كرم الصباغ - مثل غيمة حانيةٍ...

بلهفةٍ واشتياقٍ تتطلَّع من شباك غرفتها المطلُّ على الباحة الرَّمليَّة الواسعة إلى الأطفال الذين يركضون خلف الكرة بخفَّة الفراشات ورشاقة الغزلان، تبتسم كلَّما أطلق أحدهم ضحكةً عاليةً، تردَّد صداها في الفضاء، وتقطب جبينها كلما تعثَّر أحدهم، وسقط على الرمل متوجّعًا.. يسرقها الوقت، وعيناها تشربان من مشهد اللَّعب البهيج دون ارتواءٍ، ولا تنتبه إلا مع غروب الشَّمس، الَّذي تجبر غبشته الأطفال على التَّفرُّق ومغادرة الباحة والعودة إلى دورهم، فتنسحب روحها لانسحابهم.. تقطع غرفتها ذهابًا وجيئة، ثم تخرج منها، وتنقّل بصرها بين أجزاء الدَّار؛ فيطبق صمت وسكون الأشياء على صدرها، ويقتلها الملل؛ فتنتظر عودته بفارغ الصَّبر؛ حتَّى تسري الرُّوح في جنبات الدَّار الميّتة.
عادة ما يعود من عمله في الثَّالثة ظهرًا، يتناول طعامه في صمتٍ، ويغفو قليلًا، ومع أذان العصر يخرج، ولا يعود إلا قبيل منتصف اللَّيل؛ لينام.. ما عادت تسأله أين كنت، أو لماذا تأخرت، وتتحاشى قدر الإمكان الضَّغط علي أعصابه رغم ما تكابده من الوحدة القاتلة. هي تعلم أنَّه يقضي الفترة من العصر إلى المغرب تحت ظلال أشجار التّين، ينتحي جانبًا، يراقب حركة العابرين حينًا، ويُقلّب وجهه في السَّماء أحيانًا أخرى، ثُمَّ يتوجَّه إلى المقهى الصَّغير الكائن في شمال النَّجع، يقتل وقته بسحب أنفاس النَّارجيلة، يزفر فيختلط دخانها بما اختمر في صدره من همومٍ، وربَّما أغراه أحد الرّفاق بلعب الدّومينو أو الطاولة، لكنَّه سرعان ما ينسحب، وينقل كرسيه إلى خارج المقهى، ويجلس وحيدًا في الهواء الطَّلق؛ فيتحاشى رواد المقهى كسر عزلته، ويكتفون بالنَّظر إليه بإشفاقٍ.. صار قليل الكلام، حتَّى تلك الأوقات القليلة التي تجمع بينهما في الفراش قد خلت هي الأخرى من شغفه، لقد تبدَّدت لياليهم القديمة المشبّعة بالغزل والحرارة، وحلّ محلها دقائق رتيبةٌ تجوس خلالها الوحشة والرّيح الباردة.
يخيم اللَّيل على الدَّار؛ فتسمع للصمت طنينًا غليظًا ينهش أذنيها، ولا يقطعه سوى صفير الجنادب والصّراصير، يأتي من الخلاء المجاور متصلًا؛ فتزداد وحشتها ويتسرَّب الخوف إلى قلبها، وتلوذ بالتّلفاز، تضغط أزرار "الريموت"، تستعرض القنوات الواحدة تلو الأخرى، تتوقَّف كعادتها عند قنوات الأطفال، تردّد الأغنيات الَّتي تحفظها عن ظهر قلبٍ من كثرة المشاهدة، تراهم يرقصون بوجوههم الملائكيَّة، ويصفقون بأكفّهم الصَّغيرة، وتتابع بشغفٍ ملابسهم الملوَّنة وحركاتهم العفويَّة وشفاههم الَّتي تشبه حبات التّوت، وتصغي بانبهارٍ إلى ما يخرج منها من كلماتٍ تشعر بحلاوتها في قلبها، تبتهج قليلًا، ولكنَّ حزنها المستبدُّ سرعان ما يطرد بهجتها الطَّارئة، ويهيمن كعادته على قلبها الَّذي استعبده طيلة سبع سنواتٍ؛ فتغلق التّلفاز، وتدفن رأسها بين راحتيها، وتستسلم لخواطرها من جديدٍ.
