مقتطف مصطفى الحاج حسين - مذكرات ما قبل الولادة... الجزء الثاني من رواية

عندما مات (الأغا)، وجد جدّي (سامي) نفسه، فقيراً وبلا صنعة تستره، وتمكّنه من العيش، فصار دائم الحزن، وعابس الوجه، لا يقدر أن يشكو أمره لأحد.

لم يكن (جدّي) متزوّجاً بعد، ولا دار ملك عنده، وليس بيده صنعة، وأخوته الكثر، عندهم ما يشغلهم عنه، ومنهم من كان متزوّجاً، ومنهم من كان مثله عاذباً، يبحث عن عمل يناسبه، ويستره.
الظّروف الصّعبة، وفقر الحال، أجبر (جدّي) على الذّهاب إلى قرية، قريبة، تابعة لمدينته، ليعمل في حصاد القمح، وهو الشّاب النّاعم والرّقيق، صاحب الأيدي النّاعمة، التي لم تّتعب يوماً، من أجل لقمة العيش.
كانت الشّمس حامية لحدٍ لا يطاق، وسنابلُ القمح خشنة، وقاسية، وصعب جمعها وحصادها، وكان العرق يتصبّب من وجه (جدّي) بغزارة، وجسمه النّحيل يسبح في عرقه، ووجهه الأشقر شديد الاحمرار، وعينيه تكادان لا تنفتحان، بسبب توهّج ضوء الشّمس القويِّ واللاهب، أنفاسه متقطّعة، جسده منهك، ساقاه تكادان ألّا تحملانه، ظهره يؤلمه بضراوةٍ، شفتيه يابستان من شدة العطش، شعره تحت (جمدانته)، ملتهب ومغسول بالعرق، ورأسه يوشك على الانفجار.
كان يعمل وذهنه يفكر بترك الشغل، والهروب من هذا الجحيم، والعمل المضني، سيترك أجرة عمله، وينجو بنفسه.
لكنّه مقطوع من النّقود، وهو بحاجة ماسة إليها.
كان يهمس،في طيّات أعماقه المقهورة:
- عليّ أن أصبر، وأن أتحمّل حتى أعتاد
وفجأة.. تقترب منه صبيّة، فارعة الطّول، متخمرةَ الوجه، فاتنة العينين، بيضاء البشرة، واضح هذا، من ما يظهر من أطراف خديها، المخبّئين تحت خمارها الأسود، هو لأوّل مرّة يراها، وتعجّب من أين ظهرت له.. هل كانت بين عمال الحصاد، ولم ينتبه إليها؟!.. فهناك بين العمال بعض النّسوةُ والفتيات.. لكنّه لم يكن مهتماً بهنّ، فقد كان ألم أصابعه وأكفه، يشغلانه عن كل نساء العالم.. وبجرأة سألته:
- هل أنت تعمل في الحصاد، لأول مرّة ؟!.
ردّ.. وصوته كلّه اضطراب، وحياء:
- أيّ والله.. لم يسبق لي أن عملت في حصاد الحنطة، ولكن لم تسألين؟!.
أجابته مبتسمة، من تحت خمارها الأسود، والذي يشفّ عن شفتين ساحرتين، بصوتها الأنثويّ، والنّاعم والرّقيق.. وكان قد تأكّد من أن محدّثته، على قدر كبير من الحسن والجمال:
- لأنّني لمحتك.. وأنت تقبض، على المنجل بطريقة خاطئة، وهذا يجعل يدك تدمى، ويجعلك تتعب أكثر، ويكون إنتاجك أقل وأضعف.. وهذا ما سيجعل من مراقب العمل أن يرفضك ويعطيك، أجرة أقلّ من أجرة الآخرين.
قال جدي، الذي كان منهك من التّعب، وحرارة الشّمس، التي لا تطاق:
- على كلّ حال، أنا من سيترك العمل هنا، هذه الشّغلة، ليست شغلتي، لكنّي أحاول أن أكمل نهاري.
قالت الصّبيّة، التي ظهرت، كنسمة ندى، في هذا القيظِ الشّديد:
- تعال.. وانضم إلى مجموعتنا.. وأنا أساعدك وأعلّمك طريقة الحصاد.
