مقتطف ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(10)

ج(10)


عاودت العاصفة الثّلجية وكانت أعنف من سابقتها ... لقد كانت إشراقة شمس تلك الأيّام القلائل السابقة مختلسة من ربيع زائر في غير موعده كان صحو الأيام فيها فرصة لخروج السكان للتبضّع و التسوّق و تبادل مختلف المصالح والأغراض .

أبكرت عنق حمام إلى خمّ الدّجاج ،واختارت ديكا وديكا،قام باز بذبحه وأعدت مع مرقه رقائق الثريد التي يفضّلها خليفة ،خاصّة في أيام مثلجة كتلك التي شهدها شتاؤهم العنيد ... ما إن حلّ المساء مبكّرا في يوم من الأيّام القصار ،حتّى طرقت باب داره وأذن لها باز بالدخول ،هلّت عليه كأميرة في زمن القصر والفتوة ،بدت كحلم انفلت عقيقة من ذاكرة السعادة .

سرّ قلبه وارتخت تقاسيم وجهه ،وأذن لها بالجلوس ، فوضعت الطبق أمامه وقالت بنبرة امتنان :

ـــ كنت دوما الذي تطعمني وتكرمني ، وها أنا اليوم أسعى في إطعامك وعسى أن ينال ما اجتهدت في طبخه رضا اشتهائك سيّدي .

هيّأ لها مكانا أمامه فجلست حتّى تقاربت المسافة بينهما ،كانا يجلسان معاعلى عتبة الشوق الذي يضمرانه ، ولا يجرؤ أحدهما البوح به للآخر . ويأملان في حدوث سبب يسهّل عليهما البوح بما يشعرانه . لكنّه رغم ذلك لم تمنعه رجولته ولا مقامه من المبادرة في اختراق جدار الهيبة ،ليقول لها بيقين المحبّ :

ـــ قبل أن تأتي كنت أهتف باسمك وأحدّث نفسي و أقول : ليت على الجدران ظلّك ليقيني من لسعة هذا االبرد الآيل للسقوط إذا ما حللت ، وها أنت الأن تدفئين القلب وتنيرين ظلمة الفؤاد .

ابتسمت ابتسامة وشت بسرورها، ثم قالت بزهوّ :

ـــ ولكنّك لم تأكل من طبقي؟

فأجابها بالإيجاب وهو يضحك ملء فيه ،ثمّ وثب كالجواد إلى المائدة،وقال:

ـــ لا أطيب على قلبي أن آكل ممّا أعددت بيديك ،فلنأكل معا !

رفع باز مائدة الطعام وحلّ طبق الفاكهة ، وأقداح الشاي الساخن ،ليحلّ الدفء و يجد المتيّم نفسه في جو من المؤانسة والانتشاء ،فيشير لها بالحكي. تتماهي عنق حمام مع المكان و مغازلات الثلوج المتساقطة ، وحمرة جمر الكانون ،فتشرع في الحكي :

... حكى الشّيخ الضرير ـــ وكان شاهين ينصت له باهتمام شديد ـــ فقال:

" كانوا عشرة إخوة من قبيلة الزوايد ،أكبرهم هو "نجم الدّين" ،مرّوا بالسوق ، ليستريحوا و يقتنوا ما ينقصهم في رحلتهم ... التقيت نجم الدين أمام البئر مثلما التقيتك تماما ،والغريب أنّه تصرّف مثلما تصرّفت ! ، ومثلما أخبرتك ، صار لا يخطئني يوماولا يتوانى في رعايتي و تلبية احتياجاتي ، لم أشهد كرما وسخاء ورفعة أخلاق كالتي شهدتها منه ومن إخوته... "

بثّ كلام الشيخ الأمل في نفسه وقال مفاخرا :

ـــ اعلم يا أبي أنّ أخلاق رجال قبيلة الزوايد وحتّى نساءها ،أخلاق نبل ومروءة و كرم وجود ... و أنا منهم ، والأبناء العشر هم أبناء سيّدي ووليّ نعمتي المرحوم " أحمد ابن الذّيب الزايدي " .

وجم الشيخ لما سمع ، وقال بنبرة استغراب :

ـــ وما الذي أتى بك إلى قريتنا ، أليست لديك أسرة تنتظرك ؟

ـــ أنا أعزب ويتيم يا أبي ، و أعتبر أنّ الإخوة العشر أهلي وإخوتي .

أنا مثلك أفتقدهم و أسعى في رحلتي هاته إلى العثور عليهم ،ضالتنا واحدة يا شيخي الجليل ، ولا بدّ أن تكون رحلتنا واحدة أيضا .

رفع الشيخ رأسه ووجّه عيناه الضريرتان نحوه وقال بنبرة يا ئسة :

ـــ ليتني أقوى على الترحال، لكنت سبقتك في البحث عنهم ، لكنّني ضرير منهك ، و لا تطاوعني صحتي في مرافقتك يا ولدي ، فأنا و إن رافقتك سأكون عالة و عبئا عليك ،لكنّني سأدلّك على بعض الأمارات التي قد تساعدك في العثور عليهم.

ـــ حسن يا أبي ، سأجعل من يتفقّدك ويعتني بك عند رحيلي ، و أعدك بأن أزورك كلّما مررت بالسوق .

سرّ الشيخ بكلام شاهين ،و وجّهه نحو عرش بني فزّارة و زعيمها " علي بن حنّاش الهواري " ، وقال بنبرة الواثق :

ـــ لا يخيب من يدنو من بني فزّارة ولا يتوه من يسترشد بالزعيم النافذ "علي بن حنّاش ". أقصد طريق الشرق واسأل العابرين ، فإذا ما أدركته أخبره أنّك من طرف الشيخ الإمام " قاسم بن صالح العدّي" .

دهش شاهين من كلام الشيخ وتألّم ،وقال :

ـــ إمام يا أبي الجليل ؟ ويطالك الإهمال وسوء الحال ؟!

هزّ الشيخ برأسه ،وقال بنبرة اليائس المهموم :

ـــ من تخونه صحته و يدركه العجز و أرذل العمر لا يشفع له علم ، ولا جاه لكنّني بفضل رعاية الله و دعاء الصالحين ،أعثر في كلّ مرّة على أمثالكم فيشملونني برعايتهم و كرمهم .

دنا شاهين من الشيخ وقبّله على رأسه إجلالا و إكبارا ، قضى كلّ حاجاته وودّعه على أمل أن يكتب الله قدر اللّقاء بينهما ... طار نحو خيمة سيّدته زينب حاملا بشائر لقاء الغائبين ....

تلكّأت عنق حمام ، و تثاءبت مخاتلة وقالت بنبرة موسومة بحياء :

ـــ الحديث حلا يا سادة ،لكن العنين طلبوا النعاس ، والرّاس طلب الوسادة .
...يتبع


بقلم: ليلى تبّاني -قسنطينة - الجزائر .




1727471305713.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى