إنك لا تدخل المدن ، و لكنك تغوص في أعماق ذاتك ، بحثًا عن صور المدن في خيالك ، مكة المكرمة ما هي في الواقع المرئي ؟ مجرد مكان ، بطحاء ضيّقة تكاد تخنقها الصخور الجُرد التي تحيط بها ، عمارات و طرق و أسواق ، و جموع من البشر ، بعض قُطان هذا المكان ، يبيعون و يشترون ، و يأكلون و يشربون ،
و يروحون و يجيئون ، و كأنهم في قرية أخرى ، و كأنهم في واد آخر .
سبحان الله ، في هذا المكان بالذات ، هرولت المرأة ، و صرخ الطفل ، و انبثق النبع ، ثم توافدت أفئدة الناس و ارتفعت أركان البيت .
ثم تفجّر نبع آخر ، تفجر بعد قرون ،
و تفجر في اللحظة نفسها ، و تفجّر منذ الأزل ، قبل أن تكون السماوات و الأرض ، امرأة أخرى و طفل آخر ، كان إسماعيل مثل اليتيم ، و هذا محمد بن عبد الله ، يتيم بالفعل ، أشرقت السماوات و الأرض ، كفت الذئاب في الوديان عن مطاردة الغنم ، و لبدت السباع في شعاب الجبال ، و سكنت الطيور في أوكارها ، أرهق الزمان سمعه للصوت العجيب ، الذي يأتي من كل مكان و من لا مكان ، و لم يدر أهل مكة ، إلا السعداء الذين كانوا يعلمون و ينتظرون ، أن ميلاد الطفل العربي اليتيم ، كان بشيرًا بمولد عالم جديد ، انطلاقة فرح كبير ، له وقع المأساة .
لذلك ، فأنت حين تدخل مكة ، فإنك لا تدخل مدينة بعينها ، في مكان بعينه ، تجيء و كأنك تعود إلى نقطة منطلق الأحداث و كأنك تدخل في مركز الدائرة . و أنى لك يا مسكين أن تقوى على كل ذلك ؟
تعالَ عند الفجر أو في الضحى أو قبيل الغروب ، تعال في الصيف أو في الشتاء ، تعال من أم درمان أو من أصفهان أو تطوان ، تعال من جدة ، سِرْ في الطريق الذي سارت فيه قوافل المحبين الأوائل رحمهم الله أمثال حاج الماحي ،
و اغطس في لُجّة الليل ، و انهلْ من ضوء الفجر ، و افتح نوافذ روحك قدر المستطاع لانعكاسات ألوان السماء و الأرض و الجبال .
حين تدخل أم القرى ، و ترى مآذن البيت العتيق المعمور ، فإنك لن تكون مهيأً للدخول ، و لن تكون أهلاً للدخول ، لا تتعجل ، تريث قليلاً و انظر إلى الحشود الراكعين و الساجدين ، انظر إلى الطائفين حول الكعبة ، كما يجري الماء في عروق الشجرة ، تخيّلْ نقطة البدء كما وصف التجاني يوسف بشير رحمه الله :
ربِّ في الإشراقة الأولى على طينة آدمْ
أمم تزحم في الغيب و أرواحٌ تحاوَمْ
ادخل الآن في الزحام ، إنك عار كما ولدتك أمك لو تدري ، رغم الإزار حول وسطك و على كتفيك ، كانوا يطوفون عُراةً في الزمان الأول ، زمان بكورة الحياة ، و لم يكن ذلك من أفعال البذاءة ، البذاءة جاءت عندما سقطوا
و سقط عنهم لباس الطُّهر الفردوس ، وبدت لهم ، كما بدت لآدم و حواء ، سوءاتهم .
اندسّ في غيابات الزحام ، فأنت في الحقيقة لا شيء ، لا أكثر من نثار الهباء في ملكوت الله ، مهما بلغ شأوك في موازين أهل الدنيا ، فُك الأغلال التي كبلتك بها الدنيا ، تخفّف من أثقالك قدر المستطاع ، إن كنت صاحب جاه فارم عنك أعباء جاهك ، و إن كنت صاحب مال ، فألق بخزائنك في هذا البحر ، و إن كنت صاحب اسم أو صيت ، فلن يغني عنك اسمك و لا صيتك في ذلك الزحام . انْس إن استطعت ، و لكنك لن تستطيع ، فأنت في الدنيا و بها ، و هي محيطة بك مثل الموت ، أقرب إليك من حبل الوريد ، إنما حاول جهدك ، فوشيكًا سوف تعود إلى ما كنت فيه ، و قد تفيق و قد لا تفيق .
قبل الحجر الأسود فهو ليس حجرًا ،
و تعلق بأذيال الكعبة ، و استنشق العطر ، فهو ليس من عطور هذا الزمان ، و تكون سعيدًا إذا جرت الدموع من عينيك ،
و خفق قلبك و اهتزّت أركان ذاتك .
هرولْ بين الصفا و المروة ، كما هرولت أم الوليد أول الأمر ، و الطفل يبكي ، و لا ماء و لا قوت و لا أهل ، و شيء جليل يوشك أن يحدث له طعم المأساة .
ثم اجلس في صحن المسجد ، و تأمّل و تمهّل ، و تزوّد وسعك ، عما قليل سوف تعود إلى ما كنت فيه ، سوف تطمرك الحياة بهمومها و أهوائها و أكاذيبها ، سوف تعود إلى جاهك و سلطانك ، إلى مالك و خدمك و حشمك ، إلى اسمك و صيتك . كنت متسربلاً و أنت عار في هذا المكان ، و حين تتلبّس ثيابك و أوهامك
و شهواتك ، سوف ترتدّ إلى عُريك القديم ، فتمهّل و لا تعجلْ ، و قد تفيق و قد لا تفيق .
و يروحون و يجيئون ، و كأنهم في قرية أخرى ، و كأنهم في واد آخر .
سبحان الله ، في هذا المكان بالذات ، هرولت المرأة ، و صرخ الطفل ، و انبثق النبع ، ثم توافدت أفئدة الناس و ارتفعت أركان البيت .
ثم تفجّر نبع آخر ، تفجر بعد قرون ،
و تفجر في اللحظة نفسها ، و تفجّر منذ الأزل ، قبل أن تكون السماوات و الأرض ، امرأة أخرى و طفل آخر ، كان إسماعيل مثل اليتيم ، و هذا محمد بن عبد الله ، يتيم بالفعل ، أشرقت السماوات و الأرض ، كفت الذئاب في الوديان عن مطاردة الغنم ، و لبدت السباع في شعاب الجبال ، و سكنت الطيور في أوكارها ، أرهق الزمان سمعه للصوت العجيب ، الذي يأتي من كل مكان و من لا مكان ، و لم يدر أهل مكة ، إلا السعداء الذين كانوا يعلمون و ينتظرون ، أن ميلاد الطفل العربي اليتيم ، كان بشيرًا بمولد عالم جديد ، انطلاقة فرح كبير ، له وقع المأساة .
لذلك ، فأنت حين تدخل مكة ، فإنك لا تدخل مدينة بعينها ، في مكان بعينه ، تجيء و كأنك تعود إلى نقطة منطلق الأحداث و كأنك تدخل في مركز الدائرة . و أنى لك يا مسكين أن تقوى على كل ذلك ؟
تعالَ عند الفجر أو في الضحى أو قبيل الغروب ، تعال في الصيف أو في الشتاء ، تعال من أم درمان أو من أصفهان أو تطوان ، تعال من جدة ، سِرْ في الطريق الذي سارت فيه قوافل المحبين الأوائل رحمهم الله أمثال حاج الماحي ،
و اغطس في لُجّة الليل ، و انهلْ من ضوء الفجر ، و افتح نوافذ روحك قدر المستطاع لانعكاسات ألوان السماء و الأرض و الجبال .
حين تدخل أم القرى ، و ترى مآذن البيت العتيق المعمور ، فإنك لن تكون مهيأً للدخول ، و لن تكون أهلاً للدخول ، لا تتعجل ، تريث قليلاً و انظر إلى الحشود الراكعين و الساجدين ، انظر إلى الطائفين حول الكعبة ، كما يجري الماء في عروق الشجرة ، تخيّلْ نقطة البدء كما وصف التجاني يوسف بشير رحمه الله :
ربِّ في الإشراقة الأولى على طينة آدمْ
أمم تزحم في الغيب و أرواحٌ تحاوَمْ
ادخل الآن في الزحام ، إنك عار كما ولدتك أمك لو تدري ، رغم الإزار حول وسطك و على كتفيك ، كانوا يطوفون عُراةً في الزمان الأول ، زمان بكورة الحياة ، و لم يكن ذلك من أفعال البذاءة ، البذاءة جاءت عندما سقطوا
و سقط عنهم لباس الطُّهر الفردوس ، وبدت لهم ، كما بدت لآدم و حواء ، سوءاتهم .
اندسّ في غيابات الزحام ، فأنت في الحقيقة لا شيء ، لا أكثر من نثار الهباء في ملكوت الله ، مهما بلغ شأوك في موازين أهل الدنيا ، فُك الأغلال التي كبلتك بها الدنيا ، تخفّف من أثقالك قدر المستطاع ، إن كنت صاحب جاه فارم عنك أعباء جاهك ، و إن كنت صاحب مال ، فألق بخزائنك في هذا البحر ، و إن كنت صاحب اسم أو صيت ، فلن يغني عنك اسمك و لا صيتك في ذلك الزحام . انْس إن استطعت ، و لكنك لن تستطيع ، فأنت في الدنيا و بها ، و هي محيطة بك مثل الموت ، أقرب إليك من حبل الوريد ، إنما حاول جهدك ، فوشيكًا سوف تعود إلى ما كنت فيه ، و قد تفيق و قد لا تفيق .
قبل الحجر الأسود فهو ليس حجرًا ،
و تعلق بأذيال الكعبة ، و استنشق العطر ، فهو ليس من عطور هذا الزمان ، و تكون سعيدًا إذا جرت الدموع من عينيك ،
و خفق قلبك و اهتزّت أركان ذاتك .
هرولْ بين الصفا و المروة ، كما هرولت أم الوليد أول الأمر ، و الطفل يبكي ، و لا ماء و لا قوت و لا أهل ، و شيء جليل يوشك أن يحدث له طعم المأساة .
ثم اجلس في صحن المسجد ، و تأمّل و تمهّل ، و تزوّد وسعك ، عما قليل سوف تعود إلى ما كنت فيه ، سوف تطمرك الحياة بهمومها و أهوائها و أكاذيبها ، سوف تعود إلى جاهك و سلطانك ، إلى مالك و خدمك و حشمك ، إلى اسمك و صيتك . كنت متسربلاً و أنت عار في هذا المكان ، و حين تتلبّس ثيابك و أوهامك
و شهواتك ، سوف ترتدّ إلى عُريك القديم ، فتمهّل و لا تعجلْ ، و قد تفيق و قد لا تفيق .