أشبعني هذه المرة، ثم توجهت ناحية الشارع الرئيسي لمعاودة الوقوف في انتظار مجيء مركبة توصلني إلى بيت خالي في أم درمان. لكنني لم أتقدم خطوة حتى سمعت صوتًا انثويًا يناديني باسمي:

- نِيَانْدِينْق !

فالتفتُ ثم تسمرت مكاني كمن مسه ماس كهربائي، ثم دون أن أصدق أنها هي بوجهها الصبوح الباسم، وبقامتها المربوعة الممتلئة وطلتها البهية وبغمازتها التي تحفر عميقًا في خديها عندما تضحك. فركتُ عينيّ، وعدت أتفرس فيها، وعندما تأكدت أنها عزة، صديقة طفولتي ومراهقتي، جريت نجوها فتلقتني بذراعين مفتوحين.

في ذلك المساء، رافقت عزة إلى بيتها في حي كافوري، وقضيت الليل بطوله استمتع لأخبارها: كيف تخرجت من كلية الآداب جامعة الخرطوم بمرتبة الشرف، وكيف تزوجت من ابن خالتها الذي كانت تبادله الرسائل الغرامية أيام دراستنا في الصف الثالث الثانوي "حَجَّاز" بمدرسة بَحْرِي القديمة الثانوية بنات، ثم عن وظيفتها المنظمة، ثم كيف أصبح زوجها الشاب الحالم، الذي أمطرها بأشعارِ نزار قباني وفاروق جويدة، رجلَ أعمالٍ ناجحًا في مجالِ الاستيراد والتصدير، قبل أن تؤكد لي بأنه سيتغيب عن البيت لمدة ثلاثة أسابيع في مهمّة عمل في سنغافورة، لكي تقنعني ألا مجال لي إلا أن ابقى معها.

ولما جاء دوري في الحكي، أصغت إلى عزة بكل حواسها لتسمع تفاصيل سلسلة حسراتي: موت والدي وضياع حلمي في مواصلة التعليم وترمل أختي وإصرار أمي على البقاء بجوار والدتها المسنة ومأساة الجنوب من حروبٍ واغتصاباتٍ وموتٍ وفقرٍ ومجاعاتٍ وأمراضٍ وأوبئةٍ ومعاناة تحقيق حلم العودة إلى الشمال.

وظلت تتلهى عن دموع تأثرها بحكاياتي باحتضان الوسادة تارةً، وتارة بالتلاعب بخصلات شعرها الغزير، ولم تسترخِ ملامحها إلا عندما قصصتُ عليها ما سمعته في سوق أمْيَتْ، السوق الذي أُسس بعد الانفصال بعامٍ واحدٍ، وفق اتفاق شعبي بين الرعاة من قبيلة المسيرية وعشائر الدِّينْكا، على أن تقوم بالإشراف على أمنه لجانٌ شعبيةٌ من الدولتين بالإضافة إلى قوات اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة في منطقة أبْيَيِ.

وضعت عزة الوسادة وعقدت يديها أمام صدرها الناهد، وكشفت عن معرفتها بهذا السوق، ثم اضافت بأنه ليس مجرد سوق عادي يتم فيه تبادل السلع التجارية وانما جسرٌ للتواصل الاجتماعي وللتبادل التجاري للثروات الطبيعية بين البلدين مثل الماشية وثروات الغابات، إذ في كل صباحٍ، تُقبِل عليه السيارات الفارغة من مختلف ولايات جنوب السودان في الوقت الذي تكون وصلت فيه شاحناتٌ أخرى محملةً بالبضائع والسلع من أقاصي دولة السودان، لتُخلق بذلك شعلةٌ من النشاط والتبادل التجاري حتى يخيل للرائي أنه داخل خلية نحل.

فرحت لإلمامها بأخبار أحد الأمكنة التي مررت بها، ثم قصصت لها الحوار الذي سمعته، أثناء تناولي لطبق عصيدة بزيت السمسم ابتعته من سيدة بدينة تبيع طعامًا رخيصًا، بين أثنين من سائقي الشاحنات التجارية: أبدى الأول قلقه من انطفاء شعلة سوق أميت بسبب عدم استقرار الأوضاع الأمنية، ثم اشتكى من حالة التدهور التي ضربت السوق بسبب ارتفاع الأسعار نتيجة توقف وصول البضائع من منطقة المُجْلَد بغرب كُرْدُفان، فطمأنه الثاني بعد أن بلع لقمته بأن المشكلة ستُحل قريبًا بوصول البضائع الأسبوع القادم، إذا ما نجحت محاولات لجنة السلام بين المسيرية الدِّينْكا نقوك، فرد عليه الأول باستياءٍ، وهو يضع لقمة كبيرة في فمه شبه الخالي من الأسنان، بأن تلك المشكلة إذا لم تُحل بأقرب وقت سيهلك الأطفال بسبب المجاعة المتفاقمة يومًا بعد يومٍ في ولايات جنوب أبْيَيْ الثلاث (واراب وشمال بحر الغزال والوحدة)، فبلع الثاني لقمة أخرى، وقال بثقةٍ بأن ذلك التأخير الناتج عن ترتيبات إدارية بين التجار والسُلطات في مدينة المُجْلَد، على وشك الانتهاء.

توقفتُ لالتقاط أنفاسي، فوضعت عزة يدها على ركبتي، لتخفف من قلقي، وقالت مطمئنة إنّ تلك المشاكل لا بدّ من أن تحلّ سريعًا قبل أن يموت الأطفال من المجاعة وسوء التغذية، قبل أن تنهض من مكانها لتدخل المطبخ وتعود بكوب ماءٍ، مدته لي ثم حثني على مواصلة الحكي. فمازحتها: أتظنيني شهرزاد؟ فمنحتني ابتسامة ونظرة حبٍ وأجابت: نعم، فامتثلت الطاعة: "حاضر يا مولاي شهريار"، فضحكت وعانقتني ثم أخذت الوسادة واحتضتنها من جديد لتستمع لتفاصيل رحلتي من رُومامير إلى الخرطوم: بعد توديعي لأمي على أطراف منطقة "رُومامير" سرتُ مجموعة أميال في طرقٍ وعرة مملوءة بالأشواك أدمت قدميّ قبل أن أصل إلى أنْيِت، أقرب منطقة توجد بها مركبات تذهب إلى مدينة "أبْيَيْ". وفي أبْيَيْ كنت أنوي زيارة شجرة "أشوري أياك"، الشجرة الظليلة التي كان يجلس تحتها في الماضي، سلاطين الدِّينْكا نقوك ببطونهم التسعة لكي يناقشوا قضاياهم، لكن عندما أخبروني ببعدها كثيرًا عن سوق أمْيّتْ، انتابني خوفٌ من إضاعة المركبة الذاهبة إلى مدينة المُجْلَد، حيث موقف الحافلات المتجهة إلى الخرطوم.

قاطعتني عزة ووعدتني أنها ستصحبني في يومٍ من الأيام إلى "أبْيَيْ"، لنزور سويًا شجرة "أشوري أياك"، فابتسمت لها، ورجوتها أن نذهب لننام، فوافقت قائلة: ولكن للحديث بقية.

في الثلاثة أيام التي قضيتها مع عزة، كانت تذهب لعملها وتتركني نائمة، وتعود في المساء وتجدني ما أزال نائمة وكأن جسدي المرهق لم يكد يصدق إيجاد فرصة لنسيان تفاصيل تلك الثماني والأربعين ساعة التي قضيتها في الطريق بين رُومامير والخرطوم، وكانت أوقات تناولنا الطعام فرصتنا الوحيدة لتبادل الحديث، فكنت أعود كثيرًا لتفاصيل مأساة النساء هناك، وأبدي أمنيتي لو أستطيع مساعدتهن، فكانت تستمع لي دون أن تخبرني بأنها على علمٍ بكل تلك التفاصيل، ودون أن تكشف لي نيتها. .

وفي اليوم الرابع عندما أخبرتها برغبتي الذهاب لخالي، قالت إنها سترافقني بسيارتها لكي تسلِّم عليه بدورها ثم تصحبني لكي تريني مكان عملها في حي "المنشية"، فعلمت أنها لا تريد مفارقتي وأن فكرة رؤية مكان عملها ماهي إلا حجة لكي أعود معها إلى البيت، فأبديتُ حاجتي للبقاء مع خالي عدة أيام لأنسق معه طريقة إيجاد عمل أعيش منه، فمسحت على ذراعي بحنانٍ وقالت بنبرة واثقة أن العمل الذي أبحث عنه ينتظرني منذ يومين، فطالعتها بدهشة، وتساءلت إن كانت قد قررت إقالة خادمتها الحبشية لتوكلني مهام بيتها الكبير وحديقته الفسيحة، أم أن إحدى جاراتها تبحث عن مديرة منزل فاختارت أن تقدمني لها. إذ لم أكن أتخيل لنفسي عملًا غير عمل أمي في الماضي.

