أنا لم أعرف جدّي، والد أبي، فقد مات قبل أن تنجبني أمّي، بحدود السّنتين، ولكنّني عرفت عنه الكثير، من مصادر، ورواة عديدين، وخاصة عن مدى قسوته، وبطشه، وظلمه لأبي، وإلى بقيّة أسرته.. بداية من جدّتي، صاحبة الكرامة، التي تعتزّ وتفتخر بها، إلى ابنها عمّي (سعيد)، ولدها البكر، الذي خلّفته من زوجها السّابق، وإلى عمّاتي، بناته الثلاثة أيضاً، وصولاً إلى عمّي (عمر)، آخر العنقود، من أبنائه، الذي كان يعتبر، الأكثر حظاً من بين أخوته، في نيله المحبّة والدّلال من والديّه.
وتحدّث الرّواة أيضاً، عن تجهّم وجه جدّي الدّائم، طوال الوقت، في الليل والنّهار، وعن حبّه، ورغبته الدّائمة للعزلة، وميله الشّديد، إلى التّأمل والصّمت، إلى جانب، كرهه للأصوات الصّادرة من حوله، وخاصة أصوات من يرغبوان، في محادثته، أو يريدون أن يسألوه، أو من هم طامعون بمحاورته، ولهذا كانوا يهابونه، ويتجنّبوه، وينفرون من الاحتكاك به، ويحاولون الابتعاد عنه ما استطاعوا، وسمح لهم بذلك، فهو مرهوب الجانب، من قبل معظمهم، كان له مهابة ومكانة، تخيفهم، وتفرض عليهم، أن يحسبوا لوجوده، ألف حساب، وحساب، وصولاً إلى أمّي، اللطيفة الطّباع، والرّقيقة القلب
، والرّوح، والجسد، والإحساس، والمشاعر، حيث إنتقل إليها، كلّ الخوف، والرّهبة، والمهابة، عن طريق المحاكاة، والعدوى، ورضوخ،
وتحرّكات، جميع من كان يسكن، ويعيش معه، في هذه الدّار، التّرابيّة، والواسعة.
أمضى جدّي سنوات من حياته، وهو يعمل تاجر متنقّل على ظهر حماره، بين القرى يبيع الأقمشة، وأدوات الزّينة، والعطورات، لنساء وفتيات الرّيف، في المنطقة الشّرقيّة.. يغادر المدينة، في السّنة، مرّتين أو ثلاث، يقيم هناك أشهر ثمّ يعود للمدينة، وإلى أسرته، وبيته، ليمضي كامل فصل الشّتاء بينهم، دون عمل، يمضي معظم وقته، في المقهى، مع رفاقه، يلعبون (طاولة الزّهر).. وكان حين يعود إلى الدّار، تتحوّل داره، إلى مقبرة صمت، لجميع من فيها، من جدّتي، إلى أبي، وأمّي، وعمّي.. ومن حسن حظ عمّاتي إنّهنّ تزوّجن، وتحرّرن من قيود هذا البيت، إلّا عمّتي (حميدة)، فهي (مخطوبة) بالاكراه بعد.. لا أحد يتحرّك إلّا للضرورة القصوى، وبهدوء جمّ، ولا يتكلّم إلّا بصوت يشبه الهمس.. وكان والدي مجبر ومضطر، أن يمضي السّهرة مع أهله، لكي لا يشعل (لمبة) الكاز، وتسبّب مصروفاً زائداً، لا معنى له.. وخلال السّهرة كان والدي يشتهي على كأس من الشّايِ، فهو متعب من شغله، في مهنة العمارة.. فيؤشر لجدّتي من خلف ظهر جدّي، أنّه يرغب بكأس من الشًاي، حينها تقترب جدّتي من جدّي، وتدلق على شفتيها ابتسامة مصطنعة، وهي تقول، بصوت هامس، ومؤثّر:
- هل تشرب شاي يا (أبو حسين)؟.
وكان جدّي، حين يجلس مع عائلته،
يقعد ويدير لهم ظهره، فهو لا يريد أن يتطلّع بوجه أحد، أو أن يحادث أحداً أيضاً.. يلتفت جدّي نحو جدّتي، ليقول، وبصوت آمر، وخشن:
- أعملوا شاي، في الإبريق الصّغير، ولا تكثروا منه، كأس واحد تكفي، لمن يريد أن يشرب.
وهذا الكلام كان موجّهاً لأبي، فلولاه لكان من المستحيل أن يسمح جدّي، أن يقْدموا على غليّ الشّايِ ليلاً، فهذا يعتبر مصروفاً، زائداً، لا ضرورة له، فليس مسموح لهم، أن يشربوا الشّاي، إلّا عند الصّباح ، مع طعام الإفطار، أو في حال، إن جاء لعندهم أحد ما، للسهر، و أيضاً يفضّل أن لا يشرب الشّاي، الصّغار، مثل عمّي (عمر)، الذي لم يتجاوز عمره، الحادية عشر سنة بعد، وأمّي التي لا يعترف جدّي بوجودها، إلّا من أجل الخدمة، وتلبية الطّلبات، ولقضاء حوائج أبي.. فلا ضرورة أيضاً، لأن تشرب الشّاي، هي مجبرة فقط، أن تشعل (الفانوس)، و تذهب إلى المطبخ، المرعب والمخيف، لتشعل (بابور) الكاز، وتعبّأ إبريق الشّاي من البئر، الملاصق، لجدار المطبخ، ثمّ تقوم بغلي الشّاي، وتحمله في صينيّة، مع الكؤوس، ومن ثمّ تعود للغرفة، لتصبّ الشّاي، وتقدمه للجالسين، بأدب، وحشمة، وتقدير واحترام.
وكان على أبي، إن أراد التّدخين، أن يخرج، ويدخّن في غرفته، أو في باحة الدّار التّرابيّة، والواسعة، والتي تتضمّن بعض أشجار الرّمان، ودالية الحصرّم، العالية، والكبيرة، والمستندة، على بعض العواميد، والحيطان، لذلك كانت تبدو باحة الدّار، مخيفة وموحشة، في الظّلام.. وما كان أبي ليجد المتعة في شرب الشّاي، إلّا برفقة السّيجارة، وهذا ما كان يتطلّب من أمّي، أن تتبعه بكأس الشّاي، أينما يقرر أن يدخّن.
في تلك اللحظة، حينما يخرج أبي،
وتتبعه أمّي، يلتفت جدّي إلى جدّتي، ويقول، بصوت متهكم ونزق:
- ألم يعجبهم إكمال السّهرة معنا؟!. لعنة الله على فهمهم وذوقهم، وقلة حيائهم.
فتقول، جدّتي في ضيق، وانزعاج:
- ألا تعرف إنّه خرج، ليدخن سيجارة
؟، اسمح له أن يدخّن أمامك، لقد أصبح رجلاً، وها هو قد تزوًج، وعمّا قريب، إن شاء الله، سيكون أباً، لحفيدك، الذي سيكون اسمه، على اسمك يا جدّو (سامي).
جدّي رجل متعال، ومتكبّر، بل
ومتعجرف، يتكلّم مع الآخرين، بطريقة فوقيّة، وبلهجة آمرة، وقاسية، وخشنة، فهو ابن (الأغا)، وزعيم العشيرة، التّابعة، لعشيرة كبيرة، ومعروفة في (سوريّة)، المنتشرة في ريف (الرّقة) وكان يملك من الأراضي، التي تقع ما بين، المدينة والنّاحية الكثير منها، إلى جانب الخانات، والمحّلات، والدّكاكين، ودور السْكن. وفي زمن (العثمانيّة)، كان عنده سجن، يزجْ به أبناء عشيرته، وأبناء العشائر الأخرى، من الضّعفاء والفقراء، والبسطاء، وذلك بسبب الجرائم، والمخالفات، بالتوافق مع الوالي (العثماني).
وكان إن أراد الصّعود على ظهر حصانه، فقد كان هناك، من ينحني له، ليدوس على ظهره، فيصعد ويمتطي حصانه، لأنّه قصير القامة، يصعب عليه القفز، وركوب الخيل مباشرة، دون مساعدة، ولهذا نشأ جدّي، مدلّلاً ومترفاً ومتجبّراً، لكنّ والده (الأغا)، سرعان ما ضيّع نفسه و ملكه. يقال عنه:
- ضيّع ملكه، وهيبته، وعقله، لأنّه أغضب الله، يوم مات شقيقه، الذي كان، قد نبذه وتخلّى عنه، بسبب إدمانه على شرب الخمر.. ويوم قيل له:
- إن أخيك (عمر) مات.. يا جناب الأغا.
