مقتطف ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(8)

ج(8)


تشكّلت برك أمام عتبات المنازل ، فقد انقشع الضباب الذي غشي صباحهم ،و أشرقت شمس شتائهم البارد المثلج ،تداعت الثلوج لحرارة الشمس فانصهرت و جرت في شكل سيول تخترق الأرض وشقوق الصخور .

صادفها "باز" ـــ سائس زريبة الغنم ـــ وقد أثارته خطواتها المتسارعة وهي تتجّه نحو ديار وافدين من بني هلال . فاستفسر قائلا :

ـــ أراك قلقة يا عنق حمام ،عسى أن تكوني بخير .

تشوّشت وتلعثمت في الكلام ، و كأنّها تخفي عنه سبب خروجها نحو ديار وافدين من بني هلال ... لقد كانت تعلم مدى الحساسية و الخلاف الشديد بين سيّدها خليفة و زعماء قبيلتها الهلالية ، وشوشت لنفسها بحيث لا يسمعها " باز" :

ـــ لقد رآني باز ، وهو لا ريب سيخبر سيّدي خليفة ، علي أن أتراجع عمّا عزمت على فعله . سيظلّ سيّدي خليفة وليّ نعمتي ، ولن أنسى أبدا أنّه هو من حرّرني من قافلة الغدر التي سبتني و كدت أن أكون خادمة عندهم .

حاول باز عبثا الاطلاع على سبب خروجها من منزلها ،لكنّه فشل في سعيه . قال يؤكّد لها استعداده لخدمتها :

ـــ أرجوك يا عنق حمام ،عودي إلى دارك ، أخشى أن يصيبك مكروه، و أكون بذلك ملاما من سيّدي خليفة ،فهو شديد الحرص على ألاّ يصيبك ما يؤذيك ،فقد أوصاني بك مرارا أن أقوم بخدمتك وتلبية كلّ احتياجاتك .

ـــ حسن يا باز ، سأعود إلى منزلي ، و أخرج غدا في طلب حاجتي .

ـــ أفضل أن تلزمي منزلك و أنا سأقوم بخدمتك واستقدام ما تحتاجينه حتى باب دارك ،أرى أنّ الثلوج ستتساقط بكثافة مجدّدا .

تململت قليلا وغمغمت قائلة :

ـــ إلى متى تبقى الغشاوة تحجب عنكم النّباهة والفطنة ياسكّان الغرب ؟

نظر نحوها يستجدي فراسته في فهم ما غمغمت به وقال :

ـــ هل قلت شيئا يا عنق حمام ؟

ـــ لا بل قلت لك أنّ شيوخ وحكماء بني هلال قالوا :" إذا ضبّت بعد ما صبّت قل صحات ..."

بقي يحدّق فيها وحاول فهم ماقالت ،حتّى تدخّلت وقالت بثقة العارف :

ـــ الضباب بعد المطر والثلج يا باز يبشّر بصحو وجوّ لطيف مشمس .

عادت عنق حمام إلى منزلها ، بعدما كانت متّجهة نحو ديار وافدين من أصول هلالية ،فالشّوق إلى قبيلتها و أهلها ألحّ عليها ، ووجدت أخيرا من ينقل إليها أخبارهم ، مكثت في بيتها بعدما حضر طعامها وشرابها و كلّ ما تحتاجه ، بأمر من سيّدها خليفة ، وكان قد أرسل في طلبها مساء كعادته ، فلبّت مسرعة... دخلت عليه وبشائر الأمل الوسيم على محيّاها ترتسم ،حيّته باسمة،فسرّ قلبه وهو يراها تقابله فقال يسارر نفسه ويقنعها بإلحاح:

ـــ حقًّا … إن الدّنيا على رحابتها قد تختزلها امرأة ، فهل يَستطيع أن يتصوَّر لدنياه القادمة وجودا من دون وجودها؟ فقد غدا إشراق وجهها بالبِشر الصادق حين رؤيتها، سعادة لا تُدانيها سعادة... التقت عيناه الحالمتان بعينيها السّاحرتين ، فهام بها إعجابا وتعلّقا وربّما امتنانا وقال :

ـــ وهل سيستسلم " الأدهم " لغير سيّده أحمد ؟

جلست مقابلة له كما يطيب له أن يراها ... وقالت :



... سرج شاهين الفرستين وحمل الأغراض ،وسار متسلّلا فجر اليوم الموالي يمتطي جواد سيّده أحمد " الأدهم" ، أي جواد أصيل ذاك ؟! بدا يحمل همّ سيّده الذي مات دونه ، وهاهو يطاوع شاهين السائس في امتطاء ظهره ،لكأنّه يمدّ له يد العون كي يعثر على أبناء سيّده... كان يتقدّم المسير وتلحقانه زينب وابنتها قمرة على فرستيهما ... كانوا يطوون المسافات ويدركون قرى ويجوبون أخرى ،يسألون القاصي والدّاني عن الإخوة العشرة من قرية الزوايد. لكنّهم رغم ذلك لم يعثروا على ضالتهم ،ولو خيط رفيع يوصلهم إلى الأبناء العشرة . أصابهم تعب شديد و رأوا أن يستريحوا في باحة سوق من أسواق قرية لا يعرفون أهلها ،كانت الباحة المغمورة بالعشب وروث المواشي ، توحي أنّ السوق مخصّصة للمواشي والخيل .

أنزل شاهين الحمولة من على ظهور الجياد ،و نصب خيمتين في الباحة

أشعل نارا أعدّت عليها زينب طعاما ، اقتاتوا عليه وناموا تلك اللّيلة ....

....يتبع

بقلم ليلى تبّاني - قسنطينة - الجزائر .




1726843564371.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى