حوار جريدة العرب مع نقوس المهدي... أجراه الأستاذ محمد شعير

جريدةالعرب
كاتب مغربي ينقل عمل ملائكة الرحمة إلى الأدب للعناية بالمبدعين
نقوس المهدي: الكتابة تصبح فارغة حين يتخلى الكاتب عن القضايا الإنسانية
- "أنطولوجيا السرد العربي" موقع تطوعي نخبوي غير ربحي أنشأه المهدي لنشر الكتابات الجيدة وتعميمها على القراء
- الجوائز لا تصنع الأديب، وبعض الجوائز الأدبية التي طفت على السطح مؤخرا مجحف، وغير منصف، وغير شريف، وهي جوائز لا تخضع للندية، وتتدخل فيها العلاقات والتوصيات والصداقات

الأستاذ محمد شعير

1725054736503.png

الإخلاص للكتابة ليس مجرد كلمة، إنما فعل ممتد لسنين، وهو أيضا ليس إخلاص الكاتب لكتابته فحسب واهتمامه بمشروعه فقط دون غيره، بل دعم كل كتابة تستحق، أيا ما كان اسم كاتبها أو جنسه أو جنسيته. والمخلصون لهذا النهج ليسوا كثرا، لكنهم موجودون، مبدعون.
الكاتب والناقد المغربي نقوس المهدي، واحد من هؤلاء دون شك، أتم واحدا وسبعين عاما من العمر، قضى أغلبها في رحاب الكتب والكتابة، ليس فقط بإبداعاته، إنما بالبحث عن المبدعين في كل فنون السرد والشعر، ودعمهم بنشر أعمالهم وتسليط الأضواء النقدية عليها، لتعريف القراء بهم، من خلال الموقع الإلكتروني الذي شارك في إنشائه باسم “أنطولوجيا السرد العربي”، الذي دخل عامه العاشر.
تعميم المعرفة الجادة
يكشف الكاتب المغربي في حديث لـ”العرب” عن تفاصيل رحلته الثرية، وكواليس وأهداف إنشاء منصته السردية، قائلا إن إطلاق موقع “أنطولوجيا السرد العربي” كان حلما في البداية، وقد تحول إلى مشروع وصرح ثقافي ضخم وواعد ذي شهرة كبيرة، يسعى لخدمة الثقافة العربية.
جاء إطلاق المنصة عام 2015 بالاتفاق والتشاور مع الكاتب والمثقف المغربي المهاجر جبران الشداني، والكاتب والقاص محمد فري مدير “منتدى مطر.. بيت المبدع العربي”. وتجاوز عدد الكتاب والأعضاء في الموقع حتى الآن تسعة آلاف وثلاثمئة كاتب، من كل الأقطار العربية والناطقين بالعربية في كل بقاع العالم.
يؤكد نقوس المهدي أن “أنطولوجيا السرد العربي”، موقع تطوعي نخبوي غير ربحي، مستقل غير تابع لهيئة أو منظمة رسمية أو حزبية أو سياسية، ولا يتلقى إعانة أو دعما أو مساعدة من أي جهة كانت، والغاية منه خدمة القارئ العربي، وتعميم المعرفة الجادة، ونشر الفكر التنويري، والتعريف بالمبدعين على أوسع نطاق.
ويفخر المهدي بأن المنصة قامت خلال سنواتها التسع المنقضية بنشر وتحرير حوالي 120 ملفا ضخما وحصريا، تتناول مختلف الموضوعات الثقافية والمعرفية والفكرية، ومنها ملفات: فلسطين، الأدب الشعبي، أدب المقاومة، كليلة ودمنة، أدب المناجم، الأدب الساخر، أدب السجون والمعتقلات، أدب الحرب، أدب البحر، أدب الرحلة، الأدباء المنتحرون، وأدباء قتلهم شعرهم، فضلا عن الزوايا الإبداعية الثابتة التي يحررها الأدباء، في القصة القصيرة، والفكر والنقد الأدبي والفلسفة، والشعر.
وتضم مجموعات الأعلام على المنصة أسماءً مهمة، منها: عبدالفتاح كيليطو، وعبدالسلام بنعبدالعالي، وسعيدة عفيف، وريحانة بشير، وحسن مطلك، ومحمد الثاني الورياشي، وخورخي لويس بورخيس، وأمبرتو إيكو، وطه حسين، وعباس محمود العقاد.
يبدو الكاتب والناقد المغربي، الذي درس الفلسفة بجامعة محمد الخامس في الرباط، وعمل ممرّضا بعد حصوله على دبلوم التمريض، كأنه اختار أن ينقل مهمة ملائكة الرحمة من مجال الصحة إلى مضمار الأدب، عبر العناية بالمبدعين، والتركيز على القضايا الحقيقية في الكتابة.
ويقول نقوس المهدي لـ”العرب” إن “الكتابة تصبح فارغة من أيّ هدف حين يتخلى الكاتب عن تناول القضايا الإنسانية، ويختار التجديف في أوقيانوسات غريبة لا تمت للشأن الإنساني بصلة، ولا تربطها بالواقع المعيشي رابطة، حينئذ تصبح الكتابة مجرد هذيان، ولغو، وهرطقة لغوية لا معنى ولا رسالة معينة لها”.
وهو يطمح دوما أن يكون منحازا للقضايا الإنسانية، باعتبار ذلك مسؤولية أملتها نشأته الاجتماعية، إذ عاش في وسط عمالي بروليتاري، وفي قرية منجمية نموذجية، هي لمزيندة، كل قاطنيها من عمال مناجم الفوسفات، وسط جو مشحون بالنضالات النقابية والإضرابات.
يضاف إلى ذلك مجال عمله في التمريض، ما جعله على تواصل يومي مع العمال الذين يقضون ثماني ساعات أو ضعفها بباطن الأرض في ظروف صعبة، وغير إنسانية، في مواجهة الكثير من الإكراهات ما بين الطرد التعسفي والسجن أحيانا بتهم كيدية، وحوادث الشغل المميتة أو التي تخلف إعاقة جزئية وعاهات مزمنة.
اهتم الكاتب المغربي بأدب المناجم، وانشغل بالأوضاع السياسية العالمية، ووضع الإنسان المعذب والمسحوق تحت عجلة الاستغلال الرأسمالي، ما جسدته كل شخصيات نصوصه السردية الخارجة من جحيم المعاناة، ابتداء من الفتى عباس البطل المحوري لكتابه الأول “الصنائع” الذي نشره “منتدى مطر”.
ثورية الكاتب
حاول المهدي جاهدا أن تُقرأ “الصنائع” كرواية ومتوالية قصصية في نفس الآن، قائلا “تعمدتُ بشكل مكشوف الكتابة بيدين”، إذ تتماهى القصة القصيرة مع السرد الروائي في العمل نفسه، وهي خطوة لا تخلو من مكر، أو مغامرة، ومن انفصال واتصال، ومرونة للتوفيق بين الجنسين.
ويعد عباس البطل المحوري شخصية مزاجية ثورية ناقمة، لا تستكين أبدا إلى الرتابة والجمود، في عالم يفترس ضحاياه، وله من اسمه نصيب، بدلالاته الشعبية، ببساطته وبؤسه وكدحه واستلابه، وكبريائه أيضا، وما يجسده من قلق وجودي، وحمولة اجتماعية.
ويرافقه الكاتب في تحولاته وتسكعه منذ يفاعته وهو غارق في البؤس يبيع السجائر بالتقسيط والجرائد، ويمسح الأحذية، ويعاني من الزج به في مخافر الشرطة ضمن حملات التفتيش بسبب الإساءة لسمعة الوطن، إلى احتجاجات جحافل حملة الشهادات العاطلين، إلى الهجرة السرية وركوبه أمواج بحر الشام التي تتراءى له وهي تتواثب على هيئة أفراس الملك محاولةً القبض عليه وإعادته إلى نعيم البطالة والتشرد والبؤس.
وللكاتب المغربي مجموعة قصصية بعنوان “… إلخ”، يرسم فيها صورة كاريكاتورية للاستبداد والتسلط من خلال قصة “العقيد”، و”محاكمة امرئ القيس” الملك الخلاسي زير النساء العنين الذي قضى حياته في اللهو، إلى “سقراط” الفيلسوف الذي رضع الحكمة من أمه الداية فيناريت، وأنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، واتهم بإفساد أخلاق أبناء أثينا وألب عليه غضب الإكليروس، وعقدت له محاكمة تاريخية من خمسمئة قاض، إلى مخاطبات محمد بن عبدالجبار النفّري، الصوفي الفيلسوف الذي كان يتمشى في الطرقات ويلغط بالحكمة مع أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، إلى الاعتقال السياسي، والتهم السالبة للحريات العامة لتكميم الأفواه.
ويدافع نقوس المهدي عن مفهوم ثورية الكاتب، مستلهما عدة مقولات وأفكار، إحداها للكاتبة الأميركية جين كورتيز، وهي “الشاعر ليس لديه خيار سوى أن يكون ثوريا أو يتوقف عن كونه شاعرا”.
ويحيل إلى مفهوم المثقف العضوي الذي يشارك الناس همومهم ومشاكلهم ويحس بآلامهم، والتي يعبر عنها غرامشي بقوله “إن المثقف العضوي هو المثقف الحقيقي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته، فلا فائدة لهذا المجتمع من مثقف يراكم المعرفة النظرية أو التنظيرية منفصلاً عن الحياة وعن الناس”، بالإضافة إلى تعبير جان بول سارتر “إن أُولى مهام المثقفين هي إزعاج السلطة”.
وطغى هذا المد، كما يقول في حديثه لـ”العرب”، على الساحة مع ظهور تيار أدب الالتزام؛ أدب المقاومة، ومذاهب الوجودية، والواقعية الاشتراكية، ردا على المدارس الطوباوية التي تنادي بالفن للفن، والأدب المخملي الناعم، أدب الأبراج العاجية، فكانت للأديب رسالة إنسانية يؤديها تجاه مجتمعه، خدمة لقضايا التحرر والحرية والسلم العالمي.
ويلفت إلى أنه خلافا لهؤلاء المبدعين المسكونين بالهمّ الإنساني والهاجس الوطني، نجد المتخاذلين والمطبلين المقتاتين على الفتات. ولا غرابة في رأيه في تحول ساهمت فيه الأنظمة بشراء الضمائر، وملء البطون، إذ أن “المثقفين هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها”، كما يقول فلاديمير إيليتش لينين.
ويتهم الأديب المغربي بعض الأدباء بالتخلي عن نهجهم الثوري بعد أن كانوا في طليعة الصفوف الأمامية خلال فورة شبابهم وحماسهم، قائلا “مثل بدر شاكر السياب بعدما مرض وتخلى عن انتمائه الشيوعي ونهجه القومي إثر المرض، حيث أضحت أشعاره أوجاعا وأنات ذاتية، وسعدي يوسف الذي أثر انسحابه إلى الصفوف الخلفية على أشعاره الأخيرة، وانسحاب أدب المقاومة من الساحة بعد رحيل شعرائه العظام”.
يرى المهدي أن عملية النشر ضرورية لأيّ كاتب للتعريف بإبداعاته وتحصينها ضد السرقات، ووقايتها من التلف والضياع، لكن له متاعب ومضار جانبية، تتمثل في غياب الناشرين والموزعين النزيهين، وانتشار من يتعاملون مع الإبداع بمنطق الربح والخسارة، وهضم حقوق المؤلفين، والسطو عليها.
كما يمكن لأيّ كان أن يدفع شيكا ليطبع ما يشاء، من دون مراجعة ولا تدقيق لغوي، زيادة على ظاهرة العزوف عن القراءة التي تفشت بشكل مريع، وهي ظواهر أساءت للمشهد الإبداعي والمبدعين على السواء.
ويؤكد المهدي في حديثه لـ”العرب” أن الجوائز لا تصنع الأديب، وأن بعض الجوائز الأدبية التي طفت على السطح مؤخرا مجحف، وغير منصف، وغير شريف، وهي جوائز لا تخضع للندية، وتتدخل فيها العلاقات والتوصيات والصداقات، والتزلف أحيانا، وبعضها تدخل فيه الحسابات الضيقة والحساسيات.
ويعتبرها أيضا مهمة لتتويج الكتب الجيدة، ومكافأة أصحابها، وتشجيعهم والتعريف بهم، ونشر إبداعاتهم وترجمتها، وتوفير مكسب مادي للكاتب، لكنه ينتقد تهافت الكثيرين عليها جريا وراء طمع الدنيا، وارتحال الكثير من الأدباء بإبداعهم من حقل إلى آخر لهثا وراءها.
يعمل الكاتب المغربي حاليا على رواية باسم “زيدان”، حول رحلة شاب من منطقة بالجنوب المغربي، وجد نفسه بلا هوية، للبحث عن عائلته عبر متاهات مئات الكيلومترات والمشاق والمغامرات.
ويختتم نقوس المهدي حديثه لـ”العرب” بقوله إن هذه الرواية هي أمنيتي في أن يكون لي نصيب في الكتابة الروائية، برغم عشقي العظيم للكتابة القصصية القصيرة، هذا الفن النبيل الذي جعل خوليو كورتاثر ينتصر للقصة القصيرة، لافتا إلى أن “الرواية تفوز بالنقاط، أما القصة القصيرة فتفوز بالضربة القاضية”، وتعليل يوسف إدريس اختياره القصة القصيرة بأنه يستطيع بها أن يصغر بحرًا في قطرة، وأن يمرر جملاً من ثقب إبرة، أما أحمد الخميسي فيحسم الأمر قائلا “القصة القصيرة ظهرت بعد الرواية بنحو مئة أو مئة وخمسين عاما، ولو كانت الرواية تسد الاحتياج الذي تسده القصة القصيرة ما ظهرت القصة”.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى