حنا عبود - عندما يكون النظام قوياً ينبحون معه وعليه! سارتر وكلاب الحراسة

يندر العثور في هذا العصر، على شخصية فلسفية متماسكة، مثل شخصية جان بول سارتر. ننتقل من فلسفته إلى مسرحه إلى رواياته، فلا نشعر أننا انتقلنا- فكرياً لا أسلوبياً- من ميدان إلى ميدان. إنه سارتر، هو بذاته، فلسفة وفكراً وتطلعاً وموقفاً سياسياً. في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كتب سلسلة «مواقف» وطلع بنظرية «كلاب الحراسة»، ومتى؟ في الخمسينيات، قمة سطوة الشيوعيين الفرنسيين، بعد أن حققوا نسبة كبيرة في الانتخابات البرلمانية. فصل بينهم وبين الشيوعية كنظرية يتبناها. هناك إشارات إلى ذلك منذ 1952 لكن المجابهة لم تكن مباشرة، ولا حتى في أحداث ألمانيا الشرقية. سماهم وسمى الأشياء بأسمائها بعد أحداث المجر 1956 ثم عاد وألمح إلى هذه النظرية واستخدمها في أعقاب أحداث ربيع براغ 1968.
تتلخص نظرية سارتر في أن الشيوعيين أثبتوا أنهم كلاب حراسة للأنظمة الشمولية، فلم يدعموا أي سلطة تحررية، من أيام حكومة كيرنسكي وحتى ربيع براغ، الذي أثرت أحداثه في سارتر كثيراً. وفي رأيه أن اختيار الوظيفة نوع من إعلان الذاتية، فوظيفة «كلاب الحراسة» لا يمكن أن يتهافت عليها أصحاب الأخلاق النبيلة، فلم نر مثقفاً حقيقياً يحرس نظاماً قمعياً، ويؤيد عسكريي الانقلابات ومغتصبي السلطات، وحتى المنظمات الحزبية تجدها قائمة على وظيفة الحراسة الشمولية من تربية الأطفال حتى النشاط الفكري، كالطلائع والشبيبة واتحاد الطلبة واتحاد العمال واتحاد الفلاحين والنقابات واتحاد الكتاب واتحاد الفنانين والاتحاد النسائي... فلا وجود لمنظمات مدنية على الإطلاق، وتكون الحراسة عن طريق دفن المجتمع المدني في ترتاروس، في أعمق أعماق الجحيم.
إنهم يقمعون أي ظاهرة مدنية، مهما كانت بسيطة.. ربما، من حيث الأفراد، هناك استثناءات، ولكنه لم يشر إلى شيء من هذا، ولا استثنى أفراداً منهم. ورأيه جاء بعد تجربة كبيرة من تطوّعه جندياً في الحرب العالمية الثانية، وسجنه في ألمانيا تسعة أشهر، ثم اشتراكه في المقاومة الوطنية.
في معركته مع الشيوعيين، فرّق بينهم وبين الماركسية، ونظر إليهم من موقفه الفلسفي، كما نظر إلى الماركسية والميرلوبونتية والفرويدية...الخ. ومن عرض بعض معاركه يظهر موقفه الذي لم يحد عنه.
موريس ميرلوبونتي
إنه صديق العمر، وظل صديقاً لسارتر، يعمل معه ومع سيمون دي بوفوار في «الأزمنة الحديثة» على عكس ألبير كامو الذي تركه، أو تركهم، بحركة شبه عدائية.
ومن النادر أن يختلف صديقان في الفلسفة، ويظلان يعملان معاً في مجلة مختصة بالفلسفة. والأغرب من ذلك أن الاثنين فينومينولوجيان، ونظرتهما تكاد تكون واحدة. نقطة الخلاف أن ميرلوبونتي يعتقد أن سارتر بالغ في «الموقف الإنساني» بمعنى أن الإنسان يختار موقفه، ورأى ميرلوبونتي أن الفينومينولوجيا لا تقرّ ذلك، فالظواهر دليل تحقق، بينما الإرادة دليل رغبة تغيير، والإنسان الفرد أعجز أمام الظروف من المجموعة أو الفئات المخططة، ولذلك الفينومينولوجيا تفرض نفسها على إرادة الفرد وليس العكس.
أما فيما عدا هذا، فإن الرجلين يتفقان في المجالات الفينومينولوجية. وكان رد سارتر بسيطاً، وهو أن الانقياد للظواهر له معناه، وهو أن الوعي الوجودي ضعيف أو ناقص، أو أن تربية المرء لنفسه انتهازية، أي يميل المرء إلى الجانب المادي، بدلاً من الموقف الذي يغني الوجود...الخ.
الفرويدية
كان سارتر على الطرف النقيض من الفرويدية، فيرى أنها تخالف الفينومينولوجيا، فهي تعتمد على المخفي والغامض والمفترض افتراضاً ولا يظهر إلا بما يستنتجه عالم النفس «عنه» وليس «منه».
وسارتر يؤمن أن العلم لا يكون إلا في الظاهر، فالباطن، كالعقل الباطن وإيروس وهيبنوس وثاناتوس... عبارة عن لغة باطنية، والباطن عنده باطل والغيب عيب، فهما مجال للتأويل بحيث يلعب في هذا الميدان فأر الدجل والانتهازية بملء حريته، وهذا ما استخدمه القادة لتكوين كلاب الحراسة، فدائماً هناك موعود لا يتحقق، وعندما يتحقق تفترس الكلاب أصحابها، وتخرج بالحصة الكبرى. ورأى أن الفرويدية تدرس حيوانية الإنسان وليس جوهره، فكأنها تضع أمامها كتلة من الأعصاب وتنظر فيها أي عصب تحرّك؟ هذا؟... إذن المرض هو ذاك... وهكذا. بينما ترى الوجودية أن إرادة الإنسان هي التي لها الدور الأول، أما إذا كان بلا إرادة، فالسؤال ينقلب ويصبح: هل يبقى الإنسان إنساناً إذا فقد اختياره؟ وهذه النقطة استفاد منها سارتر في نظريته عن كلاب الحراسة.
البنيوية
كانت المشادة حامية جداً بين كلود ليفي شتراوس وميشيل فوكو والبنيويين من جهة وسارتر والفينومينولوجيين من جهة أخرى.
وكانت محاورات شديدة اللهجة، لم يستفد منها أحد، لأن كل طرف ثبت على ما كان عليه، فشتراوس عنيد في أن البنية منظومة لا يمكن التأثير فيها، وسارتر يهزأ في أن الإنسان يغير الكثير بإرادته الحرة، وقد غيّر وجه الطبيعة، وهي الآن تئن من وطأة تدخله، فأين البنية التي تحافظ على الأوضاع؟ وأين بنية مجتمع آكلي لحوم البشر في هذه الأيام، ولماذا لم تبق البنية التي عليها تأسس ذاك المجتمع؟ والعنصرية؟ أين العنصرية اليوم؟ هل زالت بسبب دراسات الأنثروبولوجيا البنيوية، أم بسبب إرادة البشر حيث هبّ الأدباء والمفكرون في كل أنحاء العالم ضد التمييز العنصري؟... من هنا رأى أن البنيوية مذهب غير إنساني، ولا يمكنه أن يكون إنسانياً، ما دام يحذف الحرية، التي يقول عنها سارتر، إنها قضاء الإنسان وقدره...الخ.
ألبير كامو
كانا صديقين في المقاومة، لكنهما اختلفا فكرياً، ومأخذ سارتر على كامو أنه انغمس في فلسفة العبث، التي جرّت التهمة على الفلسفة الوجودية، وجعلتها فلسفة عابثة بدلاً من أن تجعلها فلسفة الحرية والمسؤولية، وصاروا يطلقون على النوادي المتراخية اسم النوادي الوجودية. إن العبث ليس أصل الوجود الإنساني، فليس الإنسان ملك المصادفة التي يفرضها كامو في أدبه فرضاً، فالمصادفة لا تتعارض مع الإرادة البشرية، وبطل قصة «الجدار» لسارتر سيعتقل، سواء دلّ صديقُه المخبرين على منزل كان يظن أن من المستحيل أو يوجد فيه، أم لم يدلهم، فهو ليس ابن المصادفة كبطل رواية «الغريب» الذي يقتل بسبب حرارة الشمس. فالعدم الذي يقدمه كامو ليس العدم الذي يقدمه سارتر الذي يقصد به «المعدوم من الخيارات» فإذا ذهبت لشراء غليون - وتدخين الغليون عادة سارترية - وشاهدت عدة ألوان، من بني وأصفر وأسود ودخاني... فاخترت البني، تكون بهذا الاختيار ألقيت البقية في العدم، الذي هو وجود كامل، ولكنه بالنسبة إليك يكون عدماً، فأنت الذي أوقعت الموجود في العدم، وليس العدم هو ذلك المجهول الغائب البعيد عن المرئي الذي لا تتعامل معه الفينومينولوجيا..،. فذاك العدم يجب أن يسمى «الغيب» وليس «العدم».
