هبط "الثو:ار" في جنباتها،في بيت يلاصق بيتها،شعرت بهم منذ سمعت لجلجة أصواتهم،أطلت من شرفة منزلها المتواضع،رأتهم،ثلة من الشباب في مقتبل العمر يحملون البنادق على أكتافهم،يتمازحون،يتحدثون،يعبئون أمشاط الذخيرة،يصوبون...أغلبهم اطلق لشعر ذقنه العنان بشكل مهذب...لباسهم الانيق أسود...وجعبهم المليئة معنونة بالشعارات،،فتية كالورد،صهيل ضحكاتهم يقهر الموت...شعرت بشيء من الحسرة وقالت:-
كان الله في عون أُمهاتكم...
عادت إلى مطبخها الصغير...تذكرت أن بعضهم غرباء عن الحيّ...قد يكونوا جوعى...لا بد من إعداد الطعام لهم ...
نادت ولدها محمد ... فجاء...فقالت له :-
اذهب إلى حيث يتجمع الشباب وتعرَّف ما اذا تناولوا طعام الغداء ام لا،وإياك أن يشعر بك أحد
سألها الابن :- وماذا ستفعلين؟؟
قالت :- نقدم الواجب... بعضهم غرباء... وهم في منازلنا وحيينا
فقال محمد:- إذا قولي لي من الان ...ما هو الناقص حتى أحضره معي من السوق بعد السؤال...
قالت : "بروا عليك"...
وشرعت تتفقد حواضر المنزل وتلقنه ما تريد ...
***
حمل محمد الانية الاولى،وخرج نحوهم،تبعه شقيقه أحمد بالانية الثانية،فلم تصبر أن يعودا ليحملا باقي الطعام،فحملت آنية الحساء والخضار واللبن والخبز والمشروبات الغازية،وخرجت خلفهم إلى حيث وسط الشارع حيث ارادوا...لقد نصبوا لأنفسهم إحدى الطوائل...واختاروا أن يتناولوا الطعام في الهواء الطلق...
رأوها... فيحوها...وأكثروا الثناء... فسُرَّ قلبها...وشعرت أنها ملكت العالم ...
وقالت :- "الف صحة وهنا... ربنا يحماكم"
شيئا فشيئا،أصبحت تعرفهم وتعرف أسمائهم ومنابتهم،فحبل الكرم والعطاء تواصل وتوسع معهم في الوجبات الثلاث وما بينما من قهوة وشاي وحليب وعصائر وحلويات ومعجنات...أصبحت الام التي يفتقدونها...والتي تعوضهم حنان أُمهاتهم...تحس بهم بأوجاعهم...بقلقهم ...بإصرارهم... بتحفزهم للشهادة ...تخاف عليهم وتتفقد غياب ايّ منهم...
تعاتبهم...توبخهم بالعشم...تمازحهم،تصرخ عليهم ...فيضحكون...تترضى عليهم...يلمع في عينيها القلق الشديد عليهم
كانت وما زالت تتقن إدخال الكلام على الكلام،وهم فرحون بها،فجلساتها تشترى ولا تفوت،وإحساسها ونخوتها الحاضرة كلَّ حين لا تموت...
ذات مرة سمعت أحدهم وهو يعبر عن شوقه لطبخة " علت "...ومن شدة وقع تلك الرغبة على ذلك الشاب...قررت صعود الجبل،والبحث عن نبتة العلت" وإحضار ضمة منها....صعدت الجبل رغم أوجاعها وصعوبة سيرها وقد قاربت الستين من العمر،لكنها فاجأت ذلك المشتاق بآنية العلك الساخنة ومن فوقها رغيفين من الخبر وقالت له :-
"صحتين وهنا "
فارتبك الشاب وهَمَّ بتقبيل يدها...لكنها امتنعت...
لم يمر على أحمد خلوف إلا أياما قليلة في المخيّم،فقد هجر بيته وأولاده الثلاثة وزوجه وعائلته وجاء ليجاهد في المخيّم ... آلمها ما سمعت عنه... وكاد قلبها ينفطر وهو يريها صور اولاده الثلاثة ...قالت له :-
كيف تطيق أن تبتعد عن أطفالك وبيتك ؟؟ ألا تخشى أن يفقدوك لا سمح الله ؟؟
رد أحمد بعد أن أزاح وجهه وصمت لبعض الوقت :- أه يا خالتي...والله ما خرجت الا من أجلهم ...من أجل أن يعيشوا حياة الكرماء الاباءة بعيدا عن ذل الاحتلال...وإذا قضيت،فهو قدر الله وقضاءه،وهو أرحم مني بهم...
قالت له بعد أن لم تستطع تحمل ما يقول :- اسكت...اسكت... لا تكمل...
***
في السابع من شهر اللوز،كان أحمد قد تعود بسرعة عليها فتمنى عليها أن يكون عشائهم (طراف )فقررت التحضير لوجبة العشاء...وبدأت مبكرا من بعد صلاة الظهر...لكن الاعداء انسابوا بسرعة إلى الحي فحاصروا الهدف الذي أوجعهم...فما كان من طارق وأحمد وغيرهم إلا الالتحام في تلك الواقعة العنيفة،في اللحظات الاولى ظنوا أن الهجوم يستهدفهم فوثبوا... واسرعوا نزولا لملاقاتهم...أحمد تأخر في الانسياب...غطى بصلياته التفاف نضال ومن معه،ولم يعلم أن البيت المقابل له مزروع بالموت،جاءته الرصاصة في الصدر،فارتقى،طارق نجح في الدخول الى البيت الثاني،لكنه عندما سمع باستشهاد أحمد فقرر الخروج اليهم وقتالهم وجها لوجه،لم يكن بباله ان الزنانات تترصده وتعطي تحركاته للقناصة،فما أن فتح الباب حتى نالته الرصاصات الغادرة في الرأس...ارتقى احمد...وارتقى طارق ...وارتقى قبلهم زياد و أبو علي ومعتصم وكان آخرهم الهدف الكبير عبد الفتاح ...
فبكت بكاء مراً و طويلا...بكت حتى كادت أن تتمزق روحها،فلم تكن تتحمل أن تذرف الدموع وحدها في بيتها،بل كانت تخرج إلى الجيران والمعارف... تسرد المواقف والطرائف... والحكايا... وتتساءل
لمن ستعد الطعام الان... ؟؟ لقد رحل اثنان منهم...ولحقوا بمن مروا قبلهم...
وقبل أن تجف دموعها،وبعد تسعة ايام التحق بهم نضال ويوسف ابناء نفس الحيّ،هذان البطلان اللذان تعرفهما الكريمة منذ كانوا اطفالا...منذ أن كانوا يأتوا لشراء الحلوى وهم أطفال من حانوت ابو العبد المقابل لمنزلها... كيف كانوا اطفالا،وكيف كبروا وأصبحوا رجالا...وكيف مضى العمر في أمهاتهم وآبائهم وهم ينتظرون شبابهم ليسعدوا به...
ذكريات تجدد الوجع...
الان في جنبات الكريمة حلَّ آخرون،فحضن المخيّم واسع حنون،والزاحفون اليه لا ينتهون،ووقود نار بيتها لا يكاد يطفأ،لكن الطعام الذي تعده الان تحرص دوما أن يكون لذيذ شهيّ بدافع اخلاصها وصفاء قلبها...ولكنّ مرارة الدمع والحسرة على من رحلوا حاضرة باقية ...
كان الله في عون أُمهاتكم...
عادت إلى مطبخها الصغير...تذكرت أن بعضهم غرباء عن الحيّ...قد يكونوا جوعى...لا بد من إعداد الطعام لهم ...
نادت ولدها محمد ... فجاء...فقالت له :-
اذهب إلى حيث يتجمع الشباب وتعرَّف ما اذا تناولوا طعام الغداء ام لا،وإياك أن يشعر بك أحد
سألها الابن :- وماذا ستفعلين؟؟
قالت :- نقدم الواجب... بعضهم غرباء... وهم في منازلنا وحيينا
فقال محمد:- إذا قولي لي من الان ...ما هو الناقص حتى أحضره معي من السوق بعد السؤال...
قالت : "بروا عليك"...
وشرعت تتفقد حواضر المنزل وتلقنه ما تريد ...
***
حمل محمد الانية الاولى،وخرج نحوهم،تبعه شقيقه أحمد بالانية الثانية،فلم تصبر أن يعودا ليحملا باقي الطعام،فحملت آنية الحساء والخضار واللبن والخبز والمشروبات الغازية،وخرجت خلفهم إلى حيث وسط الشارع حيث ارادوا...لقد نصبوا لأنفسهم إحدى الطوائل...واختاروا أن يتناولوا الطعام في الهواء الطلق...
رأوها... فيحوها...وأكثروا الثناء... فسُرَّ قلبها...وشعرت أنها ملكت العالم ...
وقالت :- "الف صحة وهنا... ربنا يحماكم"
شيئا فشيئا،أصبحت تعرفهم وتعرف أسمائهم ومنابتهم،فحبل الكرم والعطاء تواصل وتوسع معهم في الوجبات الثلاث وما بينما من قهوة وشاي وحليب وعصائر وحلويات ومعجنات...أصبحت الام التي يفتقدونها...والتي تعوضهم حنان أُمهاتهم...تحس بهم بأوجاعهم...بقلقهم ...بإصرارهم... بتحفزهم للشهادة ...تخاف عليهم وتتفقد غياب ايّ منهم...