أنهت دراستها الثَّانويَّة المتوسطة، وتزوَّجت، وبعد عدَّة شهورٍ تسرَّب القلق إلى قلبها، فطرقت جميع الأبواب.. لم تسمع بطبيبٍ تثني عليه النّساء إلَّا وهرعت إلي عيادته، ولما خاب سعيها، جرَّبت كلَّ الوصفات؛ لتفكَّ كبستها.. علَّقت الجريد في حجرة نومها، وراقبت ميلاد هلال الشَّهر العربيّ، فلمَّا أبصرت قوسه الفضيّ الرّفيع، ألقت بالجريد بعيدًا عن حجرتها، وأحضر لها أخواتها من الإسكندرية قطعًا من شباك الصَّيادين لفَّتها حول وسطها، وركضت طولًا وعرضًا في حقول مزروعة بالباذنجان الأسود، والتقطت حبوب القمح من أمام الحَمَام، وتناولتها، ووصل الأمر بها إلى الدُّخول على الموتى قبل تغسيلهم والتحديق في أعينهم رغم رعبها، والمرور فوق جثثهم الهامدة. ولمَّا طال بها الأمد، ولم يحمل رحمها الجنين المنتظر، أوصت قريبًا لها قصد حجّ بيت الله الحرام، فأحضر لها من هناك عقدًا من العقيق الأحمر، وضعته في كوبٍ ممتلئٍ بالماء، وتركته بالخارج طوال اللَّيل، وعندما تساقط داخله ندى الصَّباح، أضافت ماءه إلى ماء غسلها، ثم ارتدت العقد في عنقها ولم تخلعه إلى الآن. يحييها الأمل كلَّ شهرٍ، فإذا ما نزل دم الطَّمث بكت بحرقةٍ، وأغرقت وسادتها بدموع الحسرة.
قالت أغلظهنَّ قلبًا: الشَّجرة البائرة حقَّ أن تقتلع من جذورها. وقالت أخبثهنَّ لسانًا: غيِّرْ عتبتكَ؛ فعدد النّساء كعدد النُّجوم. وقالت أمثلهنَّ طريقةً: أمسك عليك زوجك، وتزوَّجْ بأخرى ودودٍ ولودٍ تمنحك الولد. أمَّا هو فقد دخل الدَّار ذات يومٍ بوجهٍ مربدٍّ، وانفرد بنفسه داخل إحدى الغرف، وأحكم غلق الباب، وراح بعينين غائمتين يطالع للمرّة العاشرة النّسب والأرقام المظلَّلة باللَّون الفسفوريّ، ثم أشعل عود ثقابٍ؛ فالتهمت النَّار أول ما التهمت اسمه المطبوع، ثمّ تحوَّلت الورقة المحترقة بكاملها إلى رمادٍ. وبعد تردّدٍ طويلٍ وتأنيب ضميرٍ فاجأها بالخبر؛ فأصابها الذُّهول، واجتاحها خليطٌ من المشاعر المتناقضة، لكنَّها لمَّا رأته منكسرًا، يكسو وجهه الحزن، وتملأ عينيه الدُّموع، شعرت نحوه بالشفقة، فتمالكت نفسها، وسرعان ما عادت إلى طبيعتها الطَّيبة كغيمةٍ طالما أمطرنه بحنانها؛ فربتت على كتفه برفق، ومسدت شعره بكفّها النّاعمة، وقالت بحنوٍ بالغٍ: لستَ زوجي وحسب، أنت طفلي الذي لم ألده.
الخواطر خناجر تمزِّق رأسها، تتنهَّد بحرقةٍ، وتنهض من فوق أريكتها، تتوجَّه إلى خزانتها، تخرج ما دأبت على شرائه سرًّا، تطرح الكيس المنتفخ أرضًا، تلتقط من الخزانة بعض الشُّموع، تجثو على ركبتيها، تضع على الأرض فستانًا صغير الحجم، يليه قميصٌ أشدّ صغرًا، تصنع من ملابس الأطفال دائرةً زاهية الألوان، ثم تضئ ست شمعاتٍ، وتبدأ الاحتفال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...