رد عليهم، بعدم اهتمام، ومبالاة، وتأثر:
- إلى جهنّمَ.. فليمت، لنستريح منه، ومن سيرته الوسخة.. فهو ليس بأخي.. وأنا لا أعترف به.. فقد طردته، وتخلّيتُ عنه.. منذ زمن.. اذهبوا.. لا علاقة لي به.. طالما كان يعصي، الله سبحانه وتعالى.
وتجمّع وجهاء المدينة، وجاؤوا الشّيوخ، ورجال الدّين، وعلى رأسهم المفتي، وكلّهم طالبوه، بضرورة أن يحضر جنازة أخيه، وأخبروه أنّهم كرامة له ، هم جاؤوا ليشاركوا بالدّفن، وتقديم واجب العزاء، وهذا ما جعل (الأغا)، أن يضطرّ، ويوافق على مشاركته، بتشيع أخيه (عمر).
عندما أتمّوا دفن الميّت، وصافح كلّ من حضر الدّفن (الأغا)، وقدّموا له تعازيهم الحارة، وبدؤوا ينزلون الجبل، المنتشرة على سفحه،(المقبرة الكبيرة)، تحرّك (الأغا)، وبدل أن يهبط نحو المدينة، مثل البقيّة، توجّه صوب قبر أخيه، المدفون حديثاً، نظر إلى القبر بغضب واحتقار، وقال يخاطبه:
- مُتْ.. واجه ربْك.. ونل جزاء أفعالك.
ثمّ بصق بقوّة واحتقار، على قبر أخيه.. وصرخ:
- لعنة الله عليك.. لقد فضحتنا.
يحكى.. أن (الأغا)، والد جدّي، رفض أن ينزل من عند المقبرة، لعند أحد وجهاء المدينة، كما جرت العادة، في هكذا مناسبات، حيث يلتمّ النّاس، في دار صاحب الدّعوة، ليقدّم لهم الطّعام ، والشّراب، وقطع الحلوى، عن روح المرحوم، الذي تمّ دفنه قبل قليل.
توجّه (الأغا)، ولأول مرّة في عمره، و فور نزوله من الجبل، بعد دفن شقيقه، إلى خمّارة البلد، التي كان أخوه، يتردّد عليها، ليعربد ويسكر، ويلهو فيها، مع شلّته، رفاق السّوء، الذين لم يكونوا يفارقونه أبداً.
وكم كانت الصّدمة كبيرة، وقاسية، ومؤلمة، وصعبة، وفظيعة، على أهل (الأغا)، وأقرباءه، ورفاقه، وأصحابه، وجميع أهل البلدة.. وكانوا يسألون، بدهشة، وغرابة، واستنكار:
- لماذا؟!.. وكيف؟!.. وماذا حلْ بعقل (الأغا)؟!.. الذي طرد أخيه، وتخلّى عنه، بل تبرأ منه، بسبب تعاطيه الخمرة؟!.
تداعت هيبة،(الأغا)، وقلّت، وضعفت
، ومن ثمّ تلاشت، وغابت.. وحلْت بدلاً عنها، السّمعة السّيئة، والغير محترمة، أو اللائقة، لرجل كان بالأمس القريب، (أغاً) وسط بلدة، تتمسّك بدينها، وبعاداتها، وتقاليدها!.
كان هو السّيد الأوَّل، في جبروته، وأملاكه، واعتزازه بنفسِهِ، وعشيرته، وبلدته.. وفجأة، ومن غير سابق إنذار، يتحوّل هذا الرّجل العظيم، إلى شبه مسخرة، لمن كانوا يعملون عنده، وينحنون ليقبّلوا يديه، طالبين رضاه، ثمّ عطاياه الكثيرة.
للأسف الشّديد، لم يكتفِ بتجرّع الخمر، بل ارتمى بأحضان بائعات الهوى، وصار ينفق عليهنّ، من أمواله الطائلة، وحاولوا معه أخوته، وبقيّة من في العائلة، من رجال كبار في السّن.. وأصدقائه الكثر، ومعارفه، وجيرانه، وكلً من يريد له الخير، ولكن عبثاً، دون فائدة.. فأخذ يفرّط بأملاكه، شيئاً فشيئاً، وينفقه على ملذْاته وصاحباته، دون حسبان.
وتزوّج.. واستبشروا من هم حوله خيراً، وقالوا :
- علّ زوجته تعيده إلى رشده.
ولكنّها.. وقبل أن تضع له، ولدها الأوَّل.. حتّى كان قد تزوّج عليها.
