فالتقديم:
المطّلع على العدد (33) من مجلة "فكر وفن " الصادرة في ألمانيا والعائدة إلى مطلع يونيو 1979 سيقرأ في الصفحتين 82 و83 اسم الشاعر راينر ماريا ريلكه(1875 ـ 1926) ورسالته ذائعة الصيت، لكنّه لن يعثر على اسم المترجم إلاّ في مقدّمة موجزة تضمّنت شقّين: في الشقّ الأول تمّ تقديم المترجم تحت اسم حاج م.حامد بهنيني، ولولا الإشارة إلى مولده بفاس عام 1914 وسرد مقتضب لمساره السياسي لخلناه شخصا آخر ! أمّا الشقّ الثاني فقدّم إضاءتين كاشفتين؛ الأولى تنبئ بأنّ نص الترجمة هو جزء من محاضرة ألقاها المترجم في الثلاثينيات من القرن الماضي، والثانية تومئ أنّ الأستاذ باحنيني "من الأدباء المغرمين بالشاعر راينر ماريه ريلكه" الذي كان يحظى في ذاك الزّمن "بشهرة كبيرة بين أدباء العالم العربي" كما تقول المجلّة التي لم تشر ملطلقا إلى مصدر أومرجع الترجمة !
استعادة لذكرى الأستاذ الحاج امحمد باحنيني (1914 ـ 1989)؛ هذه الشخصية المغربية الأدبية والسياسية المرمومة، نذكّر بهذه الترجمة البديعة...
النص:
باريس 17 فبراير 1903
سيّدي العزيز:
لم يرد عليّ كتابك إلاّ منذ عهد ليس ببعيد، وإنّي لأحمد لك ما أبديت لي فيه من ثقة ثمينة واسعة وحسبي هذه الكلمة فلستُ معترض لأسلوب نظمك لأنّني لست من الذين يتّخذون النّقد صناعة. على أنّني لاأرى عبارات أسوأ فيما يتّصل باكتناه الآثار الفنيّة من تلك العبارات التي اصطلح عليها النّاقدون، لأنّ لغة الناقدين تؤدّي إلى أحوال متشابهات قد تحسن وقد تسوء. وإنّهم لواهمون أولئك الذين يريدون أن يحملونا على الاعتقاد بأنّ الأشياء جميعها في متناول إدراكنا، وأنّ في وسعنا أن نعرف عن هذا الإدراك، وذلك أنّ الحوادث الوجدانية تكاد تكون جميعها ممّا تتعذّر الإبانة عنه لأنّها تتكوّن في جانب من نفوسنا لم تطأه الألفاظ، وأنّ أشدّ الأشياء استعصاء على التّعبير للآثار الفنية تلك الأحياء الخفيّة التي لا حدّ لحياتها والتي تمرّ بها حياتنا العابرة لسبيلها.
وبعد فلا أزيد على هذا إلاّ أنّ شعرك لا ينبئ على أسلوب خاص بك، على أنّه ليس خاليا من بذور الشخصية المستقلة، ولكنّ هذه البذور كأنّ بها استحياء ولم يُتح لها بعد الظّهور. لقد شعرتُ بهذا الأمر وأنا أقرأ قصيدتك التي أسميتها "روحي"، فإنّها تنمّ على شيء خاص بك يودّ لو يجد مسلكا للظّهور ويريد أن يتّخذ له شكلا.
كما أنّ القارئ يحسّ وهو يقرأ قصيدتك الجميلة المعنونة "إلى ليوباردي" بشيء من القرابة بينك وبين هذا الأمير. ولكن بالرّغم من هذا كلّه فليس لشعرك حياة خاصة به، وليس له استقلال، ولا أستثني من هذا قصيدتك الأخيرة أو قصيدة "إلى ليوباردي". ولقد أبنت لي في كتابك الذي أصحبته شعرك ضروبا من جوانب التقصير فيما تضمّنه لم تغب عنّي لكنّي عجزتُ عن أفردها بنعت أو وصف.
وسألتني هل أستحسن شعرك. لقد ألقيت عليّ هذا السّؤال وسألت غيري قبل اليوم مثلما سألتني، وإنّك لتقدّم شعرك إلى المجلات وتقارن بين ما تنظمه أنت وما ينظمه غيرك. ويقلقك ما تقابل به بعض الصحف بواكير نظمك من الإعراض والرّفض، وحيث أنّك أذنت لي في إسداء النّصيحة إليك فإنّي أرجوك أن ترغب في مستقبل الأيّام عن هذا كلّه. إنّني لأراك موليا وجهك نحو ما يحيط بك وهذا هو ما ينبغي لك أن تتجنّبه منذ الآن، إذ ليس لأحد من النّاس أن يتقدّم إليك بالنّصيحة في هذا الشأن أو يعينك بشيء، وليس لك إلاّ أن تسلك سبيلا واحدة، وهي أن تلج ميدان نفسك وتلتمس فيها الحاجة التي تدفعك إلى نظم الشعر. فابحثْ في قرار نفسك، وانظرْ هل تغلغلت جذور هذه الحاجة في أعماق قلبك، حاولْ أن تتبيّن هل أنت لاق حتفك لا محالة إن حيل بينك وبين النّظم. وأحضّك بالخصوص على أن تسأل نفسك في أشدّ ساعات ليلك هدوءا هل أنت مكره حقّا على الكتابة. واذهبْ في نفسك بعيدا في البحث عن أعمق الأجوبة، فإذا عثرت على الجواب الإيجابي وكنت قادرا على أن تواجه ذلك السّؤال الخطير بهذه الكلمات القويّة البسيطة "يجب عليّ ذلك"، فأقمْ هناك حياتك على أساس هذا الاضطرار وسترى حياتك ولا ريب حتى في تلك الساعات التي لا تكترث فيها لشيء والتي تشعر فيها بالفراغ وقد أصبحت دليلا ووشاهدا على هذا الاندفاع . فادنُ (اقتربْ) من الطبيعة وحاولْ أن تفصح عمّا ترى وعمّا تعيشه من ألوان الحياة وعمّا تحبّه وعمّا تفقده. وكنْ في هذا الإفصاح كأوّل إنسان خلق. ولا تنظمْ شعرا موضوعه الغرام، فأوّل ما يجب أن تتجنّبه تلك الأغراض الشائعة بين الشعراء، فهي أشدّ الأغراض عسرا لأنّ الشاعر لا يستطيع أن يأتي بشيء عليه سمته الخاصة في الميادين التي تقوم فيها تقاليد ثابتة أو تقاليد متألّقة في بعض الأحيان إلاّ يوم يكتمل قوته. فتحاش جلائل أبواب الشعر واقصرْ عنايتك على ما تقدّمه إليك الصّحيفة اليومية من المواضيع، واجعلْ همّك في التّعبير عن أحزانك ورغباتك وعن الأفكار التي تسنح لك وإيمانك بصنف من أصناف الجمال. وليكنْ تعبيرك عن هذا كلّه بصدق مكين هادئ خاشع. واستعنْ على ما يكنّه ضميرك بالأشياء المحيطة بك وبصور أحلامك وبما تعْلق به ذكرياتك. فإذا خطر لك أنّ الصحيفة اليومية مجدبة فلا تتّهمها بل اتّهم تفسك لأنّك لم تبلغ بعد من الشاعرية تلك المكانة التي تستطيع معها أن تستغلّ ثروة الصحائف السيّارة. إنّ المبدع الحقّ لا يرى شيئا من الأشياء مجدبا ولا يوجد في نظره مكان فقير لا يستحقّ الاكتراث، وهبْك في سجن كثيفة جدرانه لا تنفذ منها أصوات الدنيا، أليس لك من طفولتك تلك الثروة الثمينة الفاخرة وذلك الكنز من الذّكريات، فلتنتقلْ بفكرك إلى هذه الناحية، ولتجتهدْ في ردّ ما رسب من صور هذا الماضي العريض إلى الحركة والاضطراب، فإنّك إن فعلت ذلك، فأنت مانح قوّة لشخصيتك ومالئ وحدتك ومتّخذ من هذه الوحدة سكنا يلذّك في أوقات يومك المريحة، ولا يبلغه صخب ما يحيط بك. فإذا تيسّر لك شعر بعد هذا المثاب إلى نفسك والغوص في عالمك الدّاخلي، فلن يخطر في بالك حينئذ أن تسأل هل شعرك جيّد، ولن تحاول أن تحمل المجلاّت على قبول عملك هذا، لأنّك ستتمتّع به كما يستمتع ربّ الملك بملك لديه أثير، وستتملاّه لأنّك ستجد فيه ضربا من حياتك ، ولونا من ألوان بيانك. ولا يكون الأثر الفنيّ جيّدا، إلاّ إذا كان وليد الاضطرار والقول الفصل في هذا المضمار لطبيعة الباعث على التّأليف . ومن أجل هذا يا سيّدي العزيز لا يسعني إلاّ أن أقدّم لك نصيحة واحدة ألا هي أن تلج فضاء نفسك وأن تغوص