أعجب جدي بكلامها، كما كان قد أعجب بجمالها، وقوامها الفارع، فسألها وكانت الفرحة قد بانت على وجهه، الذي كان متعرق ومتعب:
- ولكن هل يقبلوني بينهم؟!.
أجابت باسمة:
- أنت تعال.. ولا عليك منهم.
تعلّم (جدّي)، كيفيّة العمل في الحصاد، بفضل الفتاة الفاتنة، التي كان اسمها (صبريّة)، التي أشفقت عليه، بعد أن أعجبت به، وبجمال شكله، وأناقته.. راقبته وهو يبذل جهوده في الحصاد، فأدركت أن هذا الشّاب الوسيم، لا بدَّ أن يكون ابن أسرة عزيزة، لها قيمتها ومكانتها، فهو ابن حسب ونسب.. وهذا ما جعلها تتعاطف معه، وتنهض من استراحتها، وتتقدَّم منه، لتحدّثه، وتشرح له الطّريقة الصّحيحة، للقبض على المنجل، ليتمكّن من الحصاد، دون أن يجرح يديّه، وتتورّمان، وينزف الدّم من أصابعهما.. وكان إقدامها على هذا الفعل، يعتبر قمة الجرأة، في ذاك الزّمن، من امرأة، وسط هذا الجمع من النّاس، في هذا الرّيف المحافظ، والمتشدّد في عاداته وتقاليده.
وهذا ما دفع (بجدّي)، للاستمرار بالعمل في الحصاد، طوال فترة موسمه.. ولولا وقوعه في حبٍّ تلك الفتاة الجميلة، التي تعاطفت معه، ومن ثمّ تعلّقت به، وبادلته الحبّ، والنّظرات والابتسامات الخاطفة، التي تنمّ عن الإعجاب، والمحبّة، والعشق الملتهب، مثل هذا الصّيف الملتهب.
واستطاع (جدّي)، خلال فترة العمل هذه، وعلى دفعات متقطّعة، وبعيداً عن أعين وآذان الآخرين، أن يعرف كلّ شيء، عن (محبوبته)، وكذلك حدّثها هو أيضاً، عن نفسه وحياته.. وما كان عليه سابقاً، وما فعلت به، ظروف الحياة، وتقلّباتها.
كانت (صبريّة)، تبلغ من العمر، اثنان
وعشرين سنة، تصغره بثلاث سنوات، يعود أصلها إلى مدينة (حماة)، متزوجة ومطلّقة، لها ولدان، صبيّ، وبنت، ماتت البنت، وبقيّ الصّبي، عمره سنتان ونصف، تركه أبوه يعيش عندها، وهي تقيم مع والدتها، لها أخوين متزوجين.
طلبت الطّلاق من زوجها الثّري، وهو قريب لها، ابن عمّتها.. بعد أن تزوّج عليها، من امرأة أخرى، لأن كرامتها غاليّة عليها، فهي لا يمكن أن تقبل العيش مع ضرّة، مهما كلّفها من الأمر.. ونالت حرّيّتها بعد جهد جهيد.
حاولت أمّها أن تثنيها عن الطّلاق، من أجل طفليها، حتّى أن أخويها، كانا قد عارضا فكرة طلاقها.. ولكنّها أصرت، وتحدّت، وحاربت، وثبتت، حتى تحقّق لها ما تريد.
قال لها (جدّي)، بعد أن حدثته بقصّتها:
- حمار من يفرّط بك يا (صبريْة).. كم كان زوجك غَبيّاً، يوم تزوّج عليك.. وخسرك، أنت وأولاده؟!.. ثمّ تابع كلامه:
- ربّما كان هذا من حسن حظي.. فأنا أتزوّجك، إن كنت تقبلين بي؟.
وهكذا قدّر لهذه الفاتنة، أن تكون
(جدّتي).
وبعد زواج (جدّي)، من (جدّتي صبرية).. تحوّل (جدّي)، إلى مزارع.. بمساعدة (جدّتي)، التي أخذت تعمل معه، فصار (مرابعاً)، يعمل عند أحد (الإقطاع)، يزرع له الأرض، ويتقاضى ربع ما تجود به الأرض، من القطن، في أخر الموسم.
رزق جدي بعمي (حسين)، لكنه سرعان ما مات، وتبعته عمّتي (صبحيّة)، ثم بعمّتي (فطمو)، وتلاهنّ أبي (محمد)، تبعته عمّتي الثّالثة (حميدة).. وبعد انقطاع عشر سنوات، كان مجيء عمّي (عمر).
(جدّي) كان يحبّ (جدّتي)، لكنّه لم يستطع، أن يطيق تربية ابنها، عمّي (سعيد)، رغم أنّه، لم يكن يبخل عليه بشيء، إلّا بعواطفه.. وعرفت (جدّتي) هذا، بل أحسّت به جيداً، فعهدت لأخيها الحاج (أحمد)، أن يتركه عنده، ويقوم بتربيته ورعايته.. وصار عمّي (سعيد)، يزور أمّه في كلّ أسبوع يوم كامل، وكانت (جدْتي) مرغمة على الصّبر، حتّى لا تتشاجر مع (جدّي)، إلى أن اعتادت، واعتاد عمّي هذا الأمر.
بعد بضع سنوات، من عمل (جدّي)، و(جدّتي) في زراعة القطن، استطاع (جدّي)، أن يجمع بعض النّقود.. فترك (الأرض)، وعاد إلى مدينته، استأجر داراً، في الحارة القبليّة، وتحوّل إلى تاجر صغير، في الأرياف، يبيع على ظهر حماره، الأقمشة، وادوات الزّينة، والعطورات الرّخيصة، والحلوى، وأشياء كثيرة، هامة وناعمة، يحتاجها أهل القرى، النّائية عن المدن، في الرّيف الشّرقي.
وكان يطيل السّفر، لمدّة شهرين أو أكثر، وكانت (جدّتي) تغتنم هذه
الفرصة، لتحضر لعندها ابنها، عمّي (سعيد)، الذي كان يمكث عندها، في دارها، إلى أن يعود، (جدّي) من سفرته، وكان (جدّي) لا يتضايق من مجيء عمّي، عند أمّه في غيابه، والعيش مع أخوته.
كافح (جدّي) كثيراً، متنقّلاً في الأرياف، ينام عند زبائنه، ويأكل ممّا يقدّمونه له.. حتّى فاجأ (جدّتي) بشراء أرض، قريبة من سكنتهم، في الحارة (القبليّة)، وفرحت (جدّتي)، وباعت مصاغها الذّهبي، الذي ورثته بعد موت أمها.
وتمّت المباشرة ببناء هذه الدار، الذي نسكنها الآن، وكبر (أبي)، وصار يافعاً، ولم يفلح في المدرسة، بسبب كسله، فلا أحد في المنزل، يعرف القراءة والكتابة ليهتم به، ويتابع حلّ وظائفه، وتحفيظه دروسه، لذلك قرّر (جدّي) إخراج (أبي) من المدرسة، وكان في الصّف الثّالث الابتدائي.. وأرسله ليعمل في مهنة العمارة، مع أبناء أخيه الحاج (حسن).
وكان الحاج (حسن)، الابن الأكبر، (للأغا الحاج حسين)، قد سكن دار أبيه، بعد أن توزّعت ورثتهم القليلة عليه، وعلى باقي أخوته، كان يطمح أن يعيد أمجاد أبيه، وكان جميع النّاس، يحترمونه، ويهابونه، ويعتبرونه، بمنزلة (الأغا)، والده، خاصّة وعنده أربعة شباب، يعملون في العمارة، بصفة
معلمين.. ويعمل تحت أيديهم، العديد من العمال النّحاتون والطّيّانون.
وطلب (جدّي) من أبناء أخيه أن يعمل والدي معهم، وأن يتكفّلوا بأمره، ويعلّمونه صنعة البناء على أصولها.. وكان مسموح لهم، أن يعاقبوه، ويضربوه بلا شفقة، أو رحمة، في حال تقاعس، أو ارتكب ذنباً، فهما معلّماه، وأبناء عمّه، وزوجا أختيه مستقبلاً.
لم يكن (أبي) ، يحمل ذات الصّفة الجسديّة، مثل أبناء عمّه، فهم ضخام الجثث، أقوياء الأبدان، و (أبي) على العكس منهم، فهو صاحب جسم هزيل وضعيف، إلى جانب قامته القصيرة.. وكلّ هذه الصّفات الجسديّة، لا تتناسب مع صنعة البناء.. فهي صعبة، وقاسية، وشاقة، ومتعبة، تحتاج إلى أصحاب أجساد عملاقة، ذوات جلود سميكة، وملبّدة، ولهم عضلات بارزة، وأياد شديدة وخشنة، وأكتاف عريضة متصلّبة، وظهور متينة، وأفخاذ مشدودة، وسيقان صلبة، وأقدام كبيرة راسخة، وأصابع غليظة وحادّة، ووجوه (مكشّرة) وقاسية، وعيون وقحة تتحدّى وطيس الشّمس، والعرق (المتصبّب) منهم، والغبار الهائج، وزعيق المعلّمين، و(سبابهم)، وشتائمهم، وأحياناً ضربهم، وإهانتهم، وشدّ آذانهم، وقرص خدودهم، أو صفعها، وركلهم على مؤخراتهم، ودفعهم، والجريان ورائهم، وملاحقتهم، ورميهم بالحجارة، أو الحصى، أو بقطع الخشب، وربّما بالقاذورات، أو الوسخ والتّراب.
وكان مطلوب من أبي، أن يتحمّل كلّ هذا، من معلّميه، أبناء عمه، أصهرته
وخاصة(سلمو)، المغرور، والمتعجرف
والذي لا يشفق، ولا يعرف قلبه الرّحمة.
كان أبي لا يقدر على (مواجهتم)، أو تحدّيهم، إذ سرعان ما يتكاثرون عليه، وينهالون عليه ضرباً مبرحاً، إلى درجة أن يسيل الدّم، من فمه أو أنفه، وقد تتورْم عينيّه، أو وجهه، أو تنكسر إحدى يديه، أو رجليّه، أو ضلع من ضلوعه، أو جرح في بطنه، أو ظهره، أو كتفه، أو عنقه، أو رأسه.. كلّ هذا ممكن، ومسموح به لهم.. وليس من حقّ أبي الاعتراض، أو ترك العمل، من عند أبناء عمّه، (أصهرة) المستقبل القريب.. وأبي لا يجد من يشكو له ظلمه، إلّا لأمّه، (جدّتي صبريّة)، يحدّثها عن كيفيّة معاملتهم له، وعن فظاعة قسوتهم، وكانت (جدّتي) تدّمع عيناها، وتحاول جاهدة، أن تخفّف عن أبي، تمسح له بباطن يدها، وجهه المحروق من لهب الشّمس، وتداعب شعره بحنان وهي تنتظر قدوم (جدّي) من سفره، أو من المقهى، إن كان متواجد هنا، ويكون على غير سفر، لتتحدّث معه، عن سوء معاملة أبناء أخيه، إلى ابنهم، وقرّة عينهم (محمد).. لكن (جدّي) كان حين يعود، يزعق بوجهها وفي وجه أبي:
- دلالك لابنك هذا، سوف يدمره،
ويقضي عليه.. ولن يجعله يتعلّم الصّنعة.. أبناء أخي مثلهم مثل أيّ معلّم ، يتعاملون مع ابنك، وبقيّة العمال، لا دلال في الشّغل، ولا كرامات.. خارج الشغل، يكون ابن عمّهم، وأثناءالشّغل، يكون مثله، مثل أيً عامل.. وأنا أطلب منكِ أن تكفّي، عن إفساد هذا الولد.
وحين تهمّ (جدّتي) بالتّحدث، يصرخ جدّي بوجه أبي، بغضب وانفعال:
- تعال.. إلى هنا.. يا أفندي.. اقترب.
وحين يقترب أبي منه، ومن (جدّتي)
، والخوف كان قد سيطر عليه. يسأله (جدّي) بحدّة وصرامة:
- قل لي، ولا تكذب.. هل أبناء عمك، يعاملونك هكذا لوحدك؟!.. دون سائر العمال؟!.. أم يعاملون كلّ العمال بهذه الطْريقة؟.
وبتلعثم، يشي عن خوف شديد، يقول أبي وهو يهمّ بالبكاء:
- إنْهم يعاملون أخيهم (ياسين)، معاملة جيّدة.. فهم لا يضربونه، ولا يصرخون بوجهه.. كما أنّهم يهتمْون به أكثر، ليتعلّم ويسبقنا، ويصبح معلّماً علينا.
وهنا يصرخ (جدّي)، موجهاً كلامه (لجدّتي)، وكأنّ الفرج قد جاءه:
- هل سمعتي؟! .. إن ابنك (الجحش)
، يغار من ابن عمّه (ياسين).. و (ياسين) أشطر منه، وأقدر منه في الشّغل.
ثمّ، يلتفت نحو أبي، ويقسم مهدّداً:
- قسماً بالله، لو عدّت وشكوت، من معاملة أولاد عمّك، لأمّك.. مرّة ثانية.. لأقصّ لسانك الطّويل هذا.. هيّا انصرف، وانقلع من أمام وجهي.
كانت دموع أبي، تحفر في عروق جسمه الضّعيف، أنفاقاً، لتصبّ في أعماقه الحزن والقهر.. لا أحد يتفهّم وضعه، أو يستمع إليه، كان محروماً من العطل، يدبّرون له، أولاد عمّه، شغلاً إضافيّاً في أيّام العطل، وأيّام (الجمعة)، حيث كلّ النّاس يعطّلون، في هذا اليّوم إلّا أبي!!.. وكذلك في أيّام الأعياد، (عيد الفطر)، و (عيد الأضحى) المبارك، وفي كثير من الأحيان، كانوا يدبّرون له الشغل، بعد انتهاء دوامه، في المساء، ويبّقى إلى وقت متأخر، من الليل.. حيث الجميع ينصرفوا، ويذهبوا إلى بيوتهم، ليأكلوا، ويشربوا، ويستحمّوا، وينعموا بالرّاحة واللهو، ثمّ يرقدون في فراشهم وينامون.. إلّا أبي، الذي كان يحسد أخاه (سعيد) ، لأنّه يحيا بدون أب، لا يحبّه، وبدون أبناء عمّ متسلّطون.
وهل كان أبي، يتقاضى أجره بيده؟.. لتدخل الفرحة إلى قلبه؟!.. بالطٍبع لا.. وهذا مستحيل.. كان (جدّي) قد أوصى أبناء أخيه، ألّا يعطونه أجره، بل أن يبقوها عندهم، وكلّما صار لأبي أجرة (مائة) يوم، يدفعونها بيدهم، إلى (جدّي).. الغير مستعجل، لأنه ليس بحاجتها، فقد صار وضعه المادي، جيّد للغاية، جرّاء تجارته في قرى الرّيف، المنتشرة بكثافة.
كان (جدّي)، قد خصّص لأبي، (خرجيّة) أسبوعيّة، يقبضها منه، يوم (الجمعة)، بعيداً عن أجرته، التي لا يراها، أو يلمسها، أو يشمّ رائحتها أبداً.
وذات يوم، من أيام الصّيف الحار، انتصف النّهار على أبي، وهو في عمله، المتعب والشّاق، وكان الفضاء قد خلا من النّسمات، ولا فيّء يظلّل أبي، وهو منهمك في (تصفيط) الحجارة، السّميكة َوالكبيرة، و (التّصفيط)، في لغة أهل الكار، عند عمال البناء، تعني، جعل الحجارة الصّلدة ، ذات سماكة توازي ال (ثمانيّة عشر سنتيمتر)، تقريباً، حتى تكون سماكتها متجانسة، أثناء بنيانها، وهكذا تتوحّد سماكة الحائط.
وكان من يقوم بهذا العمل، يعتبر في ميزان (مراتب) المهنة، قد قطع شوطاً طويلاً، من إتقانه لصنعته، و (ترفّعَ) من المرتبة الأولى (طيّان)، إلى مرتبة (المناول)، وتعني هذه الكلمة (الحجار)، وكان والدي قد وصل إلى هذه المرحلة، في صنعته، بعد أكثر من خمس سنوات في عمله، وهو في المرتبة الأولى، (طيّان)، وكان بعد ترفّعه هذا، يستحقّ أن ترتفع أجرته، فرفعها له، ابن عمّه، (أبو حسن)، إلى خمس ليرات، بعد أن كانت ثلاث ليرات، على الرغم من معارضة ابن عمّه الآخر، (سلمو)، الذي كان برأيه، أن أبي لا يستحق أن يتقاضى أجرة، أكثر من أربع ليرات.
