(1)
أبسط تعريف يمكن أن يقال عن الشخصية الشريرة أنها شخصية تبث شرها وتتسبب في الأذى لغيرها بدون أسباب، أو لأسباب لا تتناسب تمامًا مع كم الشر الذي يصدر عنها في رد فعلها على ما تعرضت له من ضيق أو أَذًى من غيرها.
والشخصية الشريرة غالبًا ما ينعكس ما في داخلها من شر على وجهها وفي ملامحها، ونرى أنها تضيق بغيرها، ولا تبدي ارتياحًا بمن تتعامل معه،
لا سيما أولئك الذين تتعرض لهم بالأذى والإصابة بالضرر.
وغالبًا ما تكون الشخصية الشريرة مريضة نفسيًّا، فهي كثيرًا ما تكون مريضة بعقدة نقص، وترى أنها تُنَفِّسَ عن هذه العقدة من خلال الشر الذي توجهه للآخرين، وأحيانًا تشعر بعض الشخصيات الشريرة أن تصرفاتها التي يتسبب عنها أَذًى للآخرين تصدر عنها دون سيطرة منها على نفسها خلال ذلك، ومن هنا تعد هذه الشخصية بهذا الشكل مريضة نفسيًّا، وقد تمكن المرض النفسي منها حتى إنها قد تكون أقرب للجنون عند ذلك، إن لم تكن قد جُنَّتْ بالفعل.
(2)
ونرى في المسرحيات اليونانية القديمة التي وصلتنا تنوعًا في الشخصية الشريرة، ومستوى الشر الذي تصيب به غيرها، والملاحظ أن الآلهة الإغريقية ذات الطبيعة الناسوتية تقوم بأفعال الشر مثلها في ذلك مثل البشر، بل إننا نرى من هذه الآلهة من يكون لديه رغبة شديدة في أَذى البشر لغير أسباب معقولة، وتتسبب في دمارهم، ونرى هذا الأمر في كثير من المآسي الإغريقية التي يترصد فيها بعض الآلهة الإغريقية بعض الأسر بسهام غضبها، فتصاب بكوارث كثيرة، كما نرى أسرة لبداكوس، والمصائب الكثيرة التي تعرضت لها بسبب نقمة بعض الآلهة الوثنية عليها؛ ولهذا نرى في مسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس أن أوديب قد قتل أباه لايوس دون أن يعرف أنه أبوه، وتزوج من أمه دون أن يعرف أنها أمه، وأنجب منها أربعة أولاد، وحين عرفت هي هذه الحقائق بعد عدة سنوات من زواجها من أوديب شنقت نفسها، وفقأ أوديب عينيه؛ حتى
لا يرى والديه في عالم الموتى وقد أساء إليهما إساءة شديدة في الحياة الدنيا دون أن يدري.
والأمر في ترصد بعض الآلهة الوثنية لأسرة لبداكوس بالشر والأذى لم يتوقف عند ذلك، فنرى أن ولدي أوديب بولونيكيس وأتيوكليس يتنافسان على خلافة ملك أبيهم أوديب في ثيبة، ويقتل أحدهما الآخر، كما رأينا ذلك في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس، ومسرحية "السبعة ضد ثيبة" لأيسخيلوس، ومسرحية"الفينيقيات" ليوربيديس.
وتستمر لعنة الآلهة الوثنية وبثها شرها في هذه الأسرة، فنرى في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس أنها تسببت في قتل أنتيجونا بشنقها لنفسها حين حبسها خالها كريون في نفق مظلم؛ لأنها خالفت أوامره، وحاولت دفن جثة أخيها بولونيكيس، وينتحر هيمون خطيب أنتيجونا وابن كريون حزنًا على موت حبيبته أنتيجونا، وتنتحر أم هيمون حزنًا على موت ابنها هيمون، وهذه هي بعض النكبات التي ألمت بأسرة لبداكوس نتيجة ترصد بعض الآلهة الوثنية بالشر لها، ونرى شبيهًا بهذه اللعنات وتوجيه الأذى من بعض آلهة الإغريق الوثنية لأسر أخرى بلا أسباب معقولة في مسرحيات إغريقية أخرى، وربما لم يكن هدف هذه الآلهة من ذلك غير التسلية والترفية عن أنفسها، وهي ترى مآسي البشر التي كانت سببًا فيها، كما تبرز لنا هذا بعض المسرحيات اليونانية القديمة.