الماركسية
تبنى سارتر الماركسية، وصرح أنه لا يمكن تجاوز هذه النظرية، ولكنه لم يسلم لها بكل مقولاتها، فهو لا يرى «ديالكتيك الطبيعة» كما يراه إنجلز، بل ينتقده بشدة، ولكن هذه أول مرة نجد مفكراً يطرح مشكلة النظرية والأتباع، على عكس باكونين وبقية الفوضويين، فهؤلاء يرون أن «كلاب الحراسة» من تربية الماركسية، فما دامت تبقي على الدولة، تحت اسم «دكتاتورية البروليتاريا» فإن مثل هذه التصرف يجرّ إلى التعهد بتربية كلاب الحراسة، فلا يمكن الفصل بين النظام وكلاب الحراسة، فالنظام الدكتاتوري يستدعي بالضرورة كلاب حراسة، وكلما ابتعد هذا النظام عن حقوق الإنسان ازداد كلاب الحراسة عدداً وعدة وابتكروا، أو ابتكرت لهم السلطة، أساليب جديدة للقمع. وأي نظرية تعترف بكيان الدولة مضطرة أن تربي كلاب حراسة.
النظرية والسلوك
يرى سارتر ألا علاقة للنظرية الماركسية بتصرفات الشيوعيين. عرفهم عن كثب في المقاومة، وبعد انتهاء الحرب، دارت المعارك الثقافية بينه وبينهم، إلى أن صرّح في جريدة الأوبسرفر في 25 آذار 1956 أنه يحب الشيوعية ولكن الشيوعيين متوحّشون. ويرى في أحداث المجر ما يؤكد نظرته في الشيوعيين، فقد قمعوا الانتفاضة وأخرجوا سجيناً متهماً بالخيانة هو جانوس كادار، وسلموه مقاليد الحكم المطلق، فبدأت مأساة حكومة إيمري ناجي، ومعه وزيره جورج لوكاش...الخ وقد جعلوا روسيا وأوروبا الشرقية تتخلفان عن التطور الطبيعي سبعين عاماً. وكان عانى من هجوم بعض المفكرين الشيوعيين، أمثال جان كانابا، الذي رد مباشرة على كراسه بكراس عنوانه «الوجودية فلسفة غير إنسانية». وعلاقتهم بالماركسية أنهم يستخدمونها لخدمة الأنظمة القمعية.
لم يغيّر موقفه منذ ذلك التاريخ لا من الماركسية ولا من الشيوعيين. وهو يهتم بالموقف لا بالأشخاص، فقد تبنى الماركسية، ولكنه لم يتبن موقف الشيوعيين في كثير من الأشياء، ليس لأنهم شيوعيون بل لأن موقفهم خاطئ، وإلا كيف نفسر نزوله إلى الشارع والانخراط في المظاهرات التي قام بها الماويون في ستينات القرن الماضي، وتأييده مطالبهم؟ أما الشيوعيون الموالون للسوفييت فقد أطلق عليهم، بعد أحداث المجر، وبعد ربيع براغ، لقب «كلاب الحراسة»، ويبدو أن هذه الوظيفة في رأيه تقليد أو فرض من موسكو بالذات، فالحكم ينتقل من مالنكوف إلى خروشوف، الذي أكرهه على الاستقالة من دون رجوع إلى أي هيئة دستورية، فلم يعترض صوت واحد من الشيوعيين على خروشوف، وانتقلت المباخر للسيد الجديد، (كما في السماء كذلك على الأرض، فكما في موسكو كذلك في بودابست وبراغ...) ولما سقط خروشوف رسمياً، باتهامات خطيرة جداً، لم يعل صوت واحد، وإنما جرى نقل المدائح لبريجينيف العجوز... والشيء نفسه مع غورباتشيف، وكذلك يلتسين... وهكذا نجد أن الخبرة التاريخية ساعدت سارتر في تشخيص كلاب الحراسة، فهم دائماً مع النظام مهما كان مستبداً، ما دامت مصالحهم مؤمنة.