في ذاك اليّوم الجهنّمي، ومن شدّة تعبه، راودت أبي فكرة، أن ينصرف، ولا يكمل دوامه، وأخذ يفكر بحيلة، يعتمدها، ويقدمها لأبناء عمّه، زوجا (شقيقتيه)، عسى يقنع أحد منهما، فيسمح له بالانصراف.. ولكن لن يقتنع أحد منهما، لو تظاهر بالمرض.. إنه يريد حجّة أقوى، ومنطقيّة أكثر، تدخل إلى العقل بسهولة.
وفكّر، وشغّل ذهنه، ثمّ برقت في ذهنه فكرة جهنّمية، سيقوم بتحطيم (الدّبورة)، يعني (المهدّة)، التي بين يديه، وسيلته الوحيدة، ل(تصفيط) الحجارة، وفي هذا الحال، ستكون له حجّة للانصراف، فلا أداة عمل، ليعمل بها.. وبسرعة أخذ يبطشُ (بمهدّته)، فوق الحجارة، بقوّة، وشراسة، وأن دفاع وتناثرَ العرق من صدره، ورأسه، ووجهه فوق كومة الأحجار، الكبيرة، ولم تنكسر
(مهدّته)، أو تتأثّر، رغم كلّ هذا الخبط، (والهبد)، هي تقاوم انكسارُها
، لأنه سيضطر أن يشتري غيرها، وثمنها يوازي عمل يومين، في هذا القيظِ المريع، الذي يذيب جمجمة الرّاس، ويتسبّب بالضّربة الشّمسيّة، تحطّمت قواه ولم تتحطم، هذه (المهدّة) اللعينة، إنّه (سيجن)، سيقدم على قتل نفسه، سيطر عليه (شيطانه)، وهو مصمّم وعازم على أن لا يكمل عمل اليوم.
مرّ ما يقارب السّاعة، وأبي في محاولته تلك، لم يتوقف أبداً، عن الخبط، والضّرب، و (الهبد).. إلى أن لاحت بادرة مفرحة، ستفرج، العلائم تدلّ على هذا، لقد أعطت علامة على أنها بدأت تنهار مقاومتها، وهي على وشك أن تتحطْم، وبعد دقائق عدّة، فرجت، وتمّ الأمر.. لقد تكسّرت، بحمد الله.
واندفع أبي إلى داخل العمارة، التي يتمّ إنشائها، يحمل بيده، (الدّبورة) المكسورة، ويتّجه نحو (سقالة) ابن عمّه (أبو حسن)، فهو يتحاشى أن يتكلّم، أو يواجه، أو يطلب شيئاً من ابن عمه الآخر، (سلمو)، فيبقى (أبو حسن) أبسط، وأسهل، وأكثر هدوءً، من أخيه، (سلمو)، لذلك كان أبي، ومعظم العمال، يفضّلون التّعامل مع (أبو حسن).
وتسلّقَ والدي السّلّم، صعد إلى(السِّقالة)، يخاطب ابن عمّه:
- أنظر يا (أبو حسن)، كيف انكسرت (الدّبورة)، لم أعد أستطع أن أكمل (شغلي).
مشى (أبو حسن) على (سِقالته)، تقدّم نحو السّلّمُ، المنتصب في منتصف (السِّقالة)، والواقف عليه أبي، نظر إلى (المهدّة)، وقال مستغرباً:
- كيف كسرت هذه؟!.. هل تبطش بها بطشاً، مثل أيّ (غشيم)، لا يعرف أصول مسكها، بين يديه؟!، لا حوٍل ولا قوٍة إلّا بالله.. غداً أحضر لك، صباحاً، واحدة من عندي في الدّار.. ولكن ماذا ستفعل الآن، لتكمل دوامك؟!.
وبادره أبي على الفور، والفرحة تكاد أن تنفلت من أعماقه:
- سأنصرف.. لن أكمل اليوم، أحسب لي نصف أجرة.. أنا من الأساس أشعر أني مريض، رأسي وبطني يوجعاني.
أشار (أبو حسن)، له بالانصراف.. وهذا يعني، أنه وافق على انصراف أبي، من الشّغل.
