الشاعر والكاتب الاسير الفلسطيني كميل أبو حنيش - وطنُ الصغيرةُ تحبو على شاطئِ غزّة...

هَتفَتْ على إيقاعِ موجاتِ الأسيرْ
وقدْ تغلَّفَ صوتُها بِنعاسِ ما بعدَ الظَّهيرةْ :
أَفِرُّ من ضَجَرِ الحياةِ
والاختناقِ مِنَ الْحِصارْ
وأغذُّ سَيْرِيَ بشاطئِ البحرِ المُكَبَّلِ بالطُّغاةْ
بِرِفْقَتي وَطَنُ الصَّغيرة
فهَتَفْتُ في شَغَفٍ وَفي شوقٍ:
صِفي لِيَ البَحْرَ المُكابِرَ يا فتاةْ
أكادُ أَسْمَعُ ضَجَّةَ الأمواجِ
زقزقةَ النَّوارسْ
وَأَشُمُّ رائحَةَ النّسيمْ
راحَتْ تُحَدِّقُ مِثْلَ حالمةٍ
بِبَحرْ يَكتسي بِكآبَة الأمل المُحاصرْ
واحتمالِ ظهورِ أَدْخِنَةِ الْحُروبْ:
البحرُ أزرقُ هادئٌ
وَبِهِ نِداءٌ للرحيلِ عن الدّيارْ
وَلَقدْ مَلَلْنا من تفاصيلِ الحصارْ
وشاطئٍ يكتظُّ بالأطفالْ
قد أَضْناهم سأمُ التّرَقُّبِ
في غمارِ الانتظارْ
وطنُ الصغيرةُ أَفلتت منّي
تحفو على الرملِ المبلّل
قد تكلّلَ وجهُها بالانبهارْ
***
وَسهمْتُ منتشيًا
بما أوتيتُ من ظَمَأٍ
ومن شَغَفٍ
وَشَرَدْتُ في "وطن" الصغيرةْ
وَبِعَيْن ِقلبي رُحْتُ أَرْقُبُ
حينما تحبو البراءةُ في الرمالْ
وطنُ البريئةُ عالَمٌ
لُغْزٌ وجوديٌّ يَضِجُّ بكلِّ ألوانِ المعاني والجمالْ
وَتُواصلُ الحَبْوَ المُثابرْ
لا تُساوِرُها المتاعبُ والهواجسْ
ولا السلامَ ولا القتالْ
وكلُّ ما تحفَلُ به
أَلَقُ الجمالْ أمامَها
في الأزرقِ الممتدّ
يخفقُ في هدوءٍ
موَجّهٍ فيه المهابةُ
والجلالْ
***
في غزةَ انتصرَ الأملْ في
غزةَ انتصرَ الصّمودُ على الْحِصارْ
هذه بلادٌ لا تدومُ بها الدول ْ
كم من غَريبٍ حلّ في أرجائها
أدْمَتْ سنابِكُ خيْلِه أزْهارَها
ثمّ ارتحلْ
دأبَ الغُزاةُ -بكلّ أشكالِ الغزاةِ-
على احتلالِ ترابِها
يأتون من كلّ الجهاتْ:
فيَقتُلون ويُقتَلون
ويَصلبون ويُصلبون
ويَقصِفون ويُقصفون
يَشيدون ويَهدمون
يأتونَ من كلّ الجهاتِ
ويَرحلون
لا شيءَ يبقى مِنهُمْ
إلا الحجارةُ والطّللْ
***
يا غزةَ التكوينِ
والجوعِ المُكابِرِ
والخَنادِقْ
وبلاغةَ الشرفِ الرفيع
وصورةَ الإعجازِ في لغةِ البنادقْ
في غزةَ تَعلو الْبَيارِقْ
لن نرفعَ الراياتِ بَيضا
لن نساومْ
بل نقاومُ آخرَ الصّفقاتِ في غرفِ الفنادقْ
