ظاهرة في فن محمود تيمور تتكشف للناقد الذي يتتبع آثاره القصصية بعين لا تنام، فهو في آثاره الأولى غيره في آثاره الأخيرة. . . ولو تناولت إحدى قصصه الطويلة أو القصيرة في بدء حياته الأدبية، لرأيتها تختلف اختلافاً واضحاً عن مثيلتها فيما يكتب من قصص في هذه الأيام. قصاص اليوم يختلف عن قصاص الأمس؛ يختلف عنه في الخامة والأفق، ومنهج التصوير وطريقة التعبير. . . وإذا سألتني أيهما خير من الآخر لقلت لك في غير تردد: قصاص اليوم بلا جدال!
محمود تيمور في إنتاجه القديم كاتب قصة (محلية) وخامة هذا اللون من القصص خامة محدودة إذا ما وزنتها بميزان (العالمية) في الفن. . . أعني أنك لو نقلت أدب تيمور القديم إلى لغة أخرى لما نظر إليه قراء هذه اللغة نظرتهم اليوم إلى أدبه الحديث. أما أفق تيمور فهو على التحقيق أوسع مدى مما كان منذ خمسة عشر عاماً، وكذلك طريقته في رسم الشخوص وتشريح النفوس وانتزاع الحوادث من منابعها الأصيلة. . . وأسلوب تيمور هو الآخر قد انتقل من حال إلى حال؛ لقد كان يميل في سابق أيامه إلى أن يكتب بعض قصصه باللغة الدارجة، ولكنه يعود اليوم إلى حظيرة الفصحى عودة شغف وإخلاص وإيثار، وإذا القصة على سنان قلمه قطعة أدبية رائعة تزخر بإشراق اللفظ وسلامة العبارة.
قصاص الأمس متأثر بالقصة الفرنسية، وقصاص اليوم متأثر بالقصة الروسية، والفارق بين القصتين فارق ملموس. . . إذا نظرت في القصة الفرنسية وجدتها تعني في الكثير الغالب بالمفاجأة، ولا تخلو المفاجأة من الافتعال في بعض الأحيان! ومن السمات التي تغلب على القصة الفرنسية السرعة والحركة والمبالغة، ولكن هذه السمات لا تصلح للقصة ذات الفكرة النفسية والسبحات الروحية، تلك التي تحتاج إلى العرض الهادئ المركز المتزن. ولا تعني القصة الفرنسية كل العناية برسم الرتوش الداخلية والخارجية في ثنايا العرض القصصي؛ ونقصد بالرتوش الداخلية ما يصاحب هذا العرض من لقطات تصويرية للنفوس والشخوص، أما الرتوش الخارجية فنعني بها تلك الظلال التي تلف الفكرة القصصية بوشاح من الوصف التخيلي الصادق للجزئيات، في نطاق الملامح والسمات. على النقيض من هذا كله تجد القصة الروسية؛ فهي قلما تحفل بالمفاجأة، وإنما تقدم إليك لوحة نفسية تزخر بصراع العواطف، وظلالا إنسانية يمكن أن يجد القارئ فيها صورة نفسه. وهي حين تمضي في طريقها من رسم النماذج البشرية وصب الفكرة في قالبها الذي ينقل من الخيال إلى الواقع، لا تخطئ حين توزع الضوء، ولا تسرف حين تحدد الظل، ولا تستمد اللون إلا من أعماق النفس وأغوار الحياة. . إنني أتحدث هنا موازناً بين الأدبين الروسي والفرنسي في مجال القصة الفنية القصيرة، أما في مجال القصة الطويلة فقد تعلو القصة الفرنسية عند بعض كتابها من أمثال بلزاك وفلوبير فوق مستوى مثيلتها في أدب القصة الروسية! وثمة فارق آخر بين القصتين:
في القصة الفرنسية قد تجد الفكرة في ذروة النضج الفني ولكنها لا تسعى كثيراً وراء هدف؛ وفي القصة الروسية تجد الفكرة والهدف يسيران جنباً إلى جنب؛ الهدف الفلسفي الذي يصبغ الفكرة القصصية بصبغة النظرات العميقة، تلك التي تحاول جاهدة أن تنفذ إلى ما وراء المجهول.
