محمد فتحي المقداد - أيام الفرنك/قصة قصيرة

قطعة نقدية معدنيّة ذات قيمة صغيرة في سُلّم أجزاء الليرة السوريّة (فرنك) سقطت من أحدهم على الرصيف، جاء انتباه سالم لها عرَضًا، وقعت في مرمى سهام عينيْه عندما عثرت رجله اليمنى بنتوء بارز من إحدى بلاطات الرّصيف المُتهالك قِدَمًا، فما امتدّت له يد الصيانة منذ إنشائه.
انحنى مُتثاقلًا لالتقاطها، فركها بين اصبعيْه، نفخ عليها بأنفاسه الحرّى المقهورة الخارجة من أعماقه المكتومة، تفّحصها مليًّا، افْتَرّت شفتاه عن ابتسامة شقّت طريقها بعناد في سبيل وصولها للشفتيْن، انفرجت أسارير وجهه المختفية خلف أبواب اليأس والإحباط الموصدة، منذ طرده من عمله في شركة خاصة، بعد خلاف مفتعل من أحد زملائه الذي وشى به للمدير التنفيذي، وقد أحرق كل أوراق الخيارات البديلة لتفهّم المدير، والتحقيق والتأكد مما نًسب إلى سالم، الموظف النشيط الصّاعد بهمّة عالية وثقة في الوصول لاستلام رئيس قسم المحاسبة، وبذلك يكون صاحب أمر وشأن، الحسد والغلّ أعمى قلب زميله فهد.
مازال مبهورًا بقطعة النّقد التي لا تساوي شيئًا يُذكر مع غلاء المعيشة، والارتفاع المُستمرّ في أسعار المواد الغذائية الأساسية، انقطع راتبه منذ أشهر وهو ينتظر حُكم القضاء عمّا حصل له بالفصل التعسّفي، والآمال تحدوه لإنصافه باستلام مستحقّاته كاملة، وعن العطل والضرر الذي لحق به، وإعادة الاعتبار الأدبي له، كي يستطيع العمل لدى شركات أخرى بعد انتهاء وقضيته.
مشاعره التهبت على وقع سقف تخميناته المتصاعدة في طريق أحلامه المؤجلة، راودته نفسه عمّا يستطيع شراءه من (السوبرماركت) بهذه القطعة التي لم يحض بها منذ سنين غابرة في النسيان، كثيرًا ما كان يترك الأجزاء المعدنية (الفراطة) للشاب الجالس خلف ماكينة (الكاشير)، أطفاله الصغار لم يألفوها بين أيديهم وفي جيوب سراويلهم.
الرّصيف مطروق بكثرة العابرين، خطواتهم مُستعجلة للحاق بأعمالهم، روائح العطر المختلطة بتعرّق أجسامهم، وبعض من روائح زكيّة صادرة عن الجنس اللّطيف تخترق عالمه بلا استئذان، لم تستطع إخراجه من غيبوبته الفاصلة بين عالم تأمّله الغارق في القطعة النقدية (فرنك)، وبين محيطه المُتحرك كقطار لا يتوقّف لانتظار أحد.
- آه..!، يا لها من مفاجأة سارّة، منذ متى يا (فرنك)، لم تكتحل عيناي بجمال لونك الأصفر النحاسيّ، وقبل ذلك في أيام صغري كان (الفرنك) الأبيض، يا لها من ذكريات غابرة في مجاهيل النسيان، وما أصدق مقولتهم: (خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود) رغم أنّ كلّ خمسة قروش تعادل فرنكًا، أيامها كُنتَ ذا شأن عند الباعة، سأحتفظ بك على سبيل الذكرى، أوّلًا، وسيكون لك دورًا آخر في تدفئة جيبتي الفارغة تمامًا، ستعيد إلى قرارة نفسي شعورًا بالأمان.
نعومة يد لامست يده الماسكة بالفرنك، كأنّما سرى مسّ كهربائيّ في جسده وهو ينتفض من المفاجأة، أنّها وضعت بيده قطعة نقديّة فئة الخمس والعشرين ليرة المعدنيّة ذات الإطار الذهبّي.
ذهول سيطر على ملامحه والقطع النقدية تزداد في يده كل دقيقة، امتلأت كفّه، انتفض من جديد بصحوة، يطالع الوجوه بعضها باسم وآخر عابس، انتقلت رجله خطوة للأمام وتبعتها الأخرى، والنقود ما زالت توضع في يده، اتّخذ قراره الجريء بالابتعاد من هذا المكان.
***

شارعٌ جديدٌ مزدحمٌ بمحلّاته التجاريّة متعدّدة الأنشطة، لافتاتٌ جميلة بأشكالها وألوانها، متربّعة فوق أبواب المحلّات دالّة على النشاط التجاريّ لكلٍّ منها.
(مكتبة الكتاب العربي)، (محل الحذاء العربي)، (جريدة القدس العربي)، (البنك العربي)، (المكتب العقاريّ العربي)، (العباءة العربيّة)، (مأكولات عربيّة)، (الاتحاد العربي للسفر)، (مكتب الجامعة العربيّة للخدمات الجامعيّة).
تحتدم الصراعات في نفسه مُجدّدًا، وانتقالها إلى الصعيد العربيّ، مبتعدة به عن همومه الشخصيّة، لاستعراض خارطة الوطن العربي، المنقوشة في قلبه منذ أيّام الدراسة، حفظها بكافّة مُنحنياتها وتعاريجها من خليج إسكندرون المحتلّ مرورًا عبر انحناء شاطئ فلسطين الجنوبيّ عند وصوله قطاع غزّة، مُنتقِلًا بقلم الرصاص إلى نهر النيل، ولا تتوقّف يده إلا بعد أن يُدقق بمهارة حاذقة على مضيق جبل طارق، ليعبر من خلاله المحيط الأطلسي بخطٍّ مُنحَنٍ جُنوبًا، بعد التطواف وتثبيت الشاطئ العربيّ، يعود من حبث ابتدأ لتثبيت خطوط (سايكس بيكو) المقدسة بين الدول العربية، لسانه لا يفتأ يتغنى:
"بلاد العُرب أوطاني.. من الشام لبغدان/ ومن نجد إلى يمنٍ..إلى مصر فتطوان"، مُتمنّيًا ركوب القطار من مدينة حلب إلى البصرة، ثم دمشق فالمدينة المنوّرة، ذات حلم طفوليّ، سأل معلّم الجغرافية:
- "هل باستطاعتي السفر إلى طنجة في القطار؟".
- "يا بني، الأحلام خلقت لتبقى تراودنا عن أنفسنا، وتسرقنا من واقعنا، ونلهث خلف سرابها مدى حياتنا".
- "ولكنّه حًلًمي يا أستاذّ".
- "لكنّ أحلام الطفولة لا تُناقش".
عاد سالم إلى نفسه، والحيرة تنهش قلبه، والكلمات تجمّدت على لسانه، جاهلًا أبعاد كلام أستاذه حينها، بينما هذه اللافتات تعلن عن مكنونات نفوس أصحابها في شارعهم الموسوم (شارع الوحدة العربية)، أسرع الخُطى باتّجاه بيته، تذكّر ابنه المريض، دخل صيدلية (الدواء العربيّ) وطلب شراء دواء خافض (الحرارة العربيّ).

عمّان - الأردن
3/ 4 / 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...