وقد أعجبه تعدّد الزّوجات، فكان سرعان ما يطلّق، ليعاود الزّواج مرّة أخرى.. ومن ثمً مرّة أخرى، هكذا.. ومن دون أسباب، كان يطلّق نسائه، بعد أن ينجبن له الأطفال، ذكوراً وإناثاً، فيأخذ أولاده، ويلقيهم في عهدة أخواته، والويل كلّ الويل، لمن تعترض، أو تتجرأُ وترفض، حتّى وإن كانت متزوّجة، ولديها أولاد.. إذ سرعان ما يهدّدها بطلاقها من زوجها، والإتيان بها لعنده، لتتفرّغ لتربيّة أولاده.
وكان جدّي، أحد أولاده الضّحايا، شبّ غنيّاً، ثمّ أفاق على إفلاس أبيه، الذي كان ذات يوم، (أغا) من (أغوات)، الدّولة.
وحين أخذ (الأغا)، يتناول الخمور، المغشوشة، والسّيّئة الصّنع، والرّخيصة الثّمن.. بسبب عجزه عن شراء، الخمور الجيّدة، التي كان سابقاً يعاقرها، قبل أن يصل إلى الدّرك الأسفل، من الفقر والحاجة والعوز.. فصار أيضاً يستدين من الدّكاكين والمحلّات، فيضطر أولاده، لدفع ديون أبيهم، وهم يوصوا بعدم إعطاءه أيً شيء لا يدفع ثمنه، نقداً.
أخذ يفقد وعيه عند السّكر، يمشي في حارات، وأزقة المدينة وسوقها، وهو ثمل، يتمايل ذات اليمين، وذات اليسار، يسبّ ويتحرش بالمارة، الذّين كانوا يعرفونه، إلّا الغرباء، فكانوا يضحكون، ويتأسّفون عليه، يوم كان بمرتبة(الأغا)، فيتحوّل اليوم، إلى سكير، رث الثّياب والمنظر، فاقد الوعي، تفوح منه رائحة كريهة، ويتلفّظ بألفاظ نابية، مخجلة، ووقحة، لا يحتملها إلّا من يراعي حرمة لذكرى، أو معرفة سابقة، أو كرامة لأبنائه، أو لأقربائه.
صار يبول ويتغوّط في سرواله، وتنبعث منه روائح مقزّزة، لمن يمرّ بالقرب منه، يجلس على الأرض، غير عابئ بكلِّ النّاس، وكان في بعض الأحيان، يتقيّأُ، أو يتمدّد على الأرض، الوسخة، أو قد يحلو له أن ينام.. والأولاد لا يفارقونه، يمازحونه، أو يسخرون منه، أو يسلبونه نقوده، في حال كان يحمل نقوداً معه.
وهذا ما كان يسبّب الألم، لجدّي ولإخوته، ولقد عجزوا أن يجدوا له حلّاً، تحوّل اسمهم إلى أبناء (السّكران)، بعد أن كان النّاس ينادونهم ، بأبناء (الحاج حسين أغا).
أجتمع (جدّي) بأخوته.. ناقشوا أمر والدهم، كانوا متألّمين ممّا وصل إليه حال أبيهم، الذي ورّثهم العار، والخجل، بعد أن كانوا، يتفاخرون، ويتباهون، بأبيهم، وبعائلتهم، وعشيرتهم.. وبعد نقاشات مطوّلة، وحادّة أحياناً، وصلوا إلى قرارهم، الصّعب، في تنفيذه، ولكنّه ضروري، وهام، وهو رغم قسوته، سيكون لمصلحة العائلة، والعشيرة أيضاً.
سيحلّ الأب، (الحاج حسين أغا) سابقاً، في كلَّ إسبوع، عند واحد من أولاده، ضيفاً سجيناً، لا يسمح له بالخروج، إلى شوارع البلدة، أو حاراتها، أو أسواقها، أو إلى أيّ مكان، خارج الدّار.. وذلك حفظاً على السّمعة، والمكانة، والهيبة، والقدر.. وفي حال عجزوا عن ضبط والدهم، ومنعه من تعاطي الخمر، والقعود داخل الدّار، يحقّ لهم ربط والدهم بالحبال، أو الجنازير، لتمكّنهم من حبسه، ومنعه عن ملاقاة النّاس، حتّى يأخذ الله أمانته من أبيهم.
ولمّا عجزوا عن ضبط (الأغا)،المدمن
، وصار يصرخ، ويهاجم، ويضرب، ويعتدي، ويبصق، ويسب، ويشتم، ويحاول الهرب، مهدّداً بالانتحار، أو حرق الدّار بمن فيها.. صار جدّي، وأخوته، يضربونه، ويشتمونه، بل صاروا يجلدونه بالسّياط.
مصطفى الحاج حسين
يتبع الفصل الثاني .
وتحدّث الرّواة أيضاً، عن تجهّم وجه جدّي الدّائم، طوال الوقت، في الليل والنّهار، وعن حبّه، ورغبته الدّائمة للعزلة، وميله الشّديد، إلى التّأمل والصّمت، إلى جانب، كرهه للأصوات الصّادرة من حوله، وخاصة أصوات من يرغبوان، في محادثته، أو يريدون أن يسألوه، أو من هم طامعون بمحاورته، ولهذا كانوا يهابونه، ويتجنّبوه، وينفرون من الاحتكاك به، ويحاولون الابتعاد عنه ما استطاعوا، وسمح لهم بذلك، فهو مرهوب الجانب، من قبل معظمهم، كان له مهابة ومكانة، تخيفهم، وتفرض عليهم، أن يحسبوا لوجوده، ألف حساب، وحساب، وصولاً إلى أمّي، اللطيفة الطّباع، والرّقيقة القلب
، والرّوح، والجسد، والإحساس، والمشاعر، حيث إنتقل إليها، كلّ الخوف، والرّهبة، والمهابة، عن طريق المحاكاة، والعدوى، ورضوخ،
وتحرّكات، جميع من كان يسكن، ويعيش معه، في هذه الدّار، التّرابيّة، والواسعة.
أمضى جدّي سنوات من حياته، وهو يعمل تاجر متنقّل على ظهر حماره، بين القرى يبيع الأقمشة، وأدوات الزّينة، والعطورات، لنساء وفتيات الرّيف، في المنطقة الشّرقيّة.. يغادر المدينة، في السّنة، مرّتين أو ثلاث، يقيم هناك أشهر ثمّ يعود للمدينة، وإلى أسرته، وبيته، ليمضي كامل فصل الشّتاء بينهم، دون عمل، يمضي معظم وقته، في المقهى، مع رفاقه، يلعبون (طاولة الزّهر).. وكان حين يعود إلى الدّار، تتحوّل داره، إلى مقبرة صمت، لجميع من فيها، من جدّتي، إلى أبي، وأمّي، وعمّي.. ومن حسن حظ عمّاتي إنّهنّ تزوّجن، وتحرّرن من قيود هذا البيت، إلّا عمّتي (حميدة)، فهي (مخطوبة) بالاكراه بعد.. لا أحد يتحرّك إلّا للضرورة القصوى، وبهدوء جمّ، ولا يتكلّم إلّا بصوت يشبه الهمس.. وكان والدي مجبر ومضطر، أن يمضي السّهرة مع أهله، لكي لا يشعل (لمبة) الكاز، وتسبّب مصروفاً زائداً، لا معنى له.. وخلال السّهرة كان والدي يشتهي على كأس من الشّايِ، فهو متعب من شغله، في مهنة العمارة.. فيؤشر لجدّتي من خلف ظهر جدّي، أنّه يرغب بكأس من الشًاي، حينها تقترب جدّتي من جدّي، وتدلق على شفتيها ابتسامة مصطنعة، وهي تقول، بصوت هامس، ومؤثّر:
- هل تشرب شاي يا (أبو حسين)؟.
وكان جدّي، حين يجلس مع عائلته،
يقعد ويدير لهم ظهره، فهو لا يريد أن يتطلّع بوجه أحد، أو أن يحادث أحداً أيضاً.. يلتفت جدّي نحو جدّتي، ليقول، وبصوت آمر، وخشن:
- أعملوا شاي، في الإبريق الصّغير، ولا تكثروا منه، كأس واحد تكفي، لمن يريد أن يشرب.
وهذا الكلام كان موجّهاً لأبي، فلولاه لكان من المستحيل أن يسمح جدّي، أن يقْدموا على غليّ الشّايِ ليلاً، فهذا يعتبر مصروفاً، زائداً، لا ضرورة له، فليس مسموح لهم، أن يشربوا الشّاي، إلّا عند الصّباح ، مع طعام الإفطار، أو في حال، إن جاء لعندهم أحد ما، للسهر، و أيضاً يفضّل أن لا يشرب الشّاي، الصّغار، مثل عمّي (عمر)، الذي لم يتجاوز عمره، الحادية عشر سنة بعد، وأمّي التي لا يعترف جدّي بوجودها، إلّا من أجل الخدمة، وتلبية الطّلبات، ولقضاء حوائج أبي.. فلا ضرورة أيضاً، لأن تشرب الشّاي، هي مجبرة فقط، أن تشعل (الفانوس)، و تذهب إلى المطبخ، المرعب والمخيف، لتشعل (بابور) الكاز، وتعبّأ إبريق الشّاي من البئر، الملاصق، لجدار المطبخ، ثمّ تقوم بغلي الشّاي، وتحمله في صينيّة، مع الكؤوس، ومن ثمّ تعود للغرفة، لتصبّ الشّاي، وتقدمه للجالسين، بأدب، وحشمة، وتقدير واحترام.
وكان على أبي، إن أراد التّدخين، أن يخرج، ويدخّن في غرفته، أو في باحة الدّار التّرابيّة، والواسعة، والتي تتضمّن بعض أشجار الرّمان، ودالية الحصرّم، العالية، والكبيرة، والمستندة، على بعض العواميد، والحيطان، لذلك كانت تبدو باحة الدّار، مخيفة وموحشة، في الظّلام.. وما كان أبي ليجد المتعة في شرب الشّاي، إلّا برفقة السّيجارة، وهذا ما كان يتطلّب من أمّي، أن تتبعه بكأس الشّاي، أينما يقرر أن يدخّن.
في تلك اللحظة، حينما يخرج أبي،
وتتبعه أمّي، يلتفت جدّي إلى جدّتي، ويقول، بصوت متهكم ونزق:
- ألم يعجبهم إكمال السّهرة معنا؟!. لعنة الله على فهمهم وذوقهم، وقلة حيائهم.
فتقول، جدّتي في ضيق، وانزعاج:
- ألا تعرف إنّه خرج، ليدخن سيجارة
؟، اسمح له أن يدخّن أمامك، لقد أصبح رجلاً، وها هو قد تزوًج، وعمّا قريب، إن شاء الله، سيكون أباً، لحفيدك، الذي سيكون اسمه، على اسمك يا جدّو (سامي).
جدّي رجل متعال، ومتكبّر، بل
ومتعجرف، يتكلّم مع الآخرين، بطريقة فوقيّة، وبلهجة آمرة، وقاسية، وخشنة، فهو ابن (الأغا)، وزعيم العشيرة، التّابعة، لعشيرة كبيرة، ومعروفة في (سوريّة)، المنتشرة في ريف (الرّقة) وكان يملك من الأراضي، التي تقع ما بين، المدينة والنّاحية الكثير منها، إلى جانب الخانات، والمحّلات، والدّكاكين، ودور السْكن. وفي زمن (العثمانيّة)، كان عنده سجن، يزجْ به أبناء عشيرته، وأبناء العشائر الأخرى، من الضّعفاء والفقراء، والبسطاء، وذلك بسبب الجرائم، والمخالفات، بالتوافق مع الوالي (العثماني).
وكان إن أراد الصّعود على ظهر حصانه، فقد كان هناك، من ينحني له، ليدوس على ظهره، فيصعد ويمتطي حصانه، لأنّه قصير القامة، يصعب عليه القفز، وركوب الخيل مباشرة، دون مساعدة، ولهذا نشأ جدّي، مدلّلاً ومترفاً ومتجبّراً، لكنّ والده (الأغا)، سرعان ما ضيّع نفسه و ملكه. يقال عنه:
- ضيّع ملكه، وهيبته، وعقله، لأنّه أغضب الله، يوم مات شقيقه، الذي كان، قد نبذه وتخلّى عنه، بسبب إدمانه على شرب الخمر.. ويوم قيل له:
- إن أخيك (عمر) مات.. يا جناب الأغا.
رد عليهم، بعدم اهتمام، ومبالاة، وتأثر:
- إلى جهنّمَ.. فليمت، لنستريح منه، ومن سيرته الوسخة.. فهو ليس بأخي.. وأنا لا أعترف به.. فقد طردته، وتخلّيتُ عنه.. منذ زمن.. اذهبوا.. لا علاقة لي به.. طالما كان يعصي، الله سبحانه وتعالى.
