مقتطف مصطفى الحاج حسين - مذكرات ما قبل الولادة... الجزء الخامس من رواية

عاد أبي مع جدّي إلى الدّار، التي كان قد طرد منها.. وكان قد اشتاق لها ولأشجارها، ووردها جداً، ففرحت جدّتي بعودته، حضنته وقبّلته،ولكنّها بكت لمّا عرفت، ماذا دار في الجلسة، وماذا كان طلب جدّي (عبيد)، لكنّها علّقت، قائلة:

- في النّهايةِ، ستعود إلينا زوجتك، مهانة وذليلة، ومكسورة الخاطر.. ولكن نكاية بوالدها، ذي الرأس اليابس، أنا مستعدّة أن أطلب لك يد (فاطمة) حفيدة أختي (فطيم)، وتكون خادمة عندك، هنا في دارنا، خلال أيّام فقط.
وانتفض أبي، ولأوّل مرّة يرتفع صوته، أمام جدّي، بهذا الشّكل، قال:
- يا أمّي.. يا أمّي.. أرجوك لا تقولي مثل هذا الكلام.. أنا لا يمكن أن أتزوّج على امرأتي، مهما كان.. هي أمّ ولدي (سامي) حبيب قلبي.. ثمّ ما ذنبها ؟!.. إن كان والدها عنيداً.. ألا يكفي أنها خرجت من هذه الدّار مظلومة؟!.
هزّ جدّي برأسه، وكاد (عقاله) أن يسقط من فوق منديله الأبيض، وقال مستغرباً، وكأنّه تفاجأ بكلام أبي:
- وكأنّك تحبّها، ومتعلّق بها؟!.. انتبه لنفسك، وحاذر أن تكون ضعيفاً، أمام قلبك.. نحن يجب أن نكسّر رأس أبيها، هي لا ذنب لها، أعرف هذا.. أنا من ظلمتها.. ولكن الآن أصبح والدها، هو الظّالم.. الوغد لم أكن أتوقّع منه، أن يكون (تيساً)، وكنت أحسبه صديقي، أو مثل أخي!!.. قلنا له ساعة شيطان، ولكنّه ركب رأسه.. وصار يتحدّاني، وأنا الآن قبلت منه التّحدي. ذهبت إلى داره، واصطحبت أخوتي وأولادهم الشّباب.. ولم يقدّر.. أو يخجل، أو ينحرج!!.. لذلك عليك أن تطاوعنا، أنا وأمّك، وتقبل بالزّواج من حفيدة خالتك (فطيم).. وأنت لن تخسر شيئاً، أنا سأدفع لك، كلّ تكاليف الزّواج.
صبّت عمّتي (حميدة)، الشّاي الذي أحضرته.. وناولت جدّي قدحه، ثم أعطت جدّتي، وبعدها لأبي..وحاولت أن تجلس معهم.. لكن جدّي أشار لها، بيده أن تخرج، فنهضت في ضيق.. وهنا، قال أبي بحدّة، وكان وجهه وعيناه، يطفحان بالدّمعِ والاختناق:
- ولكن زوجتي (زينب).. وابني (سامي)!!.. الرّحمة أرجوكما.. غداً يعيدها إليّ، عمّي (الحاج حسن)، لا تنسيا أنّه جدّها، وهو سيقنع والدها عن العدول عن رأيه.. ثمّ أمّها، ابنة أخيك، مؤكد لن ترضى، وستسعى لتهدئة الأمر.. وإقناع عمي (عبيد) ليتراجع.. انتظروا أرجوكما، ولا تتعجّلا بدمارنا، أنا وزوجتي وابني.
لكنّ جدّتي (صبريّة)، أكملت ما يدور
من هذا الحوار، المؤلم بالنّسبة لأبي.. قالت موّجهة كلامها لأبي، وقلبها ينفطر على أبي، ابنها الذي تحبّه، أكثر مّما تحبُّ نفسها:
- يا ابني.. زوجتك ستعود إليك، في النّهايةِ.. وولدك سيعود إلينا أيضاً.. ولكن بعد أن نعطيهم درساً، لن ينسوه، وإن طلبوا الطّلاق، فنحن لن نطلّق.. سنترك ابنتهم معلّقة.. وهم بعد أن يصحوا على أمرهم، سيفضّلون أن تعود إليك، بدلاً من قعدتها عندهم بلا زوج، وبلا بيت أو مستقبل.
ودقّ باب الدّار.. وأسرع عمّي (عمر)