موغلا في الأعماق التي يتفجّر منها ينبوع حياتك، فثمّة الجواب على سؤالك : هل يجب عليك أن تبدع، فإذا ظفرت بهذا الجواب فخذْ منه رنّته، ولا تجنح إلى الغلوّ في فهم معناه وربّما أنست من نفسك بعد هذا انجذابا نحو الفنّ فخذْ إذن ما قدّر لك وانهضْ بهذا العبء الثّقيل العظيم، ولا تتقاض من الخارج ثوابا لأنّ المبدع يجب أن يكون عالما لنفسه، وأن يجد كلّ شيء في نفسه أو في هذه الحصّة من الطبيعة التي انحاز إليها، وقد يكون من نتائج هذا النّزول إلى سريرة نفسك وإلى ذلك المكان الموحش من طويّتك أن ترغب عن قرض الشعر، (وفي اعتقادي أنّه يكفي أن يشعر المرء بأنّ حياته لا تتوقّف على الكتابة ليصبح الكفّ عنها واجبا). فإذا تحقّق هذا الفرض الأخير فلن يذهب عبثا ما أطلبه منك من الغوص في دخيلة نفسك، لأنّ حياتك حينئذ تكون مدينة لهذا الغوص بما فتح أمامها من سبل، وإنّي أتمنّى أن أن تكون هذه السّبل مستطابة سعيدة، شاسعة الأطراف وإنّ ما أتمنّاه لك من هذا الأمر ليقصر عن تبليغه الكلام.
وماذا عليّ أن أزيد بعد ما أسلفتُ ذكره ! أنّه ليُخيّل إليّ أنّني أوفيتُ كلّ شيء (هام) حقّه من الكلام. والحقيقة أنّني لم أحرص إلاّ على أن أنصح لك بالخضوع في نشوئك الخاص بك إلى ناموس طبيعتك، وذلك في وقار ورباطة جأش. وأعظم اضطراب تلحقه بسير تطوّرك أن توجّه نظرك إلى ما هو خارج عنك وأن تنتظر ورود الأجوبة المتطلّبة ممّا يحيط بك ، تلك الأجوبة التي لا يمكن أن ينطق بها إلاّ أعمق عواطفك في أسكن ساعات حياتك.
"فكر وفن"، العدد 33، يونيو 1979، ص82 ـ 83.
المطّلع على العدد (33) من مجلة "فكر وفن " الصادرة في ألمانيا والعائدة إلى مطلع يونيو 1979 سيقرأ في الصفحتين 82 و83 اسم الشاعر راينر ماريا ريلكه(1875 ـ 1926) ورسالته ذائعة الصيت، لكنّه لن يعثر على اسم المترجم إلاّ في مقدّمة موجزة تضمّنت شقّين: في الشقّ الأول تمّ تقديم المترجم تحت اسم حاج م.حامد بهنيني، ولولا الإشارة إلى مولده بفاس عام 1914 وسرد مقتضب لمساره السياسي لخلناه شخصا آخر ! أمّا الشقّ الثاني فقدّم إضاءتين كاشفتين؛ الأولى تنبئ بأنّ نص الترجمة هو جزء من محاضرة ألقاها المترجم في الثلاثينيات من القرن الماضي، والثانية تومئ أنّ الأستاذ باحنيني "من الأدباء المغرمين بالشاعر راينر ماريه ريلكه" الذي كان يحظى في ذاك الزّمن "بشهرة كبيرة بين أدباء العالم العربي" كما تقول المجلّة التي لم تشر ملطلقا إلى مصدر أومرجع الترجمة !
استعادة لذكرى الأستاذ الحاج امحمد باحنيني (1914 ـ 1989)؛ هذه الشخصية المغربية الأدبية والسياسية المرمومة، نذكّر بهذه الترجمة البديعة...
النص:
باريس 17 فبراير 1903
سيّدي العزيز:
لم يرد عليّ كتابك إلاّ منذ عهد ليس ببعيد، وإنّي لأحمد لك ما أبديت لي فيه من ثقة ثمينة واسعة وحسبي هذه الكلمة فلستُ معترض لأسلوب نظمك لأنّني لست من الذين يتّخذون النّقد صناعة. على أنّني لاأرى عبارات أسوأ فيما يتّصل باكتناه الآثار الفنيّة من تلك العبارات التي اصطلح عليها النّاقدون، لأنّ لغة الناقدين تؤدّي إلى أحوال متشابهات قد تحسن وقد تسوء. وإنّهم لواهمون أولئك الذين يريدون أن يحملونا على الاعتقاد بأنّ الأشياء جميعها في متناول إدراكنا، وأنّ في وسعنا أن نعرف عن هذا الإدراك، وذلك أنّ الحوادث الوجدانية تكاد تكون جميعها ممّا تتعذّر الإبانة عنه لأنّها تتكوّن في جانب من نفوسنا لم تطأه الألفاظ، وأنّ أشدّ الأشياء استعصاء على التّعبير للآثار الفنية تلك الأحياء الخفيّة التي لا حدّ لحياتها والتي تمرّ بها حياتنا العابرة لسبيلها.