على ضوء هذه الموازنة نستطيع أن تنظر إلى ماضي تيمور الأدبي وحاضره، وليس معنى ما ذكرت أن تلك السمات التي تتسم بها القصة الفرنسية والروسية هي بعينها التي تتمثل في أدب تيمور بين الأمس واليوم، كلا. . كل ما قصدت إليه هو الإشارة إلى أن تيمور متأثر بتلك السمات هنا وهناك!
من هذا الإنتاج الأخير الذي تنعكس عليه ظلال من أدب القصة الروسية هذا الكتاب الذي أخرجته المطبعة منذ قريب، ونعني به (خلف اللثام). . هو في رأيي خير مجموعة من الأقاصيص قرأتها لمحمود تيمور، ولاأحسبني غالياً إذا قلت إن فيه أقصوصة لم أقرأ خبراً منها عند قصاص مصري حتى ولا عند تيمور نفسه، وهي أقصوصة (المستعين بالله الكابتن هاردي). . هناك كاتب يستلهم قلمه وكاتب يستلهم قلبه، وميزة تيمور أنه يستلهم قلبه دائماً!
إنه في هذه الأقصوصة يحلق في أفق مشرق من الروحانية الوضيئة وهو في الأقصوصة الأولى (خلف اللثام) يحلق في نفس الأفق ويملك ريشة الفنان وقلب الإنسان، ولكنه للأسف قد لجأ إلى طريقة جديدة في معالجة الفكرة القصصية جعلتها تحفل بالغموض والإبهام، طريقة تهب عليك منها رائحة (المذهب السريالي)، وذلك المذهب الذي شاعت تعاليمه أخيراً في الأدب الفرنسي. . . أما خطر هذه الطريقة فيتمثل في انعدام الربط بين الحوادث والأفكار مما ينتج عنه بعض التفكك في البناء الفني للقصة، هذا عدا الغموض الذي اضطررت بسببه إلى أن استفسر من الأستاذ المؤلف عن بعض المواقف التي لم تتضح لي في ثنايا العرض القصصي!. . .
أما تيمور فيعتقد - كما قال لي - أنه لم يتأثر بمذهب السير ريالزم في كتابة هذه الأقصوصة، ومع ذلك فما زلت أحس كلما رجعت إليها أنني أقرأ شيئاً من إنتاج عميد هذا المذهب في الأدب الفرنسي المعاصر. . مسيو أند زيه بريتون! ومهما يكن من شئ فأن هذه الظاهرة قد تمثلت في أقصوصة واحدة من كتاب (خلف اللثام).
وهناك أقصوصة ثالثة نسج تيمور خيوطها من صميم البيئة المصرية وهي (تأمين على الحياة). . . في هذه الأقصوصة نماذج بشرية رسمت الريشة خطوطها في دقة وعناية، وبخاصة تلك الصورة الوصفية التي قدمها تيمور لكاتب المحامي وكذلك الصورة النفسية، ولولا ذلك الموقف الذي خالف فيه تيمور منطق الحياة والواقع لمضت الأقصوصة إلى نهايتها بغير هنات. . .
أما هذا الموقف فأعني به حين يتقدم كاتب المحامي بصنيعته صبي اللبان إلى إحدى شركات التأمين فتقبل أن تؤمن على حياته بمبلغ ضخم من المال، على الرغم من أن حياة الصبي معرضة بين لحظة وأخرى لخطر الفناء. . . من يصدق أن صبياً تحالفت على كيانه عشرات العلل والعاهات يؤمن على حياته الضائعة بألوف الجنيهات؟! وهناك أقصوصة رابعة تتجلى فيها موهبة القصاص المفتوح العينين والقلب والذهن، وهي (شيخ الخفر)، إنها صورة صادقة من حياة الريف، هناك حيث تلقى سذاجة النظرة وإلهام الفطرة وحرارة الإيمان، ولو دبت قدم الشيطان فهو دبيب إلى حين!
بعد ذلك يقدم تيمور خمس أقاصيص أخرى لا يتسع المجال هنا للحديث عنها، فليرجع إليها القارئ إذا شاء ليطبق عليها ما أوردته من دراسة لفن تيمور في بداية هذه الكلمة.
رأي في الشاعر على طه: هذا الرأي للدكتور طه حسين بك. . . أما أين اطلعت عليه ففي آخر عدد تلقيته من جريدة (بيروت المساء) اللبنانية تحت عنوان: (طه حسين يبايع عمر أبو ريشه).