وتجمّع وجهاء المدينة، وجاؤوا الشّيوخ، ورجال الدّين، وعلى رأسهم المفتي، وكلّهم طالبوه، بضرورة أن يحضر جنازة أخيه، وأخبروه أنّهم كرامة له ، هم جاؤوا ليشاركوا بالدّفن، وتقديم واجب العزاء، وهذا ما جعل (الأغا)، أن يضطرّ، ويوافق على مشاركته، بتشيع أخيه (عمر).
عندما أتمّوا دفن الميّت، وصافح كلّ من حضر الدّفن (الأغا)، وقدّموا له تعازيهم الحارة، وبدؤوا ينزلون الجبل، المنتشرة على سفحه،(المقبرة الكبيرة)، تحرّك (الأغا)، وبدل أن يهبط نحو المدينة، مثل البقيّة، توجّه صوب قبر أخيه، المدفون حديثاً، نظر إلى القبر بغضب واحتقار، وقال يخاطبه:
- مُتْ.. واجه ربْك.. ونل جزاء أفعالك.
ثمّ بصق بقوّة واحتقار، على قبر أخيه.. وصرخ:
- لعنة الله عليك.. لقد فضحتنا.
يحكى.. أن (الأغا)، والد جدّي، رفض أن ينزل من عند المقبرة، لعند أحد وجهاء المدينة، كما جرت العادة، في هكذا مناسبات، حيث يلتمّ النّاس، في دار صاحب الدّعوة، ليقدّم لهم الطّعام ، والشّراب، وقطع الحلوى، عن روح المرحوم، الذي تمّ دفنه قبل قليل.
توجّه (الأغا)، ولأول مرّة في عمره، و فور نزوله من الجبل، بعد دفن شقيقه، إلى خمّارة البلد، التي كان أخوه، يتردّد عليها، ليعربد ويسكر، ويلهو فيها، مع شلّته، رفاق السّوء، الذين لم يكونوا يفارقونه أبداً.
وكم كانت الصّدمة كبيرة، وقاسية، ومؤلمة، وصعبة، وفظيعة، على أهل (الأغا)، وأقرباءه، ورفاقه، وأصحابه، وجميع أهل البلدة.. وكانوا يسألون، بدهشة، وغرابة، واستنكار:
- لماذا؟!.. وكيف؟!.. وماذا حلْ بعقل (الأغا)؟!.. الذي طرد أخيه، وتخلّى عنه، بل تبرأ منه، بسبب تعاطيه الخمرة؟!.
تداعت هيبة،(الأغا)، وقلّت، وضعفت
، ومن ثمّ تلاشت، وغابت.. وحلْت بدلاً عنها، السّمعة السّيئة، والغير محترمة، أو اللائقة، لرجل كان بالأمس القريب، (أغاً) وسط بلدة، تتمسّك بدينها، وبعاداتها، وتقاليدها!.
كان هو السّيد الأوَّل، في جبروته، وأملاكه، واعتزازه بنفسِهِ، وعشيرته، وبلدته.. وفجأة، ومن غير سابق إنذار، يتحوّل هذا الرّجل العظيم، إلى شبه مسخرة، لمن كانوا يعملون عنده، وينحنون ليقبّلوا يديه، طالبين رضاه، ثمّ عطاياه الكثيرة.
للأسف الشّديد، لم يكتفِ بتجرّع الخمر، بل ارتمى بأحضان بائعات الهوى، وصار ينفق عليهنّ، من أمواله الطائلة، وحاولوا معه أخوته، وبقيّة من في العائلة، من رجال كبار في السّن.. وأصدقائه الكثر، ومعارفه، وجيرانه، وكلً من يريد له الخير، ولكن عبثاً، دون فائدة.. فأخذ يفرّط بأملاكه، شيئاً فشيئاً، وينفقه على ملذْاته وصاحباته، دون حسبان.
وتزوّج.. واستبشروا من هم حوله خيراً، وقالوا :
- علّ زوجته تعيده إلى رشده.
ولكنّها.. وقبل أن تضع له، ولدها الأوَّل.. حتّى كان قد تزوّج عليها.
وقد أعجبه تعدّد الزّوجات، فكان سرعان ما يطلّق، ليعاود الزّواج مرّة أخرى.. ومن ثمً مرّة أخرى، هكذا.. ومن دون أسباب، كان يطلّق نسائه، بعد أن ينجبن له الأطفال، ذكوراً وإناثاً، فيأخذ أولاده، ويلقيهم في عهدة أخواته، والويل كلّ الويل، لمن تعترض، أو تتجرأُ وترفض، حتّى وإن كانت متزوّجة، ولديها أولاد.. إذ سرعان ما يهدّدها بطلاقها من زوجها، والإتيان بها لعنده، لتتفرّغ لتربيّة أولاده.