وحين هبط أبي درج السّلّم، وصار واقفاً على الأرض، والفرحة لم تكن تسعه، وإذ بابن عمّه الثّاني، (سلمو)، كان قد أتى من الطّرف الآخر ليعرف ما الأمر.. فكان عابس الوجه، وينظر إلى (المطرقة) الضّخمة، الّتي تسمّى (بالدّبورة)، وسأل:
- ما القصّة؟!.. أخبرني.
انهارت فرحت أبي، سقطت ضحكته على الأرض الوسخة، ماتت نشوة روحه ودفنت سعادته، قبل أن تلامس دمه.. لقد عرف أبي أن ابن عمه (سلمو)، سوف يمنعه من الانصراف.. ردّ بإحباط:
- لا شيء.. انكسرت (الدّبورة).
- لا عليك.. سأذهب إلى داري، لأحضر لك بدلاً عنها.. انتظرني دقائق.
قال أبي بحنق وضيق:
- ولكن (أبو حسن).. قال لي انصرف.. اليوم.. وسيحسب لي أجرة نصف يوم، وغداً سيعطيني (دبّورة) من عنده، في داره.
هتف بانزعاج، (سلمو):
- تنصرف؟!.. كيف تنصرف؟!.. ونحن ننتظرك لتنهي الحجارة من (التّصفيط)
.
وركب (سلمو) درٍاجته الهوائيّة،
وانطلق مسرعاً إلى داره.. بينما وقف أبي، بالقرب من الحائط، في الظّل، ينتظر، والألم والقهر باديان على وجهه.
شيطان التّحرر والانعتاق، كان قد سيطر على والدي، فقرّر وأقسم بأنّه لن يكمل عمل اليوم، مهما حدث وصار.
وبعد أن عاد (سلمو)، وناول أبي (الدّبورة) الجديدة، قائلاً:
- عجّل.. عليك بتعويض الوقت، الذي أهدرته.. لن تنصرف قبل أن تنهي (تصفيط) الحجارة، التي أمامك.
قرّر والدي أن يرتكب حماقة، ما بعدها حماقة.. فهو نفسه، لا يدري ما الذي حصل له، ذلك اليوم.
لم تمضي سوى دقائق معدودة، حتّى انبعث صوت أبي، صارخا بقوّة وألم شديد:
- آهِ.. آهِ.. الحقوا بي.. أرجوكم.
وتراكضَ الجميع نحوه.. التفّوا نحوه، من كلّ صوب.. يهتفون:
- يا لطيف.. يا لطيف.. لطفك يا رب.
كانت قدم أبي مهروسة، بين كومة الأحجار الهائلة، وساقه المحطّمة، يتدفّقُ منها الدّم، بغزارة.. فهرع العمال لإبعاد الحجارة عن رجليّ أبي، ثم حملوه، وابتعدوا به، عن كومة الأحجار.
وجاء ابن عمه (أبو حسن)، وحاول أن يفهم من أبي، ما الذي حدث معه؟!.. وكيف انهارت الأحجار، على قدميه؟!.
لكنّ والدي، الذي كان يتألم ويتأوه،
كان في حالة وضع، تمنعه من الكلام.
وصاح (سلمو)، أحضروا لي (البسكليت)، لنأخذه إلى المستوصف، لنعرف إن كان قد أصيب بكسر.
وقال (أبو حسن)، بتأثر كبير:
- إنْ شاء الله.. لم يصاب بكسر.
حملوا أبي إلى داره، بعد أن ضمّدوا له الجروح، التي أصابت ساقه وقدمه، في (مستوصف) البلد، وبعد أن كتب، له الطّبيب (وصفة) طبّيّة، لشرائها من (الصّيدليّة) ، فحملوه على دراجة (سلمو)، بينما توجه (أبو حسن)، لصرف الوصفة الطبّية، من الصّيدليّة المجاورة للمستوصف.
تمّ استقبال أبي في داره، بالولاويل والصّراخ والبكاء، من قبل أمّي وجدّتي وعمّتي الصّغيرة، التي هي على وشك الزواج من شخص لا تطيقه، وحاول (جدّي) أن يمنع النّسوة من الولولة، والبكاء، وهو يسأل أولاد أخيه، (وأصهرته):
- ماذا حدث؟!.. وكيف صار هذا؟!.