سؤال من بضعة أسئلة وجهها مندوب الصحيفة اللبنانية إلى الدكتور طه، وجواب من الدكتور على سؤال المندوب الصحفي، وبهذا الجواب العجيب أقام الميزان لشاعرية الشاعرين فأنخفض شاعر وارتفع شاعر. . . في ميزان الدكتور طه لا في ميزان النقد المبرأ من تحكم الهوى وغلبه العاطفة! ولولا أنني أثق بجريدة (بيروت المساء) كل الثقة، لارتبت في أن الحديث الذي نشر قد ناله شئ من التصحيف أو شئ من التحريف!
أدلى الدكتور طه بهذا الرأي يوم أن حل ضيفاً على لينان منذ قريب لحضور مؤتمر اليونسكو بدعوة من الحكومة اللبنانية أدلى به كما قلت لك إلى مندوب جريدة (بيروت المساء) حين راح يسأله عن دنيا الشعر العربي بعد أن رحل عنها شوقي وحافظ. وعندما أجاب الدكتور بأن مكان الشاعرين قد ظل مع الأسف شاغراً لم يشغل، سأله المندوب الصحفي مرة أخرى عن رأيه في مكان الشاعر على طه. . . وهنا ابتسم الدكتور طه ثم قال: (بالله لا تحرجني! هذا شاعر ولا يعرف قواعد اللغة العربية. ولقد حاولت عبثاً أن أفهمه بأن فعل الأمر من (سقى) يختلف مع المفرد المذكور عنه مع المفردة المؤنثة، ولكنه لم يفهم. . . هل تصدق أنه يقول في الحالين (إسقنيها)، مع أنه يجب أن يقول للمفرد المذكر (إسقنيها) وللمفردة المؤنثة (إسقينها)؟ ولكنه للأسف لا يعرف قواعد اللغة العربية!
بعد هذا تحول الدكتور طه إلى الشاعر السوري عمر أبو ريشه ليشيد بفنه ومزاياه، وليخصه بعطفه وتقديره. وليتحدث عن أثر شعره في نفسه يوم أن جمع بينهما لقاء أسمعه الشاعر فيه بعض مقطوعاته، وخلص الدكتور طه من هذا كله إلى أنه ليس هناك شاعر عربي معاصر يستحق إعجابه وبيعته غير عمر أبو ريشه! هذا هو الرأي الذي سجلته الصحيفة اللبنانية للدكتور طه حسين وأود أن أعقب عليه فأسأله: هل حدث حقاً هذا الذي دار بينه وبين الشاعر على طه؟ وإذا كان، ففي شرع أي ميزان من موازين النقد يجوز للناقد أن يقدر أقدار الشعراء على ضوء خطأ نحوي أو لغوي يقعون فيه؟!. . . وإذا أبيح للدكتور أن ينظر إلى الشاعر المصري هذه النظرة التي تنكر كل موهبة من واهبه وتلغي مكانه من قائمة شعراء الطليعة لمجرد خطأ واحد وقع فيه، ففي أي مكان يا ترى يمكن أن يضع شاعراً كالمتنبي وقد حفل شعره بكثير من الأخطاء اللغوية؟!
لقد كنت أود أن يكون رأيه في الشاعرين وليد دراسة وموازنة لا وليد هوى ومجاملة، لأن ميزاناً تحرك كفيه العاطفة سيكون مآله كمآل ميزان الآمدي حين أجهد نفسه في الانتصاف للبحتري والنيل من أبي تمام. لقد ذهبت أحكامه وبقى الشاعران كل في مكانه الذي حددته الأجيال! أما الشاعر على طه فلا أعتقد أن مكانه يمكن أن يؤثر فيه مثل هذا الرأي الطائر، أو ينال منه هذا الحكم الجائر. . .
ولو كان في المجال متسع للإفاضة لقدمت لقراء الرسالة نماذج من شعر الشاعرين، مع دراسة نقدية كاملة لتلك النماذج الشعرية دراسة تطيل الوقوف عند طاقة وطاقة، وعند موهبة وموهبة، وعند أفق وأفق، وهذا هو الميزان الذي يجب أن يقام للشاعرين ليحدد الفارق في مجال التحقيق بين قدرة جناح وجناح!.