وبعد فلا أزيد على هذا إلاّ أنّ شعرك لا ينبئ على أسلوب خاص بك، على أنّه ليس خاليا من بذور الشخصية المستقلة، ولكنّ هذه البذور كأنّ بها استحياء ولم يُتح لها بعد الظّهور. لقد شعرتُ بهذا الأمر وأنا أقرأ قصيدتك التي أسميتها "روحي"، فإنّها تنمّ على شيء خاص بك يودّ لو يجد مسلكا للظّهور ويريد أن يتّخذ له شكلا.
كما أنّ القارئ يحسّ وهو يقرأ قصيدتك الجميلة المعنونة "إلى ليوباردي" بشيء من القرابة بينك وبين هذا الأمير. ولكن بالرّغم من هذا كلّه فليس لشعرك حياة خاصة به، وليس له استقلال، ولا أستثني من هذا قصيدتك الأخيرة أو قصيدة "إلى ليوباردي". ولقد أبنت لي في كتابك الذي أصحبته شعرك ضروبا من جوانب التقصير فيما تضمّنه لم تغب عنّي لكنّي عجزتُ عن أفردها بنعت أو وصف.
وسألتني هل أستحسن شعرك. لقد ألقيت عليّ هذا السّؤال وسألت غيري قبل اليوم مثلما سألتني، وإنّك لتقدّم شعرك إلى المجلات وتقارن بين ما تنظمه أنت وما ينظمه غيرك. ويقلقك ما تقابل به بعض الصحف بواكير نظمك من الإعراض والرّفض، وحيث أنّك أذنت لي في إسداء النّصيحة إليك فإنّي أرجوك أن ترغب في مستقبل الأيّام عن هذا كلّه. إنّني لأراك موليا وجهك نحو ما يحيط بك وهذا هو ما ينبغي لك أن تتجنّبه منذ الآن، إذ ليس لأحد من النّاس أن يتقدّم إليك بالنّصيحة في هذا الشأن أو يعينك بشيء، وليس لك إلاّ أن تسلك سبيلا واحدة، وهي أن تلج ميدان نفسك وتلتمس فيها الحاجة التي تدفعك إلى نظم الشعر. فابحثْ في قرار نفسك، وانظرْ هل تغلغلت جذور هذه الحاجة في أعماق قلبك، حاولْ أن تتبيّن هل أنت لاق حتفك لا محالة إن حيل بينك وبين النّظم. وأحضّك بالخصوص على أن تسأل نفسك في أشدّ ساعات ليلك هدوءا هل أنت مكره حقّا على الكتابة. واذهبْ في نفسك بعيدا في البحث عن أعمق الأجوبة، فإذا عثرت على الجواب الإيجابي وكنت قادرا على أن تواجه ذلك السّؤال الخطير بهذه الكلمات القويّة البسيطة "يجب عليّ ذلك"، فأقمْ هناك حياتك على أساس هذا الاضطرار وسترى حياتك ولا ريب حتى في تلك الساعات التي لا تكترث فيها لشيء والتي تشعر فيها بالفراغ وقد أصبحت دليلا ووشاهدا على هذا الاندفاع . فادنُ (اقتربْ) من الطبيعة وحاولْ أن تفصح عمّا ترى وعمّا تعيشه من ألوان الحياة وعمّا تحبّه وعمّا تفقده. وكنْ في هذا الإفصاح كأوّل إنسان خلق. ولا تنظمْ شعرا موضوعه الغرام، فأوّل ما يجب أن تتجنّبه تلك الأغراض الشائعة بين الشعراء، فهي أشدّ الأغراض عسرا لأنّ الشاعر لا يستطيع أن يأتي بشيء عليه سمته الخاصة في الميادين التي تقوم فيها تقاليد ثابتة أو تقاليد متألّقة في بعض الأحيان إلاّ يوم يكتمل قوته. فتحاش جلائل أبواب الشعر واقصرْ عنايتك على ما تقدّمه إليك الصّحيفة اليومية من المواضيع، واجعلْ همّك في التّعبير عن أحزانك ورغباتك وعن الأفكار التي تسنح لك وإيمانك بصنف من أصناف الجمال. وليكنْ تعبيرك عن هذا كلّه بصدق مكين هادئ خاشع. واستعنْ على ما يكنّه ضميرك بالأشياء