ونشيدُنا نَتلوه من فوقِ المشانقْ
ونواصلُ الحفرَ المقدسْ
لن نكلَّ ولن نَمَلَّ
نأتيكمُ من تحتِ هذي الأرضْ
نأتيكمُ من قلبِ هذا البحرْ
نأتيكم بِالجَوّ بالصاروخِ
والبالونْ
وبطائراتٍ من ورقْ
نأتيكمُ في صَحْوِكم
في نومِكُم
في حُلْمِكم
يا دولةً مصنوعةً
من كلِّ ألوانِ
الهواجسِ والقلقْ
يا غزةَ الشهداءْ
لا تَخْشَيْ الضّياع
أو الغرَقْ
يا غزةُ
يا سيفَ عزٍّ قد نَطَقْ
هذا الحصارُ سَيَنْدَحِرْ
هذا العدُوُ سَيَنْتَحِرْ
هذا الصّمودُ سَيَنْتَصِرْ
في كلّ مرةٍ يَنْبَحُ الأعداءُ
بصوتٍ يساورُه الأرَقْ
وَيُبَجِّجونَ سلاحَهُمْ
وَيُكَثّفونَ حصارَهمْ
وَيُواصلونَ دمارَهُمْ
وَيُسَلّطون جَحيمَهُمْ
ويَقصِفون ويُقصَفون
ويَقتُلون ويُقتَلون
وَيَأسِرون وَيُؤسَرون
وَيُنَكِّسونَ رؤوسَهم
ويغادِرون في كلِّ مرةْ:
تَنهَضُ العَنْقاءُ من وَسَطِ الرّمادْ
في كلِّ مرةْ
غزةُ لا تعرفُ السَّكَناتِ
أو طعمَ الرُّقادْ
يُلملِمون أشلاءهم
ويشيِّعونَ شُهَداءَهمْ
وَيُضَمّدون جِراحَهمْ
وَيُلَمّعونَ سلاحَهُمْ
وَيظلُّ يعلو نداءُ:
حيَّ على الجهادْ
***
هي غزةُ التكوينِ
والجرحِ المكابرْ
والرجالِ على الجيادْ
يواصلونَ حياتَهم
فَوْقَ السّروج
في البدءِ كانتْ غزة
لا أَرْضَ ميعادٍ لَدَيْنا
غيرُها
حتى نُغادِرَها
وكي نُمْلِيَ
لأنْفُسِنا الوعودَ الخُضْرْ
في سِفْرِ الخروجْ
لا ليْسَ معجزةً لديْنا
ولا عصا
حتى نَشُقَّ البحرْ
نَقْتَحِمُ اللّجوجْ
في غزةَ
ظهرتْ كبارُ المعجزاتِ
وَإلى السَّماءِ
يُواصِلُ الشهداءُ قافلةَ العروجْ
***
وطنُ الجميلةُ في الرمالْ
تواصلُ التّحليقَ في الأفُقُ البعيدْ
بِيَدِها الصغيرةِ
قبضةٌ من طينِ غزَّة
وَهِيَ الرسالةُ والبريد،ْ
ناجَتْ بِقَبْضَتِها السماءْ
ورتَّلَتْ هذا النشيدْ:
يا اللهُ
بَعْدَ فَسادِ آدَمِكَ القَديمْ
وَنَسْلِهِ
خُذْ قَبْضَةَ الطّينِ الطريَّةَ
من يَدي
واخلُقْ بهذا الطينِ
آدمَكَ الجَديدْ
***
هذا الحصارُ المستمرُّ
ولا اكتراثَ لدى العروبةْ
لا وعيدَ ولا نذيرْ
لا
لمْ يَعُدْ بطلٌ عروبيٌّ
يجرِّدُ سيفَه
وخيبرُ باتَتْ تُحاصرُ يَثرِبا
وخيبرُ باتتْ تجوِّعُ يثرِبا
ولا شفيعَ ولا نَصيرْ
وقريشُ ما فَتِئتْ