(3)
ونرى في أكثر المسرحيات اليونانية القديمة أن بعض هذه الآلهة اليونانية الوثنية تترصد أشخاصًا معينين بأذاها، وليس أسرًا أو عائلات،تتابع أَذى أفرادها في حلقات متصلة، كما رأينا صنيعها مع أسرة لبداكوس.
وزيوس رب الأرباب عند الإغريق يقوم بدور الشخصية الشريرة في بعض المسرحيات اليونانية القديمة، فيتعرض بالأذى لأشخاص بلاأسباب،أو لأسباب تتعلق بمتعته؛ ولهذا كثيرًا ما نراه يعجب بفتاة بشرية، ويسعى لاغتصابها، ويتسبب لها في الأذى، وإن كان هذا الأذى قد يتحول لمكافأة لها بعد ذلك، كما تصور هذا بعض الأساطير اليونانية القديمة، والمسرحيات المستوحاة منها، ونعطي مثالًا على هذا من مسرحية "بروميثيوس مقيدًا"لأيسخيلوس، ففي هذه المسرحية يظهر زيوس شره ومقته للبشر حتى إنه قد هَمَّ بإفنائهم، ومن جوانب شره الأخرى لهم أنه حجب عنهم المعرفة، وجعلهم يعيشون في كهوف،ولم يكشف لهم عن النار التي هي أصل الفنون، وعادى بروميثيوس- وهو أحد الآلهة الوثنية عند الإغريق- زيوس، فأطلع البشر على كثير من المعارف، وعرفهم بالنار، وغضب عليه زيوس لذلك، ونكل به تنكيلًا شديدًا.
وفي هذه المسرحية نرى أن زيوس قد اغتصب فتاة بشرية هي آيو، وتسبب في شقائها؛ لأن هيرا زوجته قد جعلت لها قرنين، وجعلتها تهيم على وجهها في البلاد.
ونرى أبوللو رب الفن والوحي عند الإغريق يقوم هو أيضًا باغتصاب بعض الفتيات اللائي يعجب بهن، كما نرى في مسرحية "إيون" ليوربيديس، ففيها يغتصب أبوللوكريوسا، ويتسبب في شقاء شديد لها، وإن كان قد كافأها وكافأ ابنه إيون منها بعد ذلك.
وهيرا زوجة زيوس تتسبب في أَذى كثير من البشر، كما تعرض هذا بعض المسرحيات اليونانية القديمة، كما نرى في مسرحية"هرقل مجنونًا" ليوربيديس، فهي تتسبب في هذه المسرحية في إصابة هرقل بالجنون في موقف معين، ويقتل هرقل خلاله أولاده الذكور الثلاثة وزوجته أيضًا، وحين يرجع له عقله يشعر بالندم والخزي لما فعله من أعمال طائشة لا تتناسب مع الأعمال العظيمة التي قام بها من قبل.
وأيضًا نرى هيرا تتسبب في أَذًى شديد لهيلين زوجة مينيلاوسفي مسرحية "هيلين"، ولكنها تتعاطف معها بعد ذلك، وتسهل لها سبل النجاة هي وزوجها مينيلاوس من مصر من قبضة ملك مصر الذي كان يرغب في أن يتزوج هيلين غصبًا.
والأغرب من ذلك أن نرى بعض آلهة اليونان الوثنية تقوم بالأذى لآلهة أخرى بسبب تعاطف بعض هذه الآلهة مع البشر، كما نرى في مسرحية "السلام" لأرسطوفان، ففي هذه المسرحية يحبس آرس رب الحرب ربة السلام في جب عميق؛ ليغرق البشر بالحروب ويُفْنِي بعضهم بعضًا، ويستطيع أحد البشر - وهو تريجيوس - أن ينقذ ربة السلام، ويخرجها من ذلك الجب، فيعود السلام من جديد للبشر.
(4)
وهناك من آلهة الإغريق من هم مكلفون بتعذيب البشر في الدنيا، ومنهم الإرنيات "ربات الانتقام" اللائي يعذبن كل من قتل قريبًا تربطه به صلة قرابة قوية، ونرى هؤلاء الإرنيات أو ربات الانتقام يسرفن في تعذيب من يسلطن عليه، ولا يتخلص من عذابهن بسهولة، كما نرى في مسرحية "ربات الانتقام"لأيسخيلوس، ففي هذه المسرحية تقوم ربات الانتقام بتعذيب أوريست؛
لأنه قتل أمه، ولا يعفون عنه عند قوله لهن:إنه قتلها بأوامر من الإله أبو للو؛ لأن أمه كانت قد قتلت أباه أجاممنون غدرًا عند عودته من طروادة بعد أن دمرها، وحقق انتصارًا عظيمًا للإغريق، ولا تتوقف هذه الآلهة عن توجيه الأذى لأوريست إلا بعد أن تتوسط الإلهة أثينا له عند هذه الآلهة، ووعدها لهن بأن تزيد من قدرهن في مدينة أثينا، وعند ذلك توقف هذه الآلهة أذاها لأوريست.
(5)
ونرى في المسرحيات اليونانية القديمة شخصيات شريرة من غير الآلهة؛ أي من البشر، ومنهم من يكون شرهم بسبب ما لديهم من قوى السحر ولوجود طبيعة غضوبة عندهم، مثل: ميديا التي صورها يوربيديس في مسرحية "ميديا"امرأة تعد كتلة من الشر، وقد انتقمت من زوجها ياسون - لأنه تزوج عليها امرأة أخرى - شر انتقام، فقد تسببت في قتل زوجته الجديدة ووالدها، ولم تكتفِ بذلك، فقتلت ولديها من ياسون حتى لا يبقى له أحد في الدنيا، ويعيش وحيدًا متألمًا ما بقي له من حياة.
وتعد كليتمنسترا من الشخصيات البشرية الشريرة كما عرضتها بهذه الصورة بعض المسرحيات اليونانية القديمة، مثلما نرى في مسرحية "أجاممنون"لأيسخيلوس، فهي في هذه المسرحية استقبلت زوجها أجاممنون عند عودته من حرب طروادة منتصرًا بالترحيب، وفرشت له أقمشة غالية الثمن ليسير عليها في طريقه للقصر الذي يعيش معها فيه، ولكنها بعد ذلك قتلته شر قتلة، بحجة أنه ضحى بإفيجينيا ابنتها منه في سبيل أن تسمح إحدى الآلهة بعبور سفن الإغريق لطروادة.
ولم تكتفِ كليتمنسترا في شرها بذلك، فهي قد اتخذت عشيقًا لها في غياب زوجها أجاممنون في طروادة، ونفذت الخطة التي عرضها عليها لقتل زوجها أجاممنون عند عودته من طروادة.
وفي مسرحية "المحسنات" أو "ربات الانتقام"لأيسخيلوسيظهر شبح كليتمنسترا بعد موتها، ويقوم بتعريف ربات الانتقام بالمكان الذي رحل إليه ابنها أوريست؛ ليواصلن تعذيبه.
(6)
وغالبًا ما يظهر مينيلاوس - أخو أجاممنون - شخصية شريرة في بعض المسرحيات اليونانية القديمة التي وصلت لنا، كما نراه في مسرحية "إفيجينيا في أوليس" ليوربيديس، فهو في هذه المسرحية يستحث أخاه أجاممنون على أن يضحي بابنته الصغيرة إفيجينيا ترضية لإحدى الآلهة؛ لتسمح لسفن الإغريق بالإبحار لطروادة لإعادة هيلين زوجة مينيلاوس له، بعد أن فرت مع عشيقها باريس لطروادة.
ومن الغريب أن نرى مينيلاوس يعفو عن هيلين بعد أن دُمِّرَتْ طروادة من أجلها، ومات في تلك الحرب كثير من أبطال الإغريق، كما نرى ذلك في مسرحية "أوريستيس" ليوربيديس.
