فاطمة البسريني - ثمن الدم...

صمت المقابر يخيم على هذا المكان البارد .
كذلك رائحة الموت تملأ أنفها ، لا تعرف كيف تتخلص منها .
أحبته حبا جنونيا منذ أن أصبحت جثة ، لا تطيق فراقه أو الابتعاد عنه قيد أنملة.
كانت في البداية تراقبه من بعيد ، وتهتم وتحلل تصرفاته .
كانت تتساءل كل دقيقة ، كيف استطاع أن يقتلها ببرود ودون أن يرف له جفن ؟...
لم تعرف كيف استطاع أن يفعل بها كل ذلك وكيف سولت له نفسه أن يفقأ عينيها ، ويقطع لسانها وكيف كسر عظامها رفسا بقدميه ..
لم تك تظن أنه بتلك الهمجية واللؤم والعنف ..
قررت أن تتبعه إلى أي مكان يذهب إليه ، بهدوء تام ودون أن يشعر بوجودها .
في البداية بعد أن قام بقتلها ، لم يكن يحر جوابا عن سؤال الجميع عنها كان يردد فقط : ( لا أعرف ... لا أعرف ..)
لم يكن يحادث أحدا أو يذكرها في أي كلام له .
مرت أيام وأعضاؤها مرمية في تلك الثلاجة الباردة جدا .
صرخت فيه كثيرا :
ــ لا تفعل ... أيها الوغد .. لا تفعل .
ــ أخرجني من هنا ، أخرجني ... أرجوك
ـ سأتجمد هنا في هذه الثلاجة ..في هذا الصقيع .
كان يرص أعضاءها تباعا ،
رأسها في الرف العلوي من الثلاجة .
ــ كيف ؟ كيف تنزع رأسي عن باقي جسدي أيها الوغد اللئيم ؟
لم يكن يبالي بصراخها .
أحست بالراحة لما استقر رأسها هناك ، رغم أن عينيها جحظتا خوفا وكادتا أن تخرجا من محاجرهما ، وقد فغرت فمها دهشة ورعبا مما يقوم به .
ووضع رجليها ويديها في الرف الثالث .
صرخت فيه بغيظ وحنق وهو ينزع من أصبعها خاتم خطوبتهما :
ـــ لا تنزعه أيها اللعين ، لا تنزعه فهو يعجبني .
لم يعرها أي اهتمام وهو يضع باقي جثتها في الرف الثاني فقد كان أكبر رفوف الثلاجة .
لما كان يأخذ منها الخاتم تشنجت ، وتصلبت بقوة دفاعا عن نفسها ، لكنه لم يأبه لذلك أبدا بل أخذ فأسا وكسر رجليها من الركبتين ، ويديها من المرفقين ليتمكن من إدخالهما إلى صندوق الثلاجة البلاستيكي البارد جدا ، على الرف الثاني .
حاولت أن تبعده بيديها وأن تركله برجليها ، لكنه كان مسيطرا عليها وكأنها ميتة .
سخط وهو يقوم بذلك وغضب فازداد عنفا وقوة ..
في اليوم الموالي ، جاء يتفقد الثلاجة ، لم يكن هناك أي تعبير على وجهه ، كان وكأنه قد من حجر ، تمنت فقط لو ترى بعض الندم على ما فعله بها ،
لكن لا ، لم يظهر على ملامحه الجامدة أي شيء من ذلك بل ألقى بنظره إلى الصناديق الثلاثة من البلاستيك الشفاف دون اهتمام ، وبلامبالاة أغلق باب الثلاجة عليها من جديد .
تمنت لو قال لها صباح الخير ، لو كلمها فقط ، لو ألقى عليها بعضا من سبابه وشتائمه ، أي شيء، فقد ضجرت هناك على تلك الرفوف وملت وحدتها القاتلة ، الباردة .
ابتسمت قليلا بينها وبين نفسها ، اطمأنت أنه تذكرها وجاء ليزورها .
حاولت أن تخلد إلى النوم وقد ارتاحت نفسها قليلا من الاضطراب والرعب الذي استولى عليها أثناء تقطيعه لأطرافها وإطاحته برأسها وحين اقتلع عينيها وسحب لسانها بعنف لا مثيل له ، من عمق حنجرتها وهي تتألم وتصرخ بقوة لم تعهدها في نفسها أبدا .
تذكرت كل ما مرت به من عذاب وآلام شديدة ، لكنها الآن ، بعد أن هدأت قليلا ، فكرت أنها تحتاج إلى بعض الدفء فقط لكي تستطيع أن تنام وتريح نفسها من كل هذا التعب الذي تحسه .
لو كان لها ذراعان لحمت بهما جسمها الذي أصبح عبارة عن كرة من الثلج ( يا إلهي .. ما كل هذا البرد الصقيعي وكأنني قد لففت في الثلج لفا؟) .