تعاتبهم...توبخهم بالعشم...تمازحهم،تصرخ عليهم ...فيضحكون...تترضى عليهم...يلمع في عينيها القلق الشديد عليهم
كانت وما زالت تتقن إدخال الكلام على الكلام،وهم فرحون بها،فجلساتها تشترى ولا تفوت،وإحساسها ونخوتها الحاضرة كلَّ حين لا تموت...
ذات مرة سمعت أحدهم وهو يعبر عن شوقه لطبخة " علت "...ومن شدة وقع تلك الرغبة على ذلك الشاب...قررت صعود الجبل،والبحث عن نبتة العلت" وإحضار ضمة منها....صعدت الجبل رغم أوجاعها وصعوبة سيرها وقد قاربت الستين من العمر،لكنها فاجأت ذلك المشتاق بآنية العلك الساخنة ومن فوقها رغيفين من الخبر وقالت له :-
"صحتين وهنا "
فارتبك الشاب وهَمَّ بتقبيل يدها...لكنها امتنعت...
لم يمر على أحمد خلوف إلا أياما قليلة في المخيّم،فقد هجر بيته وأولاده الثلاثة وزوجه وعائلته وجاء ليجاهد في المخيّم ... آلمها ما سمعت عنه... وكاد قلبها ينفطر وهو يريها صور اولاده الثلاثة ...قالت له :-
كيف تطيق أن تبتعد عن أطفالك وبيتك ؟؟ ألا تخشى أن يفقدوك لا سمح الله ؟؟
رد أحمد بعد أن أزاح وجهه وصمت لبعض الوقت :- أه يا خالتي...والله ما خرجت الا من أجلهم ...من أجل أن يعيشوا حياة الكرماء الاباءة بعيدا عن ذل الاحتلال...وإذا قضيت،فهو قدر الله وقضاءه،وهو أرحم مني بهم...
قالت له بعد أن لم تستطع تحمل ما يقول :- اسكت...اسكت... لا تكمل...
***
في السابع من شهر اللوز،كان أحمد قد تعود بسرعة عليها فتمنى عليها أن يكون عشائهم (طراف )فقررت التحضير لوجبة العشاء...وبدأت مبكرا من بعد صلاة الظهر...لكن الاعداء انسابوا بسرعة إلى الحي فحاصروا الهدف الذي أوجعهم...فما كان من طارق وأحمد وغيرهم إلا الالتحام في تلك الواقعة العنيفة،في اللحظات الاولى ظنوا أن الهجوم يستهدفهم فوثبوا... واسرعوا نزولا لملاقاتهم...أحمد تأخر في الانسياب...غطى بصلياته التفاف نضال ومن معه،ولم يعلم أن البيت المقابل له مزروع بالموت،جاءته الرصاصة في الصدر،فارتقى،طارق نجح في الدخول الى البيت الثاني،لكنه عندما سمع باستشهاد أحمد فقرر الخروج اليهم وقتالهم وجها لوجه،لم يكن بباله ان الزنانات تترصده وتعطي تحركاته للقناصة،فما أن فتح الباب حتى نالته الرصاصات الغادرة في الرأس...ارتقى احمد...وارتقى طارق ...وارتقى قبلهم زياد و أبو علي ومعتصم وكان آخرهم الهدف الكبير عبد الفتاح ...
فبكت بكاء مراً و طويلا...بكت حتى كادت أن تتمزق روحها،فلم تكن تتحمل أن تذرف الدموع وحدها في بيتها،بل كانت تخرج إلى الجيران والمعارف... تسرد المواقف والطرائف... والحكايا... وتتساءل
لمن ستعد الطعام الان... ؟؟ لقد رحل اثنان منهم...ولحقوا بمن مروا قبلهم...
وقبل أن تجف دموعها،وبعد تسعة ايام التحق بهم نضال ويوسف ابناء نفس الحيّ،هذان البطلان اللذان تعرفهما الكريمة منذ كانوا اطفالا...منذ أن كانوا يأتوا لشراء الحلوى وهم أطفال من حانوت ابو العبد المقابل لمنزلها... كيف كانوا اطفالا،وكيف كبروا وأصبحوا رجالا...وكيف مضى العمر في أمهاتهم وآبائهم وهم ينتظرون شبابهم ليسعدوا به...
ذكريات تجدد الوجع...
الان في جنبات الكريمة حلَّ آخرون،فحضن المخيّم واسع حنون،والزاحفون اليه لا ينتهون،ووقود نار بيتها لا يكاد يطفأ،لكن الطعام الذي تعده الان تحرص دوما أن يكون لذيذ شهيّ بدافع اخلاصها وصفاء قلبها...ولكنّ مرارة الدمع والحسرة على من رحلوا حاضرة باقية ...