وكان جدّي، أحد أولاده الضّحايا، شبّ غنيّاً، ثمّ أفاق على إفلاس أبيه، الذي كان ذات يوم، (أغا) من (أغوات)، الدّولة.
وحين أخذ (الأغا)، يتناول الخمور، المغشوشة، والسّيّئة الصّنع، والرّخيصة الثّمن.. بسبب عجزه عن شراء، الخمور الجيّدة، التي كان سابقاً يعاقرها، قبل أن يصل إلى الدّرك الأسفل، من الفقر والحاجة والعوز.. فصار أيضاً يستدين من الدّكاكين والمحلّات، فيضطر أولاده، لدفع ديون أبيهم، وهم يوصوا بعدم إعطاءه أيً شيء لا يدفع ثمنه، نقداً.
أخذ يفقد وعيه عند السّكر، يمشي في حارات، وأزقة المدينة وسوقها، وهو ثمل، يتمايل ذات اليمين، وذات اليسار، يسبّ ويتحرش بالمارة، الذّين كانوا يعرفونه، إلّا الغرباء، فكانوا يضحكون، ويتأسّفون عليه، يوم كان بمرتبة(الأغا)، فيتحوّل اليوم، إلى سكير، رث الثّياب والمنظر، فاقد الوعي، تفوح منه رائحة كريهة، ويتلفّظ بألفاظ نابية، مخجلة، ووقحة، لا يحتملها إلّا من يراعي حرمة لذكرى، أو معرفة سابقة، أو كرامة لأبنائه، أو لأقربائه.
صار يبول ويتغوّط في سرواله، وتنبعث منه روائح مقزّزة، لمن يمرّ بالقرب منه، يجلس على الأرض، غير عابئ بكلِّ النّاس، وكان في بعض الأحيان، يتقيّأُ، أو يتمدّد على الأرض، الوسخة، أو قد يحلو له أن ينام.. والأولاد لا يفارقونه، يمازحونه، أو يسخرون منه، أو يسلبونه نقوده، في حال كان يحمل نقوداً معه.
وهذا ما كان يسبّب الألم، لجدّي ولإخوته، ولقد عجزوا أن يجدوا له حلّاً، تحوّل اسمهم إلى أبناء (السّكران)، بعد أن كان النّاس ينادونهم ، بأبناء (الحاج حسين أغا).
أجتمع (جدّي) بأخوته.. ناقشوا أمر والدهم، كانوا متألّمين ممّا وصل إليه حال أبيهم، الذي ورّثهم العار، والخجل، بعد أن كانوا، يتفاخرون، ويتباهون، بأبيهم، وبعائلتهم، وعشيرتهم.. وبعد نقاشات مطوّلة، وحادّة أحياناً، وصلوا إلى قرارهم، الصّعب، في تنفيذه، ولكنّه ضروري، وهام، وهو رغم قسوته، سيكون لمصلحة العائلة، والعشيرة أيضاً.
سيحلّ الأب، (الحاج حسين أغا) سابقاً، في كلَّ إسبوع، عند واحد من أولاده، ضيفاً سجيناً، لا يسمح له بالخروج، إلى شوارع البلدة، أو حاراتها، أو أسواقها، أو إلى أيّ مكان، خارج الدّار.. وذلك حفظاً على السّمعة، والمكانة، والهيبة، والقدر.. وفي حال عجزوا عن ضبط والدهم، ومنعه من تعاطي الخمر، والقعود داخل الدّار، يحقّ لهم ربط والدهم بالحبال، أو الجنازير، لتمكّنهم من حبسه، ومنعه عن ملاقاة النّاس، حتّى يأخذ الله أمانته من أبيهم.
ولمّا عجزوا عن ضبط (الأغا)،المدمن
، وصار يصرخ، ويهاجم، ويضرب، ويعتدي، ويبصق، ويسب، ويشتم، ويحاول الهرب، مهدّداً بالانتحار، أو حرق الدّار بمن فيها.. صار جدّي، وأخوته، يضربونه، ويشتمونه، بل صاروا يجلدونه بالسّياط.
مصطفى الحاج حسين
يتبع الفصل الثاني .