انتصار ابراهيم عمران (أليسار عمران) - أحلام...

سنة/١٩٦٣/بترياس/اللاذقية/سورية

كنتُ أنتعلُ حذائي البلاستيك،أرتدي فستاناً قصيراً ممزّقاً لفوقِ الرّكبةِ، والمطر ينهمرُ من السّماء بقوّة.لستُ أدري أكانَت السماءحينها رقّتلتبكي معي عليّ..
كان غضبُ والدي يملأُ حيطان منزلنا الطينيّ، أميّ تضع الحطبّ في التنور،يمتزجُ الرّغيفُ بدموعها، فيقمرُ وجهه ليروي جوعنا، صوتُ البقراتِ والماعز بدا حزيناً،حتى العشبُ قرب البئر جثا على ظهره، ستسافر رفيقتهمماريا قريباً، وسيفتقدها الجيران الذين ترعى لهم أغنامهم مع بقراتها.

كانت والدتي تحرثُ الأرض،ترش الحنطة، تحصدُها، وتأخذها للمطحنة بعيداً إلى قريةِ بيت ياشوط،أذكرُ أنّ الضبعة لحقتها ذات مرة فاستجار بها جارنا أبو مروان، وهمس لها(الله يستر عليك ياخالتي احميني منها)، ثم سألها:ألا تخافين أنت!؟
فضحكتْ وقالت له:
- ممّ يخافُ الموتى يا أبو مروان وعلى ماذا أخافُ!؟
على انتهاء المرارة وشظف العيش!؟
أوعلى أنوثتي !؟
لقد علمتنا الظروف كيف نصبح رجالاً..
ثمّ ذكرتهُ بأمها ياسمين التي ركبت على الحصان ولحقت بقُطّاع الطرق حتى أطراف مدينة جبلة واستعادت بقرات الضيعة ببندقية غير محشوة بالرصاص!
كان أهلُ القرية يسمونها(زلمتنا ياسمين أم الرجال)..

أيتها الفتاة المغضوبة،يصرخ أبي بوجهي فأتصدّعُ كجليدٍ وأرتجف ،وأتداعى كغيمةٍ سوداء، ألوّحُ بقلبي لهذا العالم بكلّ أسى..
- يجب أن تسافري إلى بيروت، جميع فتيات القرية سافرن.
يشدّني بشعري، يصفعُ وجهي بكل ما أوتيَ من قوة، تنتزعني أمي وتأكل نصيبها من اللطم والشّتائم.
مازلتُ أتذكر كيف كانتتخفي الزّيتوالقمحوالدّخان على السطح، تغطّيه خفيةً عن( الورديانية )الذين كانوا ينهبونَ كلّ مايجنيه أهل القرية،كانت أمي تسيّج السطحوترمي عليه الحطبوتخفي المحاصيل وتغطّيها بالخيش، وحين يحاولون اكتشاف السطح تدّعي أنها تغطي البرغل بدل موسم الدخان.
لقد كانوا يسرقون كل شيء، حتى حفنة الدخان في مطبقية أبي، الزيت وموسم الدخان.. البقرات والغنم أيضاً!

يريدُ والدي أن أعمل خادمةً في لبنان، فهو يحتاج للمالِ كي يطعم أهل القرية، فعلى الرغم من قسوته كان كريماًومضيافاً.
وفي كلّ مرةٍ كانوا يشترون لي ملابس جديدة للسفر،كنتُ أملأ القرية بالنّحيب والبكاء، وقبل أنْ يتمّ تسليمي أتسلّلُ خلسةً، أتبعُ خطوات الرجل الذي أوصلني،أختبئ تحت كراتين البسكويت،ثم أهربُ،أركضُ مسرعةً وأعود إلى كربتي أهلي،فينهالوا عليّ بالضرب والشتائم،يفترّ وجه أبي غاضباً كبركانٍ، يعاقبني بجمع الحطب يوميّاً مع الحرمان من قطعة الخبز الوحيدة التي تسدّ رمقي، يبدأ بجلدي كل صباحٍ كوجبةِ فطورٍ شهيّةٍ.
أذكر أنني تعبتُ مرّةً وجعتُ،عدتُ إلى البيت أتلوّى من التّعب والجوعِ،وحين رآني أبي سألني:لماذا أتيتِ!؟قلت له: جائعة يا أبي، أريد كسرة خبز.زجرني وأعادني إلى أرضِ البئر، وبعد ساعةٍ تقدّمتْ أمي وقد سرقتْ لي قطعةالخبزِإلى الحقل، فالتهمتها،وارتويتُ بعد مضغها من البئر، ومن بعدها كنتُ أتعشى جوعي وأنام!.