وأيضًا نرى مينيلاوس يظهر كشخصية شريرة في مسرحية "أياس" لسوفوكليس، فهو فيها يرفض دفن جثة البطل الإغريقي أياس؛ لأنه خلال جنونه تصور أن بعض الأغنام جنود للإغريق وقتلهم؛ لأن الإغريق انتقصوا قدره، ويستطيع البطل أوديسيوس أن يقنع أجاممنون بأهمية دفن جثة أياس، ويوافق مينيلاوس مكرهًا على السماح بدفنه.
وفي مسرحية "أندروماخا"ليوربيديس يظهر مينيلاوس شخصًا شريرًا يسعى لقتل أندروماخا وابنها من ابن أخيل تعصبًا منه لابنته هرميونا التي كانت متزوجة من ابن أخيل ولم تنجب منه، وطلبت إلى أبيها مينيلاوس أن يعينهافي قتل أندروماخا وابنها، ويوافقها على ذلك، ولكن فيلوس جد ابن أخيل ينقذهما من مينيلاوس وابنته هرميونا.
ومع ذلك فإننا نرى مينيلاوس وهيلين زوجته يظهران شخصين طيبين نبيلين في مسرحية "هيلين" ليوربيديس، ففي هذه المسرحية يظهر يوربيديس هيلين زوجة عفيفة، وأن هيرا زوجة زيوس قد غارت منها، وصنعت من السحاب امرأة تشبهها، وهي التي هامت في باريس حبًّا، وهربت معه لطروادة، أما هيلين الحقيقية، فأرسلتها هيرا لمصر، ويعرف مينيلاوس هذه الحقائق، ويسعد بطهارة زوجته هيلين، ونجاته معها من ملك مصر الذي كان عازمًا على أن يتزوجها غصبًا، ولكن هيرا أنقذتها من ذلك المصير بمساعدة أخت ملك مصر ثينوي التي كانت تعمل بالعرافة.
(7)
وهناك شخصيات من البشر تقوم بأعمال تتسبب في أَذًى للآخرين لدوافع مختلفة، كما تظهر لنا ذلك بعض المسرحيات اليونانية القديمة، فنرى في مسرحية "أندروماخا" أن هرميونا تتعامل بشر شديد مع أندروماخا جارية زوجها ابن أخيل؛ لأنها أنجبت منه وهي لم تنجب منه، وكانت تظن أنها تقوم بأعمال سحرية تمنعها عن الحمل والإنجاب.
ونرى في مسرحية "هيبوليت" ليوربيديس فيدرا تسعى للانتقام من هيبوليت؛ لأنه رفض أن يكون عشيقًا لها، وهي زوجة أبيه، وخشيتأن يفضحها بأنها طلبت إليه ذلك، فكتبت رسالة تذكر فيها لزوجها أن هيبوليت هو الذي راودها عن نفسها، وأنها انتحرت لذلك، وكانت تقصد بذلك أن ينتقم زوجها ثيسيوس من ابنه هيبوليت، وقد انتقم منه بالفعل، وندم حين علم براءته من تلك التهمة من الإلهة الوثنية أرتميس.
(
ويعد ليكرس أحد أهم الشخصيات الشريرة من البشر الذين رأيناهم
في المسرحيات اليونانية القديمة، كما صوره يوربيديس في مسرحية "هرقل مجنونًا"، فهو في هذه المسرحية يسعى لقتل أولاد هرقل الثلاثة الصغار، ولقتل أمهم ديانيرا ولقتل والد هرقل، وكان قد قتل من قبل كريون والد ديانيرا، وبعض أولاد كريون ملك ثيبة؛ وذلك حتى لا يبقى أحد ينازعه في حكم ثيبة
في الحاضر أو في المستقبل، ولكن لا يكتمل له ما يريد بعودة هرقل من عالم الموتى، وكان قد ذهب إليه بنفسه لاستنقاذ صديق له منه، ويظهر هرقل قبل أن يكمل ليكرس جرائمه، ويقتله هرقل.