ليفتح.. فوجد عمّاه أمامه الحاج (حسن) و الحاج (صالح).. فرحّب بهما.. ودخل ليخبر عن قدومهما.. ثمّ عاد، بعجلة ليقول:
- أهلاً وسهلاً.. تفضّلا.
كانت جدّتي (صبريّة) قد نهضت، ووضعت المنديل الكحليّ، على رأسها، لتغطّي شعرها.. وكان والدي هرع لإستقبالهما، وانتصب جدّي واقفاً، في الغرفة، ليستقبل أخويّه.
دخلا، وكان (الحاج حسن)، يخاطب أبي، مبتسما:
- لا تهتم.. لكلّ عقدة لها حلّ، بإذن الله.
وبعد الإستقبال والتّرحيب، خلع الحاج (حسن) (طربوشه)، حيث ظهرت صلعته الكبيرة، أيضاً نزع الحاج (صالح)، عن رأسه، عقاله، و(جمدانته) و أخذوا جميعهم مطارحهم، على الأرض، المفروشة يالسّجاد، والطّرائح والتّكايا.. قال جدّي (سامي)، وهو يناول أخاه (الحاج حسن)، علبة تبغه، ضيافة، كما جرت العادة، ليدرج الآخر، سيجارة:
- هات وأخبرني ما هي، الأخبار عندك؟.
حكّ (الحاج حسن) صلعته بيده، وابتسم الحاج (صالح)، الذي يكبر جدّي بسنتين، وكان أبي يراقب، وينتظر أن يسمع الكلام بشغف.. وكان عمّي (عمر)، قد وزّع منافض التّدخين، وجدّتي أخذت مكانها قرب الباب، لتشاركهم قعدتهم:
- كنّا أنا (وصالح) عنده، تحدّثنا كثيراً، وتجادلنا، وضغطنا عليه، وهدّدناه بالزّعل منه، ومقاطعته، وبعدم رمي السّلام عليه، إن صادفناه، في السّوق، أو أزقة البلد.. ومع كلّ هذا، بقيّ معنّداً، ومتمسّكاً عند شروطه.. رغم بكاء (عيوش) المريضة.. والتي كان لا يرفض لها طلباً.. وأنا لا أدري لماذا كلّ هذا الزّعل والعناد؟!.. تحوّل إلى (جحش)
، حرون.
ثمّ ارتفعت حدّة صوت (الحاج حسن)، وبدا عليه الإنفعال والغضب، وراح يقسم:
- والله.. لو لا أنّه صهري، وزوج ابنتي، لكنت صفعته على وجهه الأسود، وتركت أولادي ينتفون له (شواربه)، التي تشبه شوارب (هتلر).
وانبعثَ صوت الحاج (صالح)، بانفعال أيضاً:
- والله.. صبرت عليه، لأنّه زوج ابنتك (عيوش) الغالية.. وكرامة لك يا أخي (أبو حسين)، فأنت تاج رؤوسنا..لكنّه عديم الفهم والذّوق.
سحق جدّي (سامي) سيجارته، في المنفضة، بعصبيّة واضحة.. وهزّ رأسه بعد أن عدّل عقاله، وقال:
- أتركاه.. أنا من سيعطيه درساً، وحقّ الله.
ثمّ التفت إلى جدّتي، المنقبضة الوجه.. وخاطبها:
- قومي يا (أمّ حسين)، ارتدي
(ملحفتك) الآن واذهبي.. واطلبي يد ابنة حفيدة أختك.. وأسرعي بالموضوع بقدر ما تستطعين.
سأل (الحاج حسن):
- ماذا تنوي أن تفعل؟!.
- سأزوج ابني (محمد)، وبأسرع وقت.
هتف الحاج (صالح):
- وهل هذا حلّ؟!.
وتبعه (الحاج حسن)، مستنكراً:
- مهلاً.. توقّف.. ولا تستعجل.. لا تقابل الحماقة بالحماقة.
وانفجر صوت أبي، وكأنه يبكي:
- يا عمّي.. أنا أريد عودة زوجتي، وابني لقد كنّا قبل هذه المشكلة.. من أسعد ما خلق الله.
لكنّ جدّي صرخ بجّدتي، وبأعلى صوته الجّهوري:
- قلت لك هيّا إذهبي، بسرعة.

مصطفى الحاج حسين
يتبع.. الجزء السادس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...