كان أبي رغم ألمه الشّديد، والوجع الهائل، الذي يفوق قدرته على التّحمل، سعيداً في أعماق نفسه، فقد نفّذ ما أراد، رغم فظاعة ما أقدم عليه.. كانت فكرة مجنونة، انتابته وسيطرت عليه، وضع كامل رجله اليمنى، داخل، وبين كومة الأحجار الهائلة، وأغمض عينيّه بعد أن بسمل، وهيّأ نفسه للألم الفظيع،
الذي سينتابه بعد قليل، وهكذا مدّ يده الرّاعشة، والمنقبضة، والمتردّدة،
والباكية، والأسفة، وسحبت الحجرة، لتنهار فوق ساقه اليمنى، ومن ثمّ تبعتها أحجار عديدة، تهاوتْ خلف الحجرة الأولى.. ولمعت نيران الألم، والوجع في روح أبي، فصاح، وصرخ، وبكى، وشهق، وتعالى أنينه.
وقتها ندم، ولكن بعد أن فات الأوان.. لقد طحنت ساقه وقدمه، وها هم، يحملونه إلى (المستوصف).
فهو الآن يقضي نقاهته، في بيته، إلى جانب أمّي، التي كان يحبها، ولم ينعم حتّى الآن، بالعيش معها، في دارهم، وغرفتهم، كباقي الأزواج، فهو دائماً، مشغولاً عنها في عمله، وفي الليل، سرعان ما يهجع للنوم، من شدّةِ تعبه، واستيقاظه باكراً، ليلتحق بشغله، الذي لا يخفّ، ولا يتوقّف، إلّا في فصل الشّتاء، وقت الثّلج والمطر، إن لم يكن، أمّنوا له أبناء عمّه عملاً، في مكان مغطّى، ومحميّ، من الأمطار، بشكل مقبول.
(جدّي)، اشترى لأبي (بسكليت)، أي درّاجة هوائيّة، وقال لأبي باسماً، وهي المرّة صفر، التي يبتسم فيها (جدّي) لأبي، حسب ما تقوله ذاكرة أبي:
- انهض من مرضك، واركب دراجتك، واذهب بها إلى شغلك.. ولكن حاذر، من أن تجعل، من الدّراجة لعبة.
وكم حاول أبي ركوب درّاجته، وهو لا يقدر أن يمشي على قدمه.
كان (جدّي) يحبّ أبي، ولكنّه يحبّه على طريقته الخاصة، ولا يبخل عليه،
ولكن أيضاً، وقت أن يتطلْب الأمر منه.
مرّة.. وكان يوم (جمعة)، عطلة أبي وأبناء عمه.. وتجمّع (جدّي) وأخوه (الحاج حسن)، وأبناؤهم الشّباب، في باحة الدار ، وبعد أن تناولوا الفطور، وجلسوا، ليشربوا الشّايّ.. مدّ أبي يده وأشعل الرّاديو، وكان القلة القليلة، من أهل البلد، من يملك جهاز الرّاديو، في تلك الأيام، وكانت حرب (السّويس)، في مصر حديث كلّ النّاس.. وكانت لدى أبي رغبة، في أن يستمع لنشرة الأخبار، وإذ بعمه (الحاج حسن)، يصرخ به:
- اترك الرّاديو.. لا تلمسه.. حتّى لا يتعطّل.
جمدت يد والدي، شعر بالخجل والحرج، فهذا البيت، بيت عمّه، على ما كان يظن، ويعتقد، ثمّ أنّه بيت (شقيقتيه) المتزوّجتان هنا، في هذا البيت، كما أنّه بيت معلّميه، و(أصهرته)، وأبناء عمه.. توقّف وشعر بندم شديد.. ورمقه (جدّي)، بنظرة قلقة، فيها غضب مخبأ.. وبعدها نهض (جدّي)، وتبعه أبي.. بعد وداع مقتضب.
طلب (جدّي) من أبي، أن يعود إلى الدّار، وقال:
- اذهب إلى الدّار.. وأنا لن أتأخّر.
ساعتان فقط، وعاد (جدّي)، إلى الدّار، حاملاً بيديّه صندوقاً، بحجم صدره.. وحين، وضعه على أرض الغرفة هتف أبي:
- ما هذا.. (راديو)؟!.
- نعم.. ذهبت إلى (حلب)، لأشتريه لك.


مصطفى الحاج حسين.


يتبع.. الجزء الثالث.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...