لو تأخر الظعن
سلسلة «مواقف» خاصة بالفكر الأوروبي وبالمواقف الأوروبية، ولم يتطرق سارتر إلى الشرق إلا قليلاً. ولو تأخر ظعنه عقدين فقط من القرن الماضي، لاضطر أن يعلن رأيه ليس فقط في انهيار المنظومة الشيوعية في أوروبا- كما تنبأ هو نفسه بعد أحداث براغ- بل أيضاً في موقف الشيوعيين من الأنظمة الشمولية في الشرق، التي أخذت بالظهور منذ الانقلابات العسكرية والحزبية في منتصف القرن العشرين، واستمرت حتى ما بعد سقوط المنظومة السوفييتية، والآن تحل محلها الثورات الدينية. إن سارتر يقدم رأياً، لكن كرين برنتون يقدم توصيفات عملية جادة.
في الزمن الذي كتب فيه سلسلة «مواقف» كان برنتون يعدل كتابه «تشريح الثورة» فلما قامت الثورة الإيرانية العام 1975 واحتل السوفييت أفغانستان ونصبوا باباك كارمال، خشيت أميركا من «مصدق» جديد في إيران. وجد المستشار القومي بريجنسكي في كتاب برنتون وليس في كتب سارتر، كيف يقطع الطريق بإقامة حكومة مندفعين دينيين. قدم الكتاب إلى جيمي كارتر، فأمر على الفور بنقل الملالي من باريس إلى طهران...
بعد اختطاف الثورة الإيرانية وجعلها في قبضة النظام الثيوقراطي، ما كان سارتر ليغيّر موقفه، فبعد كل القمع الذي لحق بالشيوعيين وبالحركة اليسارية، عادوا إلى تأييد الحكم الثيوقراطي، مع أنه لا يوجد خيط واحد يربط بين النظرتين الثيولوجية والشيوعية، سوى اعتماد العنف.
إن أبطال القمع في القرن العشرين كانوا من الشيوعيين، لذلك لم يناقش سارتر مسألة «كلاب الحراسة» مناقشة فلسفية موسعة بل حصرها بالشيوعيين، وإلا فيمكن أن نسأل: هل هي طبيعة خاصة بالشيوعيين؟ أليس الذين اقتبسوا أساليبهم أشد خطراً منهم؟ أم أن النظام الشمولي مجبر أصلاً على تربية كلاب الحراسة على القمع، وليس تربية المواطن على الدستور؟
سلاحهم النباح
1- عندما يكون النظام قوياً ينبحون معه وعليه، معه لإقناعه بولائهم، وعليه لأنهم يريدون لأنفسهم حصة أكبر بسبب حراستهم.
2- عندما يضعف النظام- وهو باب رزقهم الوحيد، فسارتر يراهم عديمي المواهب- ينبحون على معارضيه بشدة ويخشون سقوطه.
3- إذا سقط النظام وقام نظام غيره، من جنسه أو من نقيضه انضموا إليه وعاد النباح على معارضيه، لا عليه، حتى لو اضطهد بعضهم.
4- سلاحهم النباح، أي الدعاية، ومن ينبح يجب أن يربح، فتكون الماركسية في واد وهم في واد آخر... قد ينقسمون على أنفسهم... ولكنهم دائماً في خدمة النظام الشمولي.
قيل إن سارتر استخلص صفات الشيوعيين من معاهد تربية كلاب الحراسة الألمانية الشهيرة التي اهتمّ بها الغستابو اهتماماً كبيراً.
أعلى