تزورنا عمتي اعتدال وتبدأُ بتحريض أبي علي قائلةً له:لن ترى الخير إلا بعد رحيل غراب الشؤم تلك، دعها تسافرْ واخلص منها ..
كم دعوتُ الله أن يعاقبها في سري، تحملتُ عاماً كاملاً أرفض السفر،وأعمل طوال اليوم،كمن خيّروه مابين الأعمال الشاقةومابين الرحيل إلى الأبد.

حتى جاء جارنا أبو كامل وقال لأبي:هل أصطحبها معي إلى لبنان!؟
فقال له أبي خذها عدّمني الله رؤية وجهها.
سألتُ الله أن يعطني الصبربأن أرحل وأبقى ولا أعود أبداً..
وأخيراً سافرتُ برفقة أبوكامل، كانَعمري عشر سنواتِ وصلتُ إلى المكتب الذي يستقبل الفتيات في منطقة بحمدون بلبنان، لقد أوصاهم أبو كامل بأن يحسنوا معاملتي وكتب معهم عقدأمانة وقبض مبلغاً من المال،سلمني المكتب لامرأة عجوز في بيروت،حين وصلتُ كنت أشعر بالخوف،كانت مهمتي تقتصر على تغيير الحفاضاتلكني كنت أحاول أن أرتّب لها منزلها وأعد لها وجبات الطعام بالإضافة إلى عنايتي بتغيير حفاضاتها بشكل يومي، غريبةٌ خائفة أتوسّلُ بعض محبّة وأمانٍ، أخشى أن تلفظني الحياة في متاهات الضياع،ستتعلم كيف تتودّد حتى للذئاب لتنجو.
قالت تلكالعجوز أنني طفلةٌ مرتبةٌ،نظيفة،أجيد كل شيء، ولكنني لم أستحمل ذاك الوضع طويلاً، فهربتُ إلى المكتب ببحمدون، قلت لهم أنا أدعى أحلام أريد عملاً في منزلٍ آخر،لم أعد أحتمل رائحة الحفاضات، كان قد حضر السيد رحال الذي كان يبحثُ عن فتاة تساعد السيد آدم،فقال له صاحب المكتب حظك جميل خذ أحلام وانتبه لها، فهي أمانة غالية، ركبتُ قربهُ في السيّارة وعدناإلى بيروت،طفلة تتخذ من الذئب بعض أمان بكلّ براءةالأطفال،لقد حاول أن يلمس ركبتي،انتفضتُ وأزحتُ يده بسرعةٍ، وقلت له:صاحب المكتب أوصاك بي، أنا أمانة، احترم نفسك،فأبعد يده والتزم أدبه .

وأخيراً وصلتُ منزل السيد آدم وزوجته كلاديسا
كان السيد آدم مسؤولاً في البنك،وزوجته تعمل بالخياطة وتدير مصانع الخيوط والقماش،المنزل يشبه القصر تماماً،أمرت كلاديسا مساعد زوجها أن يشتري لي من السوق بدلتين داخليتين،وأحذية جميلة، وبجامتين قطنيتين،وبعض الفساتين وربطاتٍ للشعر ثم احتضنتني وقالت:اسمعي ياأحلام مازلت طفلةً صغيرةً،لكنني سأعلّمك كل شيء، ستنامين في غرفة مريان ومروى بناتي،أريدك أن تنتبهي عليهن في غيابي،العبي معهن واحذري أن تغادرا سور الحديقة سأعوضك عن كل شيء،من اليوم أنت ابنتنا الجميلة.

تعلقت الفتاتان بي،كانتا تغفوان بحضني،أنا المحرومة من العطف والحنان، غدوت لحافاً يغمرُ الطفلتين، ألعب مع مروى، أجدلُ شعر مريان، نغني نرقص،أصبحت لهم بمثابة ماما صغيرةٍ.

تعلمت الطبخ بسرعة، الغسيل بغسالة الأوتوماتيك، صنع الحلوى،كيّ الملابس وترتيبها في الخزانات، كانَ بودي لو أسكب روحي على منزل آدم وكلاديسا!