أبسط تعريف يمكن أن يقال عن الشخصية الشريرة أنها شخصية تبث شرها وتتسبب في الأذى لغيرها بدون أسباب، أو لأسباب لا تتناسب تمامًا مع كم الشر الذي يصدر عنها في رد فعلها على ما تعرضت له من ضيق أو أَذًى من غيرها.
والشخصية الشريرة غالبًا ما ينعكس ما في داخلها من شر على وجهها وفي ملامحها، ونرى أنها تضيق بغيرها، ولا تبدي ارتياحًا بمن تتعامل معه،
لا سيما أولئك الذين تتعرض لهم بالأذى والإصابة بالضرر.
وغالبًا ما تكون الشخصية الشريرة مريضة نفسيًّا، فهي كثيرًا ما تكون مريضة بعقدة نقص، وترى أنها تُنَفِّسَ عن هذه العقدة من خلال الشر الذي توجهه للآخرين، وأحيانًا تشعر بعض الشخصيات الشريرة أن تصرفاتها التي يتسبب عنها أَذًى للآخرين تصدر عنها دون سيطرة منها على نفسها خلال ذلك، ومن هنا تعد هذه الشخصية بهذا الشكل مريضة نفسيًّا، وقد تمكن المرض النفسي منها حتى إنها قد تكون أقرب للجنون عند ذلك، إن لم تكن قد جُنَّتْ بالفعل.
(2)
ونرى في المسرحيات اليونانية القديمة التي وصلتنا تنوعًا في الشخصية الشريرة، ومستوى الشر الذي تصيب به غيرها، والملاحظ أن الآلهة الإغريقية ذات الطبيعة الناسوتية تقوم بأفعال الشر مثلها في ذلك مثل البشر، بل إننا نرى من هذه الآلهة من يكون لديه رغبة شديدة في أَذى البشر لغير أسباب معقولة، وتتسبب في دمارهم، ونرى هذا الأمر في كثير من المآسي الإغريقية التي يترصد فيها بعض الآلهة الإغريقية بعض الأسر بسهام غضبها، فتصاب بكوارث كثيرة، كما نرى أسرة لبداكوس، والمصائب الكثيرة التي تعرضت لها بسبب نقمة بعض الآلهة الوثنية عليها؛ ولهذا نرى في مسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس أن أوديب قد قتل أباه لايوس دون أن يعرف أنه أبوه، وتزوج من أمه دون أن يعرف أنها أمه، وأنجب منها أربعة أولاد، وحين عرفت هي هذه الحقائق بعد عدة سنوات من زواجها من أوديب شنقت نفسها، وفقأ أوديب عينيه؛ حتى
لا يرى والديه في عالم الموتى وقد أساء إليهما إساءة شديدة في الحياة الدنيا دون أن يدري.
والأمر في ترصد بعض الآلهة الوثنية لأسرة لبداكوس بالشر والأذى لم يتوقف عند ذلك، فنرى أن ولدي أوديب بولونيكيس وأتيوكليس يتنافسان على خلافة ملك أبيهم أوديب في ثيبة، ويقتل أحدهما الآخر، كما رأينا ذلك في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس، ومسرحية "السبعة ضد ثيبة" لأيسخيلوس، ومسرحية"الفينيقيات" ليوربيديس.
وتستمر لعنة الآلهة الوثنية وبثها شرها في هذه الأسرة، فنرى في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس أنها تسببت في قتل أنتيجونا بشنقها لنفسها حين حبسها خالها كريون في نفق مظلم؛ لأنها خالفت أوامره، وحاولت دفن جثة أخيها بولونيكيس، وينتحر هيمون خطيب أنتيجونا وابن كريون حزنًا على موت حبيبته أنتيجونا، وتنتحر أم هيمون حزنًا على موت ابنها هيمون، وهذه هي بعض النكبات التي ألمت بأسرة لبداكوس نتيجة ترصد بعض الآلهة الوثنية بالشر لها، ونرى شبيهًا بهذه اللعنات وتوجيه الأذى من بعض آلهة الإغريق الوثنية لأسر أخرى بلا أسباب معقولة في مسرحيات إغريقية أخرى، وربما لم يكن هدف هذه الآلهة من ذلك غير التسلية والترفية عن أنفسها، وهي ترى مآسي البشر التي كانت سببًا فيها، كما تبرز لنا هذا بعض المسرحيات اليونانية القديمة.