المحيطة بك وبصور أحلامك وبما تعْلق به ذكرياتك. فإذا خطر لك أنّ الصحيفة اليومية مجدبة فلا تتّهمها بل اتّهم تفسك لأنّك لم تبلغ بعد من الشاعرية تلك المكانة التي تستطيع معها أن تستغلّ ثروة الصحائف السيّارة. إنّ المبدع الحقّ لا يرى شيئا من الأشياء مجدبا ولا يوجد في نظره مكان فقير لا يستحقّ الاكتراث، وهبْك في سجن كثيفة جدرانه لا تنفذ منها أصوات الدنيا، أليس لك من طفولتك تلك الثروة الثمينة الفاخرة وذلك الكنز من الذّكريات، فلتنتقلْ بفكرك إلى هذه الناحية، ولتجتهدْ في ردّ ما رسب من صور هذا الماضي العريض إلى الحركة والاضطراب، فإنّك إن فعلت ذلك، فأنت مانح قوّة لشخصيتك ومالئ وحدتك ومتّخذ من هذه الوحدة سكنا يلذّك في أوقات يومك المريحة، ولا يبلغه صخب ما يحيط بك. فإذا تيسّر لك شعر بعد هذا المثاب إلى نفسك والغوص في عالمك الدّاخلي، فلن يخطر في بالك حينئذ أن تسأل هل شعرك جيّد، ولن تحاول أن تحمل المجلاّت على قبول عملك هذا، لأنّك ستتمتّع به كما يستمتع ربّ الملك بملك لديه أثير، وستتملاّه لأنّك ستجد فيه ضربا من حياتك ، ولونا من ألوان بيانك. ولا يكون الأثر الفنيّ جيّدا، إلاّ إذا كان وليد الاضطرار والقول الفصل في هذا المضمار لطبيعة الباعث على التّأليف . ومن أجل هذا يا سيّدي العزيز لا يسعني إلاّ أن أقدّم لك نصيحة واحدة ألا هي أن تلج فضاء نفسك وأن تغوص موغلا في الأعماق التي يتفجّر منها ينبوع حياتك، فثمّة الجواب على سؤالك : هل يجب عليك أن تبدع، فإذا ظفرت بهذا الجواب فخذْ منه رنّته، ولا تجنح إلى الغلوّ في فهم معناه وربّما أنست من نفسك بعد هذا انجذابا نحو الفنّ فخذْ إذن ما قدّر لك وانهضْ بهذا العبء الثّقيل العظيم، ولا تتقاض من الخارج ثوابا لأنّ المبدع يجب أن يكون عالما لنفسه، وأن يجد كلّ شيء في نفسه أو في هذه الحصّة من الطبيعة التي انحاز إليها، وقد يكون من نتائج هذا النّزول إلى سريرة نفسك وإلى ذلك المكان الموحش من طويّتك أن ترغب عن قرض الشعر، (وفي اعتقادي أنّه يكفي أن يشعر المرء بأنّ حياته لا تتوقّف على الكتابة ليصبح الكفّ عنها واجبا). فإذا تحقّق هذا الفرض الأخير فلن يذهب عبثا ما أطلبه منك من الغوص في دخيلة نفسك، لأنّ حياتك حينئذ تكون مدينة لهذا الغوص بما فتح أمامها من سبل، وإنّي أتمنّى أن أن تكون هذه السّبل مستطابة سعيدة، شاسعة الأطراف وإنّ ما أتمنّاه لك من هذا الأمر ليقصر عن تبليغه الكلام.
وماذا عليّ أن أزيد بعد ما أسلفتُ ذكره ! أنّه ليُخيّل إليّ أنّني أوفيتُ كلّ شيء (هام) حقّه من الكلام. والحقيقة أنّني لم أحرص إلاّ على أن أنصح لك بالخضوع في نشوئك الخاص بك إلى ناموس طبيعتك، وذلك في وقار ورباطة جأش. وأعظم اضطراب تلحقه بسير تطوّرك أن توجّه نظرك إلى ما هو خارج عنك وأن تنتظر ورود الأجوبة المتطلّبة ممّا يحيط بك ، تلك الأجوبة التي لا يمكن أن ينطق بها إلاّ أعمق عواطفك في أسكن ساعات حياتك.
"فكر وفن"، العدد 33، يونيو 1979، ص82 ـ 83.