كانت حياتي معهم جميلة جداً، فالسيد آدم وزوجته وأطفاله ذابوا بقلبي كقطعة السكّر،لدرجة أنني نسيتُ أهلي،لابل تنّكرت لهم، ولم أعد أحب أن أسمع سيرتهم،لقد شعرتُ بإنسانيتي،بجمال حضوري، بخوفهم عليّ، هدايا عيد الميلاد، مضت السنوات الستّة والسيدة كلاديسا تتلقى أسئلةً حول فتاةٍ اسمها ماريّا، وذات يومٍ،
احتضنتتي وسألتني هل أنت هي ماريا يا أحلام!؟
هناك شابٌّ يسألُ عنكِ واسمهُ عبد المنعم، وقد سأل عنك رجلٌ كبيرٌ اسمه عبد الرحمن منذ سنةٍ تقريباً .
أطرقتُ بخجلٍ وقلتُ لها:نعم أنا ماريّا لا أريدهم يا كلاديسا
فقالت لي:اسمعي ياطفلتي مهما كانت ظروفهم، سامحيهم، وقابليهم،الأهلُ يحبون أطفالهم، ولم يتقصّدوا أبداً جرحَ مشاعرك،أما نحن فوالله اعتدنا أنك طفلتنا الجميلة..
وسيكون رحيلك مؤلماً على مروى ومريان!

كنتُ أرتدي فستاناً أبيض و كندرةً حمراء،وقد رفعتُ شعري الناعم بربطةٍ أنيقةٍ صفراء،حين وصلَ أخي عبد المنعم،مازلتُ أتذكرُ كيفَ انسكبَ الدم من أنفه حين رآني،لقد تذكر كم تمسكتُ بكمّه وصرختُ وهم يجرّوني للرحيل، ساعدني يا عبد المنعم..وهو يشير لي أن اهربي اهربي ياماريّا!

ودّعتُ عائلة آدم بالبكاء والدموع، احتضنتُ مريان ومروى والسيدة كلاديسا،بدأنا ننهمرُ بالدموع،فبرعم الورد قد أزهر هنا، وحان وقت قطافه .
حنوتُ رأسي للسيد آدم الذي كان أباً حنوناً فقبّل جبيني وهو يخفي دموعه، لو كان بمقدوري أن أترجم الشعور لحظتها كنت ترجمته بكلمة واحدة هي الوجود!

تأبطتُ ذراع أخي عبد المنعم الحنون، طوال الطريق كان يسأل نفسه، كيف طاوعه قلبه أبي على التفريط بأجمل صبية بالكون !

حين وصلت القرية، كنت في السادسة عشرة من عمري،صبيةٌ جذابةٌ مغريةٌ للناظرين، حجّبني أبي، لستُ أفهم كيف أدركه الشرفُ العربي فجأةً!
زوّجني لأوّل متقدّمٍ، أقسمتُ بأن أكونَ أمّاً وأباً لأطفالي،مازالت حكايةُ انتزاعي لست سنواتٍ تغفو على قاع قلبي،أعملُ لساعاتٍ متواصلةٍ، أريدُ أن أنسى وقع حاثةِ السفر المؤلمة، كبرَ أولادي وسط قلقي ومخاوفي،كنتُ أبالغُ بتقديم العطف والحنان والاهتمام،لطالما كان زوجي رحمه الله يغار من دلالي لأولاديسعيد ونصار يقول لي (الولد إذا ماظلمتيه يظلمك)
يهمسُ لي تذكري جيداً سيبيعونك بعد موتي سيتنكرون لك ويرمون غلّهم في صدرك، لقد ارتفعت أصواتهم عند توزيع الميراث بعد وفات والدهم بيومٍ واحدٍ،لقد بنى لنا بيتاً بعيداً عن الأولاد،
ويقول لي ضيوفهم لايشبهوننا، وهم لايطيقون ضيوفنا لنبتعد ونطمئن عليهم من بعيد لقد تقاتلوا على حصتهم من الإرث، فسقطتُ مغشيةً بنوبةٍ قلبيةٍ حادةٍ..

في المشفى٣/٣/٢٠٢٣/بيروت

كانت كلاديسا تضعُ يدها على جبيني، وآدم يشعر بالقلق وماريان ومروى تقبّلان خدّي، حين استيقظتُ من العملية الجراحية والطبيب يقول لي:
الحمد لله على السلامة يا أحلام..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...