(3)
ونرى في أكثر المسرحيات اليونانية القديمة أن بعض هذه الآلهة اليونانية الوثنية تترصد أشخاصًا معينين بأذاها، وليس أسرًا أو عائلات،تتابع أَذى أفرادها في حلقات متصلة، كما رأينا صنيعها مع أسرة لبداكوس.
وزيوس رب الأرباب عند الإغريق يقوم بدور الشخصية الشريرة في بعض المسرحيات اليونانية القديمة، فيتعرض بالأذى لأشخاص بلاأسباب،أو لأسباب تتعلق بمتعته؛ ولهذا كثيرًا ما نراه يعجب بفتاة بشرية، ويسعى لاغتصابها، ويتسبب لها في الأذى، وإن كان هذا الأذى قد يتحول لمكافأة لها بعد ذلك، كما تصور هذا بعض الأساطير اليونانية القديمة، والمسرحيات المستوحاة منها، ونعطي مثالًا على هذا من مسرحية "بروميثيوس مقيدًا"لأيسخيلوس، ففي هذه المسرحية يظهر زيوس شره ومقته للبشر حتى إنه قد هَمَّ بإفنائهم، ومن جوانب شره الأخرى لهم أنه حجب عنهم المعرفة، وجعلهم يعيشون في كهوف،ولم يكشف لهم عن النار التي هي أصل الفنون، وعادى بروميثيوس- وهو أحد الآلهة الوثنية عند الإغريق- زيوس، فأطلع البشر على كثير من المعارف، وعرفهم بالنار، وغضب عليه زيوس لذلك، ونكل به تنكيلًا شديدًا.
وفي هذه المسرحية نرى أن زيوس قد اغتصب فتاة بشرية هي آيو، وتسبب في شقائها؛ لأن هيرا زوجته قد جعلت لها قرنين، وجعلتها تهيم على وجهها في البلاد.
ونرى أبوللو رب الفن والوحي عند الإغريق يقوم هو أيضًا باغتصاب بعض الفتيات اللائي يعجب بهن، كما نرى في مسرحية "إيون" ليوربيديس، ففيها يغتصب أبوللوكريوسا، ويتسبب في شقاء شديد لها، وإن كان قد كافأها وكافأ ابنه إيون منها بعد ذلك.
وهيرا زوجة زيوس تتسبب في أَذى كثير من البشر، كما تعرض هذا بعض المسرحيات اليونانية القديمة، كما نرى في مسرحية"هرقل مجنونًا" ليوربيديس، فهي تتسبب في هذه المسرحية في إصابة هرقل بالجنون في موقف معين، ويقتل هرقل خلاله أولاده الذكور الثلاثة وزوجته أيضًا، وحين يرجع له عقله يشعر بالندم والخزي لما فعله من أعمال طائشة لا تتناسب مع الأعمال العظيمة التي قام بها من قبل.
وأيضًا نرى هيرا تتسبب في أَذًى شديد لهيلين زوجة مينيلاوسفي مسرحية "هيلين"، ولكنها تتعاطف معها بعد ذلك، وتسهل لها سبل النجاة هي وزوجها مينيلاوس من مصر من قبضة ملك مصر الذي كان يرغب في أن يتزوج هيلين غصبًا.
والأغرب من ذلك أن نرى بعض آلهة اليونان الوثنية تقوم بالأذى لآلهة أخرى بسبب تعاطف بعض هذه الآلهة مع البشر، كما نرى في مسرحية "السلام" لأرسطوفان، ففي هذه المسرحية يحبس آرس رب الحرب ربة السلام في جب عميق؛ ليغرق البشر بالحروب ويُفْنِي بعضهم بعضًا، ويستطيع أحد البشر - وهو تريجيوس - أن ينقذ ربة السلام، ويخرجها من ذلك الجب، فيعود السلام من جديد للبشر.