إنني أدافع هنا عن الشاعر علي طه دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء!
مسابقة المصور لقصة القصيرة:
أعلنت مجلة المصور عن مسابقة للقصة القصيرة قدمت لها بكلمة عجيبة، أثارت في نفسي كثيراً من الشك حول فهم القائمين على أمر تلك المسابقة لأصول الفن القصصي، وهذه هي الكلمة:
(القصة القصيرة من أرفع وأروع فنون الأدب التي يزداد اهتمام الغربيين بها يوماً بعد يوم. ولا عجب فهي خير ما يناسب عصر السرعة الذي نعيش فيه، وهو عصر لا يكاد معظم الناس يجدون فيه من وقتهم ما يسمح لهم بمطالعة قصة حافلة بعبارات الوصف، والتحليل، والوقوف عند التفاصيل. وهذا هو الذي نتحاشاه القصة التي تمتاز بسرعة الحركة ودقة الحبكة وشدة التركيز، وعنصر المفاجأة في الختام. ولعل هذا العنصر أهم أركانها على الإطلاق.
وقد رأى (المصور) في عهده الجديد أن يدعو للنهوض بهذا النوع من القصة الذي ما زال يحبو عندنا في المهد؛ بينما نراه ناضجاً مكتملاً عند الغربيين، وقد نبغ فيه من أشهر أدبائهم: مارك توين؛ وإدجار ألن بو، وأوهنري، وسومرست موم، وموباسان وغيرهم. و (المصور) إذ يدعو أعلام القصة الطويلة في مصر والعالم العربي إلى تخصيص جانب من عنايتهم لتحقيق هذه النهضة المنشودة؛ لا يفوته أن ما يبذله كاتب القصة القصيرة من جهد ووقت في حبك سياقها وسبك ختامها، لا يقل - إن لم يزد - على ما يبذله الكاتب في وضع القصة الطويلة) وإذا كانت هذه الكلمة قد حفلت بالعجب في طبيعة النظرة إلى فن القصة القصيرة، وفي طبيعة المعايير التي وضعت لأصولها الفنية، فأن العجب يصبح أمراً عادياً لا غرابة فيه إذا أنعمت النظر وأطلت التأمل في هذا الشرط:
(يجب ألا تزيد كلمات القصة التي تدخل المسابقة على 600 كلمة)
شيء واحد خرجت به من هذه الكلمة التي قدم بها المصور للمسابقة، وهو أن القائمين على أمرها ينظرون إلى فن القصة القصيرة على ضوء الذوق الصحفي دون سواه. . . إنهم يتصورون القصة شيئاً أشبه ما يكون بالربورتاج الصحفي، ذلك الذي خلق للتسلية وملء الفراغ! وهذا واضح من قولهم أنهم يريدون قصة لا تزيد كلماتها على 600 كلمة، لماذا؟ لأن معظم الناس لا يجدون من وقتهم ما يسمح لهم بمطالعة قصة حافلة بعبارات الوصف والتحليل والوقوف عند التفاصيل!. . . ولست أدري من الذي أقنعهم بأن عنصر المفاجأة في ختام القصة يعد أهم أركانها على الإطلاق، ولا من الذي أفهمهم أن ما يبذله كاتب القصة القصيرة من جهد لا يقل إن لم يزد على ما يبذل الكاتب في وضع القصة الطويلة! كلام لا يقوله أبسط الملمين بأصول الفن القصصي؛ لأن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت، ولكن هناك أناساً ينشدون (الفرقعة) في نهاية كل قصة ولو كانت هذه الفرقعة على حساب الفن!. . . . والقصة الطويلة بعد هذا هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص وطاقة القصاص، ولا كذلك الأمر في القصة القصيرة؛ لأن العمل الفني فيها محدود من الصفحات، وكذلك زحمة الحوادث والشخصيات؛ ومن هنا يستطيع كل قصاص أن يقبض على زمام القصة القصيرة بقليل من الجهد الفني، ولا يستطيع الناقد في القصة القصيرة أن يحكم على الطاقة الفنية التي تحدد الفارق بين فنان وفنان، لأنها طاقة تعمل في ميدان ضيق قد تتقارب فيه الملكات القاصة، تقارباً يصعب معه وزن القيم الفنية بميزاتها الدقيق الذي يمكن الناقد من إصدار حكم على الأثر الفني الذي لا رجعة فيه. . . ومع ذلك تسمع من يقول لك إن لهذا الجهد الذي يبذله كاتب القصة القصيرة لا يقل أن لم يزد على الجهد الذي يبذله كاتب القصة الطويلة!
أنور المعداوي
مجلة الرسالة - العدد 812
بتاريخ: 24 - 01 - 1949
محمود تيمور في إنتاجه القديم كاتب قصة (محلية) وخامة هذا اللون من القصص خامة محدودة إذا ما وزنتها بميزان (العالمية) في الفن. . . أعني أنك لو نقلت أدب تيمور القديم إلى لغة أخرى لما نظر إليه قراء هذه اللغة نظرتهم اليوم إلى أدبه الحديث. أما أفق تيمور فهو على التحقيق أوسع مدى مما كان منذ خمسة عشر عاماً، وكذلك طريقته في رسم الشخوص وتشريح النفوس وانتزاع الحوادث من منابعها الأصيلة. . . وأسلوب تيمور هو الآخر قد انتقل من حال إلى حال؛ لقد كان يميل في سابق أيامه إلى أن يكتب بعض قصصه باللغة الدارجة، ولكنه يعود اليوم إلى حظيرة الفصحى عودة شغف وإخلاص وإيثار، وإذا القصة على سنان قلمه قطعة أدبية رائعة تزخر بإشراق اللفظ وسلامة العبارة.
قصاص الأمس متأثر بالقصة الفرنسية، وقصاص اليوم متأثر بالقصة الروسية، والفارق بين القصتين فارق ملموس. . . إذا نظرت في القصة الفرنسية وجدتها تعني في الكثير الغالب بالمفاجأة، ولا تخلو المفاجأة من الافتعال في بعض الأحيان! ومن السمات التي تغلب على القصة الفرنسية السرعة والحركة والمبالغة، ولكن هذه السمات لا تصلح للقصة ذات الفكرة النفسية والسبحات الروحية، تلك التي تحتاج إلى العرض الهادئ المركز المتزن. ولا تعني القصة الفرنسية كل العناية برسم الرتوش الداخلية والخارجية في ثنايا العرض القصصي؛ ونقصد بالرتوش الداخلية ما يصاحب هذا العرض من لقطات تصويرية للنفوس والشخوص، أما الرتوش الخارجية فنعني بها تلك الظلال التي تلف الفكرة القصصية بوشاح من الوصف التخيلي الصادق للجزئيات، في نطاق الملامح والسمات. على النقيض من هذا كله تجد القصة الروسية؛ فهي قلما تحفل بالمفاجأة، وإنما تقدم إليك لوحة نفسية تزخر بصراع العواطف، وظلالا إنسانية يمكن أن يجد القارئ فيها صورة نفسه. وهي حين تمضي في طريقها من رسم النماذج البشرية وصب الفكرة في قالبها الذي ينقل من الخيال إلى الواقع، لا تخطئ حين توزع الضوء، ولا تسرف حين تحدد الظل، ولا تستمد اللون إلا من أعماق النفس وأغوار الحياة. . إنني أتحدث هنا موازناً بين الأدبين الروسي والفرنسي في مجال القصة الفنية القصيرة، أما في مجال القصة الطويلة فقد تعلو القصة الفرنسية عند بعض كتابها من أمثال بلزاك وفلوبير فوق مستوى مثيلتها في أدب القصة الروسية! وثمة فارق آخر بين القصتين:
في القصة الفرنسية قد تجد الفكرة في ذروة النضج الفني ولكنها لا تسعى كثيراً وراء هدف؛ وفي القصة الروسية تجد الفكرة والهدف يسيران جنباً إلى جنب؛ الهدف الفلسفي الذي يصبغ الفكرة القصصية بصبغة النظرات العميقة، تلك التي تحاول جاهدة أن تنفذ إلى ما وراء المجهول.
على ضوء هذه الموازنة نستطيع أن تنظر إلى ماضي تيمور الأدبي وحاضره، وليس معنى ما ذكرت أن تلك السمات التي تتسم بها القصة الفرنسية والروسية هي بعينها التي تتمثل في أدب تيمور بين الأمس واليوم، كلا. . كل ما قصدت إليه هو الإشارة إلى أن تيمور متأثر بتلك السمات هنا وهناك!
