عبدالسلام بنعبد العالي - “مقاومة المظاهر”: الراحل بوعلو.. منشئ المجلات الرائدة ومقاومُ المظاهر

غاب عنا صباح يوم الجمعة (23 فبراير) الأخ والصديق والزميل وابن العمة محمد إبراهيم بوعلو، المعروف عندنا في العائلة بـ” بوعلو”. كانت لي علاقة خاصة به، منذ طفولتي.

كان يحكي لي كل شيء، علاقته بالحياة: بالدراسة، بالسياسة، بالحبابي، بحياته الأسرية، بالأخوين الجابري والسطاتي، بشعبة الفلسفة، باتحاد كتاب المغرب، (واتحاد الكتاب المغاربيين يوم أن عزم إنشاءه هو والجابري، احتجاجا على مواقف الحبابي رئيسا لاتحاد الكتاب وقتئذ). كان بوعلو ذاكرة كثير من الشؤون المتعلقة بالكلية، وبالتالي، بالحياة الثقافية عندنا (نظرا لما كانت تلعبه كلية الآداب بالرباط من دور في تلك الحياة الثقافية آنذاك). كنت دائما أعاتبه لأنه لم يكن يدوّن ما عاشه من تجارب غنية، لكنه لم يكن يستجيب.

لا أعتقد أن ذلك كان كسلا من جانبه. فالسّي محمد لم يكن يكفّ عن الكتابة، وقد ظل يكتب قصصه القصيرة صباح كل يوم حتى أواخر حياته. لم أستطع أن أبرر عزوفه عن تدوين كل ما يعرفه عن تاريخ الكلية وعن بدايات اتحاد الكتاب، وغالبا ما كنت أوعز ذلك إلى عفته، وميله إلى الاختفاء عن الساحة. لو أنني أردت أن أوجز شخصية بوعلو لاستعنت بعبارة بورخيص: “أن توجد اليوم هو أن تكون محط أنظار”، وقلت إن بوعلو كان يرى حياته في بعدها عن الأنظار، إن لم نقل في مقاومتها لذلك.

التحق بوعلو طالبا بالكلية سنة 59 يوم أن عزم الحبابي فتح شعبة الفلسفة باللغة العربية، فعاد هو والجابري، من دمشق حامليْن لشهادة السنة التحضيرية فرع الآداب. وانكب على تهييء الإجازة في الفلسفة، بصحبة كل من زبيدة بورحيل، وعابد الجابري، والطاهر واعزيز، وبن جلون، والجزائري عبد المجيد مزيان، (الذي سيتقلد فيما بعد منصب وزير الثقافة في الحكومة الجزائرية). تكونت، بين بوعلو وأستاذه وعميد كليته، محمد عزيز الحبابي، علاقة خاصة لم تكن تخلو من توتّر. كان الحبابي يقول عن بوعلو بدارجتنا المغربية ما معناه: “إنه معدن نفيس”. وحسب ما كان بوعلو يروي لي عن تلك العلاقة، أنها كانت معقدة، ممزوجة بشتى العواطف المتناقضة، وكثيرا ما كانت زوجة الحبابي الأولى، وكانت فرنسية، تستغلها لحل مشاكلها مع زوجها، فتلتجئ لبوعلو الذي كان قريبا/بعيدا عن أستاذه، خصوصا عندما كلفه بمحافظ مكتبة الكلية. ذلك المنصب الذي مكن وقتها بوعلو من أن يشارك عن قرب في بناء الكلية الناشئة، واقتراح أسماء الأساتذة المغاربة الشباب، وإقناع بعض أصدقائه للالتحاق بالكلية.

أعتقد أن هذه الوظيفة سمحت لبوعلو، أكثر من غيره، بأن يكون ذاكرة الكلية. وبالفعل، فقد كان مكتبه محجا لكثير من الأشخاص، طلبة وأساتذة، مغاربة وأجانب. كثيرا ما صادفت عنده الأستاذ الجليل أمجد الطرابلسي، والأستاذ هاشم حكمت، ومحمد المجاطي، والأستاذ السغروشني، والسيدة أ. مورسي زوجة الأستاذ مرسي زغلول…

منصب محافظ المكتبة كان مناسبا لبوعلو. ولن أبالغ إن قلت إن بوعلو عاش بالفعل بين الكتب حتى آخر لحظة من حياته. فهو لم يكن يرى حياته بعيدا عن الكتب والكتابة: وربما من أجل ذلك لم يكن ليكف عن إنشاء المجلات. أولاها، حينما كان تلميذا بمدارس محمد الخامس بالرباط. حيث كان يسهر على مجلة بعنوان “الرشيدة”. كان يطبعها على مطبعة من طين، كنت أصحبه إلى نواح نهر أبي رقراق ليأخذ من هناك نوعا خاصا من الطين، كان يضعه في صندوق خشبي صنعه من أجل ذلك، يمكنه من استنساخ أوراق كان يخطها بيده.