(4)
وهناك من آلهة الإغريق من هم مكلفون بتعذيب البشر في الدنيا، ومنهم الإرنيات "ربات الانتقام" اللائي يعذبن كل من قتل قريبًا تربطه به صلة قرابة قوية، ونرى هؤلاء الإرنيات أو ربات الانتقام يسرفن في تعذيب من يسلطن عليه، ولا يتخلص من عذابهن بسهولة، كما نرى في مسرحية "ربات الانتقام"لأيسخيلوس، ففي هذه المسرحية تقوم ربات الانتقام بتعذيب أوريست؛
لأنه قتل أمه، ولا يعفون عنه عند قوله لهن:إنه قتلها بأوامر من الإله أبو للو؛ لأن أمه كانت قد قتلت أباه أجاممنون غدرًا عند عودته من طروادة بعد أن دمرها، وحقق انتصارًا عظيمًا للإغريق، ولا تتوقف هذه الآلهة عن توجيه الأذى لأوريست إلا بعد أن تتوسط الإلهة أثينا له عند هذه الآلهة، ووعدها لهن بأن تزيد من قدرهن في مدينة أثينا، وعند ذلك توقف هذه الآلهة أذاها لأوريست.
(5)
ونرى في المسرحيات اليونانية القديمة شخصيات شريرة من غير الآلهة؛ أي من البشر، ومنهم من يكون شرهم بسبب ما لديهم من قوى السحر ولوجود طبيعة غضوبة عندهم، مثل: ميديا التي صورها يوربيديس في مسرحية "ميديا"امرأة تعد كتلة من الشر، وقد انتقمت من زوجها ياسون - لأنه تزوج عليها امرأة أخرى - شر انتقام، فقد تسببت في قتل زوجته الجديدة ووالدها، ولم تكتفِ بذلك، فقتلت ولديها من ياسون حتى لا يبقى له أحد في الدنيا، ويعيش وحيدًا متألمًا ما بقي له من حياة.
وتعد كليتمنسترا من الشخصيات البشرية الشريرة كما عرضتها بهذه الصورة بعض المسرحيات اليونانية القديمة، مثلما نرى في مسرحية "أجاممنون"لأيسخيلوس، فهي في هذه المسرحية استقبلت زوجها أجاممنون عند عودته من حرب طروادة منتصرًا بالترحيب، وفرشت له أقمشة غالية الثمن ليسير عليها في طريقه للقصر الذي يعيش معها فيه، ولكنها بعد ذلك قتلته شر قتلة، بحجة أنه ضحى بإفيجينيا ابنتها منه في سبيل أن تسمح إحدى الآلهة بعبور سفن الإغريق لطروادة.
ولم تكتفِ كليتمنسترا في شرها بذلك، فهي قد اتخذت عشيقًا لها في غياب زوجها أجاممنون في طروادة، ونفذت الخطة التي عرضها عليها لقتل زوجها أجاممنون عند عودته من طروادة.
وفي مسرحية "المحسنات" أو "ربات الانتقام"لأيسخيلوسيظهر شبح كليتمنسترا بعد موتها، ويقوم بتعريف ربات الانتقام بالمكان الذي رحل إليه ابنها أوريست؛ ليواصلن تعذيبه.
(6)
وغالبًا ما يظهر مينيلاوس - أخو أجاممنون - شخصية شريرة في بعض المسرحيات اليونانية القديمة التي وصلت لنا، كما نراه في مسرحية "إفيجينيا في أوليس" ليوربيديس، فهو في هذه المسرحية يستحث أخاه أجاممنون على أن يضحي بابنته الصغيرة إفيجينيا ترضية لإحدى الآلهة؛ لتسمح لسفن الإغريق بالإبحار لطروادة لإعادة هيلين زوجة مينيلاوس له، بعد أن فرت مع عشيقها باريس لطروادة.
ومن الغريب أن نرى مينيلاوس يعفو عن هيلين بعد أن دُمِّرَتْ طروادة من أجلها، ومات في تلك الحرب كثير من أبطال الإغريق، كما نرى ذلك في مسرحية "أوريستيس" ليوربيديس.