من هذا الإنتاج الأخير الذي تنعكس عليه ظلال من أدب القصة الروسية هذا الكتاب الذي أخرجته المطبعة منذ قريب، ونعني به (خلف اللثام). . هو في رأيي خير مجموعة من الأقاصيص قرأتها لمحمود تيمور، ولاأحسبني غالياً إذا قلت إن فيه أقصوصة لم أقرأ خبراً منها عند قصاص مصري حتى ولا عند تيمور نفسه، وهي أقصوصة (المستعين بالله الكابتن هاردي). . هناك كاتب يستلهم قلمه وكاتب يستلهم قلبه، وميزة تيمور أنه يستلهم قلبه دائماً!
إنه في هذه الأقصوصة يحلق في أفق مشرق من الروحانية الوضيئة وهو في الأقصوصة الأولى (خلف اللثام) يحلق في نفس الأفق ويملك ريشة الفنان وقلب الإنسان، ولكنه للأسف قد لجأ إلى طريقة جديدة في معالجة الفكرة القصصية جعلتها تحفل بالغموض والإبهام، طريقة تهب عليك منها رائحة (المذهب السريالي)، وذلك المذهب الذي شاعت تعاليمه أخيراً في الأدب الفرنسي. . . أما خطر هذه الطريقة فيتمثل في انعدام الربط بين الحوادث والأفكار مما ينتج عنه بعض التفكك في البناء الفني للقصة، هذا عدا الغموض الذي اضطررت بسببه إلى أن استفسر من الأستاذ المؤلف عن بعض المواقف التي لم تتضح لي في ثنايا العرض القصصي!. . .
أما تيمور فيعتقد - كما قال لي - أنه لم يتأثر بمذهب السير ريالزم في كتابة هذه الأقصوصة، ومع ذلك فما زلت أحس كلما رجعت إليها أنني أقرأ شيئاً من إنتاج عميد هذا المذهب في الأدب الفرنسي المعاصر. . مسيو أند زيه بريتون! ومهما يكن من شئ فأن هذه الظاهرة قد تمثلت في أقصوصة واحدة من كتاب (خلف اللثام).
وهناك أقصوصة ثالثة نسج تيمور خيوطها من صميم البيئة المصرية وهي (تأمين على الحياة). . . في هذه الأقصوصة نماذج بشرية رسمت الريشة خطوطها في دقة وعناية، وبخاصة تلك الصورة الوصفية التي قدمها تيمور لكاتب المحامي وكذلك الصورة النفسية، ولولا ذلك الموقف الذي خالف فيه تيمور منطق الحياة والواقع لمضت الأقصوصة إلى نهايتها بغير هنات. . .
أما هذا الموقف فأعني به حين يتقدم كاتب المحامي بصنيعته صبي اللبان إلى إحدى شركات التأمين فتقبل أن تؤمن على حياته بمبلغ ضخم من المال، على الرغم من أن حياة الصبي معرضة بين لحظة وأخرى لخطر الفناء. . . من يصدق أن صبياً تحالفت على كيانه عشرات العلل والعاهات يؤمن على حياته الضائعة بألوف الجنيهات؟! وهناك أقصوصة رابعة تتجلى فيها موهبة القصاص المفتوح العينين والقلب والذهن، وهي (شيخ الخفر)، إنها صورة صادقة من حياة الريف، هناك حيث تلقى سذاجة النظرة وإلهام الفطرة وحرارة الإيمان، ولو دبت قدم الشيطان فهو دبيب إلى حين!
بعد ذلك يقدم تيمور خمس أقاصيص أخرى لا يتسع المجال هنا للحديث عنها، فليرجع إليها القارئ إذا شاء ليطبق عليها ما أوردته من دراسة لفن تيمور في بداية هذه الكلمة.
رأي في الشاعر على طه: هذا الرأي للدكتور طه حسين بك. . . أما أين اطلعت عليه ففي آخر عدد تلقيته من جريدة (بيروت المساء) اللبنانية تحت عنوان: (طه حسين يبايع عمر أبو ريشه).
سؤال من بضعة أسئلة وجهها مندوب الصحيفة اللبنانية إلى الدكتور طه، وجواب من الدكتور على سؤال المندوب الصحفي، وبهذا الجواب العجيب أقام الميزان لشاعرية الشاعرين فأنخفض شاعر وارتفع شاعر. . . في ميزان الدكتور طه لا في ميزان النقد المبرأ من تحكم الهوى وغلبه العاطفة! ولولا أنني أثق بجريدة (بيروت المساء) كل الثقة، لارتبت في أن الحديث الذي نشر قد ناله شئ من التصحيف أو شئ من التحريف!
أدلى الدكتور طه بهذا الرأي يوم أن حل ضيفاً على لينان منذ قريب لحضور مؤتمر اليونسكو بدعوة من الحكومة اللبنانية أدلى به كما قلت لك إلى مندوب جريدة (بيروت المساء) حين راح يسأله عن دنيا الشعر العربي بعد أن رحل عنها شوقي وحافظ. وعندما أجاب الدكتور بأن مكان الشاعرين قد ظل مع الأسف شاغراً لم يشغل، سأله المندوب الصحفي مرة أخرى عن رأيه في مكان الشاعر على طه. . . وهنا ابتسم الدكتور طه ثم قال: (بالله لا تحرجني! هذا شاعر ولا يعرف قواعد اللغة العربية. ولقد حاولت عبثاً أن أفهمه بأن فعل الأمر من (سقى) يختلف مع المفرد المذكور عنه مع المفردة المؤنثة، ولكنه لم يفهم. . . هل تصدق أنه يقول في الحالين (إسقنيها)، مع أنه يجب أن يقول للمفرد المذكر (إسقنيها) وللمفردة المؤنثة (إسقينها)؟ ولكنه للأسف لا يعرف قواعد اللغة العربية!
بعد هذا تحول الدكتور طه إلى الشاعر السوري عمر أبو ريشه ليشيد بفنه ومزاياه، وليخصه بعطفه وتقديره. وليتحدث عن أثر شعره في نفسه يوم أن جمع بينهما لقاء أسمعه الشاعر فيه بعض مقطوعاته، وخلص الدكتور طه من هذا كله إلى أنه ليس هناك شاعر عربي معاصر يستحق إعجابه وبيعته غير عمر أبو ريشه! هذا هو الرأي الذي سجلته الصحيفة اللبنانية للدكتور طه حسين وأود أن أعقب عليه فأسأله: هل حدث حقاً هذا الذي دار بينه وبين الشاعر على طه؟ وإذا كان، ففي شرع أي ميزان من موازين النقد يجوز للناقد أن يقدر أقدار الشعراء على ضوء خطأ نحوي أو لغوي يقعون فيه؟!. . . وإذا أبيح للدكتور أن ينظر إلى الشاعر المصري هذه النظرة التي تنكر كل موهبة من واهبه وتلغي مكانه من قائمة شعراء الطليعة لمجرد خطأ واحد وقع فيه، ففي أي مكان يا ترى يمكن أن يضع شاعراً كالمتنبي وقد حفل شعره بكثير من الأخطاء اللغوية؟!
لقد كنت أود أن يكون رأيه في الشاعرين وليد دراسة وموازنة لا وليد هوى ومجاملة، لأن ميزاناً تحرك كفيه العاطفة سيكون مآله كمآل ميزان الآمدي حين أجهد نفسه في الانتصاف للبحتري والنيل من أبي تمام. لقد ذهبت أحكامه وبقى الشاعران كل في مكانه الذي حددته الأجيال! أما الشاعر على طه فلا أعتقد أن مكانه يمكن أن يؤثر فيه مثل هذا الرأي الطائر، أو ينال منه هذا الحكم الجائر. . .
ولو كان في المجال متسع للإفاضة لقدمت لقراء الرسالة نماذج من شعر الشاعرين، مع دراسة نقدية كاملة لتلك النماذج الشعرية دراسة تطيل الوقوف عند طاقة وطاقة، وعند موهبة وموهبة، وعند أفق وأفق، وهذا هو الميزان الذي يجب أن يقام للشاعرين ليحدد الفارق في مجال التحقيق بين قدرة جناح وجناح!.
إنني أدافع هنا عن الشاعر علي طه دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء!
مسابقة المصور لقصة القصيرة:
أعلنت مجلة المصور عن مسابقة للقصة القصيرة قدمت لها بكلمة عجيبة، أثارت في نفسي كثيراً من الشك حول فهم القائمين على أمر تلك المسابقة لأصول الفن القصصي، وهذه هي الكلمة:
(القصة القصيرة من أرفع وأروع فنون الأدب التي يزداد اهتمام الغربيين بها يوماً بعد يوم. ولا عجب فهي خير ما يناسب عصر السرعة الذي نعيش فيه، وهو عصر لا يكاد معظم الناس يجدون فيه من وقتهم ما يسمح لهم بمطالعة قصة حافلة بعبارات الوصف، والتحليل، والوقوف عند التفاصيل. وهذا هو الذي نتحاشاه القصة التي تمتاز بسرعة الحركة ودقة الحبكة وشدة التركيز، وعنصر المفاجأة في الختام. ولعل هذا العنصر أهم أركانها على الإطلاق.
وقد رأى (المصور) في عهده الجديد أن يدعو للنهوض بهذا النوع من القصة الذي ما زال يحبو عندنا في المهد؛ بينما نراه ناضجاً مكتملاً عند الغربيين، وقد نبغ فيه من أشهر أدبائهم: مارك توين؛ وإدجار ألن بو، وأوهنري، وسومرست موم، وموباسان وغيرهم. و (المصور) إذ يدعو أعلام القصة الطويلة في مصر والعالم العربي إلى تخصيص جانب من عنايتهم لتحقيق هذه النهضة المنشودة؛ لا يفوته أن ما يبذله كاتب القصة القصيرة من جهد ووقت في حبك سياقها وسبك ختامها، لا يقل - إن لم يزد - على ما يبذله الكاتب في وضع القصة الطويلة) وإذا كانت هذه الكلمة قد حفلت بالعجب في طبيعة النظرة إلى فن القصة القصيرة، وفي طبيعة المعايير التي وضعت لأصولها الفنية، فأن العجب يصبح أمراً عادياً لا غرابة فيه إذا أنعمت النظر وأطلت التأمل في هذا الشرط:
(يجب ألا تزيد كلمات القصة التي تدخل المسابقة على 600 كلمة)
شيء واحد خرجت به من هذه الكلمة التي قدم بها المصور للمسابقة، وهو أن القائمين على أمرها ينظرون إلى فن القصة القصيرة على ضوء الذوق الصحفي دون سواه. . . إنهم يتصورون القصة شيئاً أشبه ما يكون بالربورتاج الصحفي، ذلك الذي خلق للتسلية وملء الفراغ! وهذا واضح من قولهم أنهم يريدون قصة لا تزيد كلماتها على 600 كلمة، لماذا؟ لأن معظم الناس لا يجدون من وقتهم ما يسمح لهم بمطالعة قصة حافلة بعبارات الوصف والتحليل والوقوف عند التفاصيل!. . . ولست أدري من الذي أقنعهم بأن عنصر المفاجأة في ختام القصة يعد أهم أركانها على الإطلاق، ولا من الذي أفهمهم أن ما يبذله كاتب القصة القصيرة من جهد لا يقل إن لم يزد على ما يبذل الكاتب في وضع القصة الطويلة! كلام لا يقوله أبسط الملمين بأصول الفن القصصي؛ لأن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت، ولكن هناك أناساً ينشدون (الفرقعة) في نهاية كل قصة ولو كانت هذه الفرقعة على حساب الفن!. . . . والقصة الطويلة بعد هذا هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص وطاقة القصاص، ولا كذلك الأمر في القصة القصيرة؛ لأن العمل الفني فيها محدود من الصفحات، وكذلك زحمة الحوادث والشخصيات؛ ومن هنا يستطيع كل قصاص أن يقبض على زمام القصة القصيرة بقليل من الجهد الفني، ولا يستطيع الناقد في القصة القصيرة أن يحكم على الطاقة الفنية التي تحدد الفارق بين فنان وفنان، لأنها طاقة تعمل في ميدان ضيق قد تتقارب فيه الملكات القاصة، تقارباً يصعب معه وزن القيم الفنية بميزاتها الدقيق الذي يمكن الناقد من إصدار حكم على الأثر الفني الذي لا رجعة فيه. . . ومع ذلك تسمع من يقول لك إن لهذا الجهد الذي يبذله كاتب القصة القصيرة لا يقل أن لم يزد على الجهد الذي يبذله كاتب القصة الطويلة!
أنور المعداوي
مجلة الرسالة - العدد 812
بتاريخ: 24 - 01 - 1949