أذكر أنه في سنة 63-64، وكنت وقتها أدرس في فرنسا، ولم تكن رسائله إليّ تتوقف، أخبرني أنه ينوي مع الأخوين عبد الرحمن بنعمرو وأحمد السطاتي إنشاء مجلة “أقلام”. وبالفعل فقد ظهر العدد الأول منها سنة 64، وقد كانت منبرا لكل الأقلام الناشئة. وقد كان يؤكد لي مرارا، إنها ليست مجلة متحزبة، وإنه يصر على أن ينشر فيها كل من له استعداد لذلك. وما زلت أذكر العبارة التي كان يستعملها: إن “أقلام” ينبغي أن تظل مدرسة لتنشئة الكتاب. كتب في “أقلام” تقريبا كل من سيصبحون فيما بعد مشاهير الأقلام المغربية: الجابري، وعبد الله العروي (باسم مستعار)، وم برادة، م. زنيبر، وأ. المديني، والسغروشني، وسالم يفوت، وربيع مبارك، وطه عبد الرحمان وم. سبيلا، وعبد القادر الشاوي (باسم مستعار)، وعبد الرزاق الدواي، ومحمد الشوفاني، والقصاص م بيدي، وسعيد سوسان…

ستتعثر “أقلام” في مسيرتها لأسباب مادية، وستحتجب، إلا أنها ستعود من جديد في صيغتها الجديدة، وستنفتح على المقالات المترجمة، وعلى أسماء جديدة، وسينشر فيها الخريجون الأوائل من شعب الكلية الناشئة. وسيعمل بوعلو على الانفتاح على النشر، حيث سينشر مجموعة من الكتيبات المترجمة لسالم يفوت ومحمد سبيلا ومحمد زنيبر…تحت عنوان منشورات “أقلام” بهدف تغطية تكلفتها المادية.

كثيرا ما كنت أصحب بوعلو، الذي كان يقصد كل يوم أربعاء، دار النشر المغربية، لتصحيح عدد المجلة، التي كانت وقتها تطبع باللينو. كان بوعلو يملك سيارة رونو4 شديدة التقادم. أذكر، ونحن عائدان في إحدى رحلاتنا من البيضاء، أن زيت الفرامل كان يسيل. فعمل السي محمد على سد فتحة اتصالها بأنبوب الفرامل على طريقة عقدة الصيادين (ولبوعلو، هو وصديقه الحميم، الموسيقي أحمد الصياد، باع كبير في ميدان الصيد). فظل يذكّرني طيلة الطريق ساخرا: “راحنا عاطيين حياتنا لسبيبة”.

أسس بوعلو فيما بعد، بصحبة الدكتور عبد الكريم العمري، مجلة تهتم بشؤون الصحة باللغة العربية، وهي “المجلة الصحية”، وقد كانا ينشران باسمها كتيّبات صغيرة للتوعية الصحية.

خلال التسعينيات من القرن الماضي قرر الجابري وبوعلو إنشاء مجلة “فكر ونقد”، وقد ضماني إليهما في أسرة التحرير. خصص بوعلو إحدى غرف منزله مكتبا لهذه المجلة، حيث كانت كاتبة خاصة ترقن المقالات. إلا أن الأزمة التي عرفتها مبيعاتها، ستجعل الجابري يتكفل هو نفسه برقن العدد، كما ستجعله يتجند لإصدار كتيبات صغيرة باسمه تحت عنوان “مواقف” كي يساعد مردودها المادي على تغطية تكلفة المجلة. وقد ترك المرحوم يوم وفاته العدد 105 في طور الإنجاز مرقونا على حاسوبه.

كان بوعلو مقتنعا أشد الاقتناع بالكتابة للأطفال. لذا أنشأ مجلة “أزهار”. كان يقول إنه يريد لأطفالنا مجلة تبعدهم عن كل تصور خرافي للكون، لينسجوا علاقة متفتحة مع العالم بتطوره التقني، علاقة تمجد العمل وتنسلخ عن كل مواقف التواكل والكسل. ذلك أنه كان يعتبر أن أكبر أسباب تخلفنا هو طبيعة العلاقة التي ننسجها مع العمل. كان بوعلو عاشقا للعمل الدؤوب. وهو لم يكن يتوقف عنه. ذكّرته هذه الأيام الأخيرة بفيلم “الجزيرة العارية” الذي كنا نشترك معا في الإعجاب به.

لا أتصور أن السّي محمد يأسف في قبره على ما لم ينله في حياته من يسر مادي أو شهرة أو منصب. فقد كان قنوعا، يكفيه ما ينتزعه من الحياة انتزاعا. والغريب أنه كان يجيب دائما إن سألته عن حاله بأنه “مْبرَّع”. الأمر الوحيد الذي أتصور أنه ربما سيأسف عليه، هو كونه عجز عن تحقيق رغبته في إصدار كتيبات سلسلة قصص الأطفال. فقد توفرت له أزيد من 400 قصة قصيرة للأطفال، كانت كل رغبته أن ترى النور، مزينة برسومات أبدى له بعض الأصدقاء الرسامين رغبتهم في مساعدته على إنجازها، وقد شرع في تهييء بعضها. حاولت مرارا أن أربطه ببعض دور النشر كي يتمكن من ذلك. إلا أن الأمر غالبا ما كان ينتهي إلى الفشل. ولما اقتنع في أواخر حياته بتعذّر ذلك، أنشأ صفحة فيسبوك خصصها لنشر تلك القصص متسلسلة. لم يكن يتقن الرقن على الحاسوب، لذا كلف بذلك أحد الشباب ممن يحسنون ذلك، كان يزوره في بيته كل ثلاثاء مقابل أجر بسيط ليرقن قصة للأطفال، وأخرى من نوع ما كان السي محمد يسميه “أقصوصة في دقيقة”، وهو فن كان من السباقين إليه في المغرب.
أعلى