تجدِّدُ حِلفَها المَشؤومَ
في غُرَفِ الفنادِقِ
مع رجالِ بني قُرَيْظةَ والنّضيرْ
وَيُخطِّطون وَيسْكِرون
وَيُبْرِمونَ الصّفَقاتِ
في لَيْلِ العواصِمِ
والنوادي
وابتساماتِ الخيانةِ والفجورْ
سَيفتِحون لخيبرَ أرضَ الحجازْ
ويدشنونَ
دربَ التجارةِ والحريرْ
وقريشُ ترْفَعُ رايةَ الإسلامِ
في أرضِ الجزيرةْ
وَتُرَتّلُ القرآنَ
بالعبريّةِ الفُصحى
بلا جِنانٍ ولا سعيرْ
وبلا جِهادٍ ولا نفيرْ
وبلا حصانٍ ولا بعيرْ
يتلون زورًا سورةَ الإسراءْ
في كذبٍ
وفي تزويرْ:
"وسُبْحانَ الذي أسْرى
بِهذا العَبْدِ
ابنِ سَلمانَ
من مَكَّةَ إلى أَكْنافِ أورشَليمَ
وَباركْناهَ
كيْ يَمْضيَ
وَيعقِدَ آخِرَ الصّفَقاتِ
في هذا القَرْنِ
وَآتَيْنا لبنيامينَ من بركاتٍ
ويا أبناءَ إسرائيلَ
أَنتم ديدنُ الإصلاحُِ
والإعمارُ
والخيراتْ
ونحن العربُ
دَيْدَنُنا الإفْسادُ والنَّكَباتْ
أُسَلِّمُكُم هذي الأَرْضَ
كلَّ الأرضِ
والساحاتْ
سُبْحانَ الذي يَسْري ببنيامينَ
مـِن أَكنافِ أورشليم
إلى أرضٍ بها تَغْفو
حُقولُ النِّفطِ والغازاتْ"
أهلًا إذنْ
عادتْ قريشُ لِحلفِها
مع خيبرَ
وبني قُرَيْظةَ والنضيرْ
يا غزةُ
قد صِرتِ أنتِ كيثربْ
فَلتَحفري
حولَ المدينةِ خندقًا
وَلْتَستَعِدي لغزوةِ الأحزابْ
فاصلةِ الحروبْ
هي الدفاعُ عن المصيرْ
لا صلحَ بعدَ اليومِ
إلا بالقضاءِ على الحصارْ
وَزُمْرَةِ اللُّقطاءِ
في الحلفِ الأخيرْ
***
لا عربَ بَعدَ اليوم
في هذا الزمانِ
المُتَلَهِّمْ
هذا المبشِّرِ بالكوارثِ
والمنونْ
إنْ مرّروا الصَّفقات
في هذا القرنِ
سوفَ يمزَّقونْ
وَيَخضعونَ
لسائرِ الصَّفَقات
في كلّ القرونْ
هي غزةُ التكوينِ
والشرفِ المصونْ
هي قلعةُ العربِ الأخيرةُ
والبحرُ خَلْفَ أسودِها
والأعداءُ
حولَ حدودِها
ويحاصِرون سماءَها
لكنّهم
في وحْلِ غزةَ يغرقونْ
برصاصِ أَبطالِ الوَغى
يَتَساقطونْ
ويَحملون جِراحَهم
ويُهَروِلونْ
وَيَترُكونَ جنودَهم
فَوْقَ الرمالِ
ويهربونْ
وَيَجمعونَ خيامَهُم
ويغادِرونْ
***
يا بني صهيونَ
لنْ نَنْهارَ
أَوْ نَرْكعْ
راياتُنا البيضاءُ
رغْم الجوعِ والخذلانِ
لن تُرفَعْ
ونواصلُ الثَّوراتِ
والصّوْلاتِ
والجوْلاتِ
كي نرجعْ
يا بني صهيونَ
يابْنَ خُرافَةِ التّوْراةِ
فَلْتَسمعْ
لا ليسَ فينا الْيَوْمَ
مَنْ يَنْصاعُ
أو يَخْضَعْ
لا لنْ نَخافَ الطائراتِ
ولا الزوارقَ
لن نخافَ القصفَ
والنيرانَ
والمدفعْ
***
يا عابرينَ على المكانِ
يا قادمين من الأساطيرِ القديمةِ
في خرافاتِ الزمانِ
لن تَعبروا
إِلّا على أجسادِنا
يا قادمينَ وذاهبينَ
كما الدخانِ
ستكونُ غزةُ قلعةً
لم تَدخُلوها
ليسَ فيها مثالُ
ابنِ العَلْقَميّ
ولا جبانْ
هي غزةُ
ليست كما طُروادة
كي تَدخلوها في حصانْ
***
وطنُ الصّغيرةُ
لا تزالُ على الرّمالْ
تَتأَملُ البحْرَ الفسيحْ
ولا تزالُ تُسائلُ الموجاتِ:
هَلْ من خلفِ هذا البَحرِ يابسةٌ
لكيْ نَرحَلْ
آهٍ يا وطنُ البرَيئةُ
لستِ جدّتكِ القديمةَ
عندما ركبتْ هذا البحرْ
كي تَبنيَ لنا قرطاجةَ
لن نَرْضى بهذا الحَلّ
ثوراتُنا
ليسَ فيها سِفْرُ الخروجِ
وَلَيْسَ هناكَ
مِنْ مَنٍّ وَلا سَلوى
بهذا التينِ
أو مَنْهلْ
دِيارُنا
سَتَظلُّ عامرةً
ولن نقبلَ
بهذا الحلِّ
لن نقبلْ
في هذا اليوْمِ
مَن يَدْعو إلى التّفْريطِ
رغمَ الحربِ والتّجويعِ
رغم مرارَةِ الحَنْظل
***
هي لحظة ٌ
في عُمْرِ هذا الدهرِ
يا وطنُ الجميلةُ
وبِعَينِ قلبي قد رأيتُكِ
في المكانِ بُعَيد
عِقْدٍ في الزمانِ
تُمَسِّدينَ على الجديلةِ
فواصلَ الّلهوِ البريئةِ
تمسُني بنَسائمِ البحرِ العَليلةِ
يا بنتُ لكنْ حاذِري
فأمامكِ الأَوْغادُ
ما فَتئوا هُناكَ
يحدّقون فيكِ
بِمِرْقابِ زَوْرقِهِم
مُتَفحِّصين حراكَ أَذْرُعِكِ النّحيلةْ
فَلَربما
قد تَحْمِلينَ رصاصةً
أو تَحفُرين على الشّواطئِ
خندقًا
وَلَربما
قد يحقدونَ عَلَيْكِ
جرّاءَ ابتِسامَتِكِ الظّليلةْ
وَلْتَرفعي يدك الطّريّة
واهتفي:
باقون مثل الرملِ في الشُّطآنٍ
كالأحجارِ في الوديانِ
لن نرحلْ
باقونَ مثل العِطْرِ في الأزهارِ
مثل الزيتِ في الزيتونِ
مثل الماءِ في الجَدْوَلِ
***
هي غزةُ ليستْ قرطاجةَ
حتى تُغرقوا بالملحِ
كلَّ حقولِها
هي غزةُ
ليست طروادةَ
كي تدخلوا بحصانِكم في ليلِها
هي غزةُ
ستُمرَّغونَ بِطينِها وَبِوَحلِها
هي غزّةُ
دامَتْ لَنا ولِأَهلِها
هي غزةُ
سَلِمَتْ لنا أبدًا وَيَسْلَمُ أهلُها


الشاعر والكاتب الاسير الفلسطيني كميل أبو حنيش
.
أعلى