أحست ببعض الخوف ، تساءلت كيف آل بها الحال إلى ما هي عليه ؟
انكمشت على نفسها ، أحست بقلبها جامدا ، باردا وكأنه لا حياة فيه ،
فمتى تخرج من هذه الثلاجة وكأنها قبر بارد مظلم ؟
تذكرت أنها ميتة ، شر ميتة ...
(ـ هل هذه نهايتي ؟ صرخت بكل قوتها : ( هل هذه النهاية ؟ ) أحست أن المكان الذي توجد به قد زلزل بالكامل من قوة وعلو صرخاتها وأن شظايا الثلج تتطاير حولها .
حاولت أن تستعيد أنفاسها وأن تتماسك ، فليس من صالحها أن تفقد سيطرتها على نفسها .
طافت بذهنها فكرة أنها إذا كانت تجد نفسها ضائعة وتعيسة لهذه الدرجة في وضعها الراهن ، فمن المحتمل جدا أن يكون ذلك الإحساس ناجما في بعضه على الأقل من أن الأمر خارج عن إرادتها .
وتعمقت في التفكير ،
لو أن رأسها موصول بجسدها لاستطاعت أن تجد حلا ، لكن هناك مشكلة ليست لديها القدرة على حلها ، مشكلة فرضت عليها فرضا من غير أن تختار منها ولو أبسط الأمور .
كل ما تتذكره وسط هذا الجو البارد المؤلم أنها فاشلة في كل شيء وعديمة الموهبة والمسؤولية .
كانت شخصا لا أمل يرجى منه ، فقد رسبت في دراستها ، حتى أن الجميع كان يسخر منها ، كان والدها غاضبا جدا منها غضبا حارقا أشعرها بكل خيبتها ومرارتها .
كل شيء كان يخونها لقد أخفقت في كل شيء رغم ما حظيت به من فرص أتاحها لها والدها وأسرتها .
عانت كثيرا بسبب ذلك ، وأصابها اكتئاب شديد وعميق لدرجة أنها كثيرا ما فكرت في وضع حد لحياتها البئيسة تلك .
أصابها ملل قاتل من كل ذلك ومن احتجاجات أهلها خاصة وأن جميع عائلتها عرفوا بنجاحهم في كل ما قاموا به من أعمال .
وفي لحظة إدراك بسيطة ، أحست فيها بالمسؤولية عن ذاتها وتأكدت أنها يجب أن تبحث عن طريقها لأنها مسؤولة عن حياتها .
حينئد قررت الاشتغال ، وهناك في ذلك الشغل في معمل النسيج ذاك التقت به وأحبته وخطبا ...
وقهقهت ...
ظنت أنها أخذت بالسير على طريقها الخاص بها .
( ــ لا ـ ربما أنا مسؤولة عن موتي .
لكن لماذا ما زلت أفكر رغم انفصال رأسي عن جسدي ...).
ما كانت متأكدة منه ، أننا في حالة اختيار دائم سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه .
إنها تدرك تماما أنه قتلها وأنها ميتة .. ميتة شنيعة .. قطعت أطرافها وكسرت وتم جز رأسها عن جسدها .. وهو بعيد عنها الآن .
ولكنها مع ذلك مازالت تحس أنها حية ،
لن تفارقه ، ستلازمه ، ستكون معه في كل مكان وزمان ، ستدخل عقله وستوجهه كيفما تشاء .
يجب أن تجهز نفسها لذلك منذ الآن ، وبمجرد أن يفتح باب الثلاجة مرة أخرى فإنها ستتسلل إلى عقله بسرعة وتستولي عليه .
(إذا لم تهتم بنفسها فلا أحد سيفعل ذلك ) .
أخذت تدندن بكلمات اخترعتها للتو : (إما أن الحب ليس لي ، أو أنني لم أوجد لأحب ... ها هاها ... أم أمممممم ).
(كيف أخذ خاتم خطوبتي بكل ذلك العنف ، لن أسامحه على ذلك أبدا ..
كيف أمكنه أن يكسر قلبي إلى أجزاء في وقت وجيز ..
أعيش هنا بقلب منكسر واجف ، وخوف رهيب أنك ستتركني ..
المصيبة الأعظم أنني محتجزة في هذه الثلاجة اللعينة ولا أعرف هل نحن في النهار أو في الليل ...)
تساؤلات عديدة دارت بنفسها ، صديقها الوحيد في هذه المأساة التي تعيشها .
وعادت لتتفاءل : ( قولي يا نفسي أنك كنت لاشيء ، وأنك لم تلمعي وكنت تعيشين ميتة طوال حياتك ، لكنك الآن ستعيشين وأنت ميتة ..
كانت أفكاري سوداء كسواد الليل ، لكن الآن فقد انبثقت تلمع كالنجوم).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...