وأيضًا نرى مينيلاوس يظهر كشخصية شريرة في مسرحية "أياس" لسوفوكليس، فهو فيها يرفض دفن جثة البطل الإغريقي أياس؛ لأنه خلال جنونه تصور أن بعض الأغنام جنود للإغريق وقتلهم؛ لأن الإغريق انتقصوا قدره، ويستطيع البطل أوديسيوس أن يقنع أجاممنون بأهمية دفن جثة أياس، ويوافق مينيلاوس مكرهًا على السماح بدفنه.
وفي مسرحية "أندروماخا"ليوربيديس يظهر مينيلاوس شخصًا شريرًا يسعى لقتل أندروماخا وابنها من ابن أخيل تعصبًا منه لابنته هرميونا التي كانت متزوجة من ابن أخيل ولم تنجب منه، وطلبت إلى أبيها مينيلاوس أن يعينهافي قتل أندروماخا وابنها، ويوافقها على ذلك، ولكن فيلوس جد ابن أخيل ينقذهما من مينيلاوس وابنته هرميونا.
ومع ذلك فإننا نرى مينيلاوس وهيلين زوجته يظهران شخصين طيبين نبيلين في مسرحية "هيلين" ليوربيديس، ففي هذه المسرحية يظهر يوربيديس هيلين زوجة عفيفة، وأن هيرا زوجة زيوس قد غارت منها، وصنعت من السحاب امرأة تشبهها، وهي التي هامت في باريس حبًّا، وهربت معه لطروادة، أما هيلين الحقيقية، فأرسلتها هيرا لمصر، ويعرف مينيلاوس هذه الحقائق، ويسعد بطهارة زوجته هيلين، ونجاته معها من ملك مصر الذي كان عازمًا على أن يتزوجها غصبًا، ولكن هيرا أنقذتها من ذلك المصير بمساعدة أخت ملك مصر ثينوي التي كانت تعمل بالعرافة.
(7)
وهناك شخصيات من البشر تقوم بأعمال تتسبب في أَذًى للآخرين لدوافع مختلفة، كما تظهر لنا ذلك بعض المسرحيات اليونانية القديمة، فنرى في مسرحية "أندروماخا" أن هرميونا تتعامل بشر شديد مع أندروماخا جارية زوجها ابن أخيل؛ لأنها أنجبت منه وهي لم تنجب منه، وكانت تظن أنها تقوم بأعمال سحرية تمنعها عن الحمل والإنجاب.
ونرى في مسرحية "هيبوليت" ليوربيديس فيدرا تسعى للانتقام من هيبوليت؛ لأنه رفض أن يكون عشيقًا لها، وهي زوجة أبيه، وخشيتأن يفضحها بأنها طلبت إليه ذلك، فكتبت رسالة تذكر فيها لزوجها أن هيبوليت هو الذي راودها عن نفسها، وأنها انتحرت لذلك، وكانت تقصد بذلك أن ينتقم زوجها ثيسيوس من ابنه هيبوليت، وقد انتقم منه بالفعل، وندم حين علم براءته من تلك التهمة من الإلهة الوثنية أرتميس.
(
ويعد ليكرس أحد أهم الشخصيات الشريرة من البشر الذين رأيناهم
في المسرحيات اليونانية القديمة، كما صوره يوربيديس في مسرحية "هرقل مجنونًا"، فهو في هذه المسرحية يسعى لقتل أولاد هرقل الثلاثة الصغار، ولقتل أمهم ديانيرا ولقتل والد هرقل، وكان قد قتل من قبل كريون والد ديانيرا، وبعض أولاد كريون ملك ثيبة؛ وذلك حتى لا يبقى أحد ينازعه في حكم ثيبة
في الحاضر أو في المستقبل، ولكن لا يكتمل له ما يريد بعودة هرقل من عالم الموتى، وكان قد ذهب إليه بنفسه لاستنقاذ صديق له منه، ويظهر هرقل قبل أن يكمل ليكرس جرائمه، ويقتله هرقل.