فتفرستُ في وجهها بفضولٍ، فبدأت بشرح طبيعة عملها في المنظمة التي تستقبل يوميًا عشراتٍ من النازحين الجنوبيين الهاربين من مناطق الصراع والحروب والمجاعات، ثم توقفت برهة وابتسمت قبل أن تفصح بأنها تحدثت مع مديرها قبل يومين وحكت له عني فوافق على الفور بأن أباشر عملي معهم، ابتداءً من الأسبوع القادم، في الوظيفة الشاغرة التي يبحثون لها منذ أشهرٍ لمترجمةٍ تشغلها بشرط أن تكون أنثى تفهم لغة الدِّينْكا وتجيد اللغة العربية أو الإنجليزية. فألجمتني المفاجأة، فضغطت على ذراعي لتشجعني وتبدي ثقتها في قدرتي لفهم ونقل كلام اللاجئات الجنوبيات اللاتي يحتجن الكثير من الدعم النفسي بسبب العنف الجسدي والاضطهاد الجنسي الذي تعرضن له أثناء الحرب الأهلية التي كانت سببًا في نزوحهن إلى الشمال.

ذلك المساء بكيتُ طويلًا وشكرًا وامتنانًا للأقدار، وتذكرت والدي وترحمت على روحه، وأنا أستحضر إيمانه بيّ الذي أيقظ الصوت في داخلي، وأعاني على هزيمة مخاوفي إلى أن نجحت في العودة إلى الخرطوم لكي أحقق أحلامي.

وبعد مرور ثلاثة سنوات، حققت حلمي وحلم والدي وحصلتُ على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة السودان المفتوحة بالانتساب، لحرصي المحافظة على وظيفتي في المنظمة التي كنت أتنقل بين مقرها الرئيسي في حي المنشية بالخرطوم وبين فروعها الأخرى في العاصمة المثلثة لإجراء الترجمة الفورية للاجئات.

واستجيب لدعائي، فبعد أن رأيت الحب والانسجام بين عزَّة وزوجها رغم أنهما لم يزرقا بأطفال، أن أُرزق بشخصٍ رومانسي يحبني لشخصي ويدعمني في مشوار حياتي، كزوج عزة، وأن يكون جنوبيًا متسامحًا يشاركني السعي لنشر الوعي والسلام بين الجنوبيين، ويكون مثقفًا يحب القراءة فأتناقش معه حول (صراع الرؤى، دينكا السودان، رجلٌ يُدعى دينق مجوك، دينامية الهوية، وطائر الشؤم) وغيرها من مؤلفات فرنسيس دينق.

وتحقق حلمي الثالث، ورأيتُ أمي، فعندما اتصلتُ بها لأخبرها بمشروع زواجي من شُولْ، أخبرتني بقرارها العودة إلى الشمال، برفقة أختي وابنها، بعد أن نفذت وصية أمها ودفتها بجوار عشيرتها.

ورغم أنني كنت حاملًا في الشهر الثامن، إلا أنني أصررت على المشاركة في يوم الفرح، واصطحبتُ أمي إلى وسط الخرطوم لكي ترى بأم عينها أعداد الجنوبين الذين عادوا إلى الشمال، لتكف عن التغني بخيرات الجنوب وممتلكاتها التي تركتها وراءها. فرأت، وشاهدت، وتفرست وعقدت حاجبيها دهشة، وبكت بحرارة، وعبرت عن فرحها كالبقية بالهتافات والزغاريد، احتفالًا بفرح السودان الكبير بعد توقيع الوثيقة الدستورية للدولة المدنية، ثم صلت مع المصلين لأن يعم السلام جميع أرجاء الوطن في الشمال وفي الجنوب، ثم قاومت قبل أن تهزم ضغينتها بصعوبة لترضخ لإلحاحي، وتستجيب للأيادي الممدودة لها من رجال ونساء منحدرين من قبيلة النوير، ابتدأوها بالسلام. واتسعت دائرة السلام لينضم إلينا جنوبيون آخرون من مختلف القبائل (دينكا ونوير وشلك وأنواك وزاندي)، فكنتُ حلقة الوصل بين الجميع، الذين لبوا دعوتي لهم، فتصافحوا وتعاهدوا على السلام وفتح صفحة جديدة خالية من الأحقاد والنعرات القبلية والرغبة في إزالة الآخر، صفحة يوضع فيها السلاح أرضًا، وتُرفع بدله ألويةٌ بيضاءُ تُكتب عليها "سلمية، سلمية".

وبينما الجميع يتقاسمون الفرح والسلام، كنت أستعيد لحظاتي الأولى عند عودتي إلى العاصمة قبل ثلاثِ سنوات، لتتجاوزني نفس القشعريرة التي أحسست بها ذلك اليوم عند سماع كلمات سيد خليفة " أنا هنا شبيت يا وطني"، فانهمرت دموعي بغزارة شكرًا للإله الأعظم الذي استجاب لصلواتي، وشوقًا وامتنانًا لوالدي، فأغمضتُ عيني، لأترحم بخشوعٍ على روحه، وأشكر ه في داخلي على ثقته بي، ولأخبره أن نبوءته بمستقبلي قد تحققت.

**-**

باريس 21 سبتمبر 2020



أعلى