محمد محضار - الهروب الكبير...

“ارتَدّ إلي طرفي وهو حسير، وقد صدمه قبح ما رأى، واقع أليم، وزمن ساخر يتسلى بأوجاع من طالهم جُورَه وَجُورَ بني جلدَتهم من علية القوم ونخبة النخبة، ممن يستنكفون إلقاء نظرة على من هم دونهم في الوضع والحال، ويسرفون في ذمهم و تحقيرهم دون أن يرِف لهم جفن، أو تتحرك في قلوبهم رجفة رحمة”
دَاهمهُ هذا الشعور الغريب وهو يلج مقهى ” برغواطة” كما كان يحلو له أن يسميه هو لاعتبارات يراها موضوعية وتاريخية، أو “تامسنا” كما سَمّاهُ مالكوه وهم جاهلون –حسب منطقه- أنّ برغواطة وتامسنا صنوان لا يجوز ذكر أحدهما دون الأخر.
جلس في ركن قصي بمواجهة فسيقة المياه المزدانة بفسيفساء من زليج فاس، وضع رجلا على أخرى، وطلب كأس شاي كبيرٍ على الطريقة الشمالية، تلذذ برشف جرعاته، وهو يتنقل عبر الصفحات الفاسبوكية، مُستجليا أخبار فيضانات شرق البلاد، وأنباء الهروب الكبير لأهل شمال إفريقيا وجنوبها نحو الثغور المغربية المحتلة من طرف الإسبان، بحثا عن الفردوس المنشود، و الحياة الكريمة.
اقترب منه النادل فجأة ووضع أمامه كوبا من عصير الفواكه المشكلة،
نظر إليه مستغربا وقال : ” أنا لم أطلب شيئا يا بُنيّ” ابتسم النادل ورفع يده مشيرا إلى شاب تجاوز الأربعين بشارب أسود وملامح مستبشرة، يرتدي بدلة رسمية لرجال الأمن وقال: ” الطلب مُوجّه من الضابط ”
التقت نظراته بنظرات الضابط الذي تقدم نحوه بخطوات حثيثة، قبّل رأسه وقال بصوتٍ خافت: ” كيف هي أحوالك يا أستاذ”
قام واقفا عانق الضابط بحرارة، وهتف قائلا:
-أنا بخير يا ولدي .. مضى زمن دون أن تجمعنا الظروف.
-سمعت بأنك تمرّ بوعكة صحية.
-الحمد لله يا سعيد، قدّر ولطفَ، لقد استعدت عافيتي
-المسؤولية وضغط العمل يقف بيني وبين السؤال عنكَ يا معلّمي، فأنت صاحب فضل علَيَّ
-العفو يا بنَيّ هذا من كرم أخلاقك.
ودّعَه سعيد، التلميذ النجيب الذي درسَ عنده ذات سنة من سنوات القَرن الماضي.
شرب كأس العصير بفرح طفل، وعاد لصفحات الفايسبوك، يَتتبع الأخبار والمضامين، طالعته فجأة صورة مُرشَّحٍ للهجرة السّريّة قضى غرقا في البحر الأبيض المتوسط، دقّق النظر في الصّورة، كأنه يعرف صاحبها، بل هو يَعرفه حَقَّ المعرفة، إِنّه ” علي بلحسين” واحد من أنجب تلاميذه، وأكثرهم حماسة، كان يكتب الشعر ويبدع في صوغ القصائد، ورغم انتقاله للدراسة بكلية العلوم القانونية ثم تخرجه منها، فقد ظلت علاقته به مستمرة، يستشيره فيما تجود به قريحته من أشعار ويستأنس برأيه، ولا يتردد في إرسال نصوصه الشعرية إليه عبر خاصية الواتساب، لثقته في ذائقته وحسه النقدي، ولم يكن هو كأستاذ سابق له يبخل عليه بالتوجيه والنصيحة المشمولة بالدعم والتشجيع المادي والمعنوي.
قبل أسبوعين أرسل إليه أخر قصائده، كان فيها شَجن وحزن، وشعور بالانكسار، وتتضمن جملا شعرية مفعمة بالوجع والانفعال الدال على أقصى درجات الإحباط، قرأهَا عدة مرات، فأصابه اِنقباض وشعور بالوجل والخوف على “تلميذه السابق” من السقوط في أحضان الاكتئاب.
وها هي اليوم مخاوفه وتَوجُّسَاتِه تتحقق.
فتح تطبيق الواتساب ، وبدأ بقراءة قصيدة ”علي بلحسين” وعيناه تفيضان بالدمع الهتون.

يا وطني
شربتُ حزني
غصّتين !!
ونامت فِي كَفّي
جمرة
وتواريت خَلْفَ
غَمَامةٍ يائسة
ألعن زمنا شاردا
بَاعَ أهلهُ
يا وطني
الرّعب يقفز
في الطريق
وليل النذالة ألقى
مراسيه في ربوعنا
وريح السموم
تَعصف بأحلامنا
يا وطني
تكبر غربتي
في حضنك المصقع
ويموت الشموخ
في عيونِ ذاتي
تصفعني ألوان العبث
تعذبني لغة الخشب
وأحترق في آتون
الخواء
يا وطني
الشيطان يرقص في
حدائقنا الخلفية…
وأطياف الخطيئة
تُجلّل شَفَق فَجْرِنَا
الجريح
يا وطني
تعددت المواعيد
ورجع الصدى يَطِنّ
في ذاكرتنا المهترئة
ونحن أشْبَهَ بِدمى
هائمة!
تَحَلّق بلا أجنحة
في فوضى غير خَلّاقَة
فمتى نعانق حقيقة
الحياة؟ !!
” أخْلفتَ الموعدَ أيّها الشَّاعر المُرهَف الحِسّ، الرّقِيق الشُّعور، النّاعم الروح، الجيَّاش الوِجْدان، أخلفتَ الموعدَ، وما اكتفيتَ بالإبحارِ في بحورِ الخَلِيل السِّتة عشر، وما أشْبَعَتْ نَهَمَك التّفاعيل، ولا أقنعتكَ الأسْبابُ والأوتادُ والفواصلُ، ولا أرضتَ ذائقتك القَوافِي وسِحْر الرَّوِيّ، وإذا بِك تخوضُ غِمار البَحر الأبيضِ المُتوسِّط، وأنتَ تعلمُ أنْ لا حَدَّ لِقرَاره وأَنَّ مَتْنكَ لنْ يَقْوى عَلَى التِّيارِ الشَّدِيد والمَوْج الهَادِر، وإذا بِك تَنْدَفع في مُغَامرةٍ قَادتكَ لِلالتحاقِ بالرَّفِيق الأَعْلى”
رَفَع يَدهُ مشيراً للنَّادِل الَّذي اِقتربَ منه مبتسماً، سألهُ عن ما بذمته، فأخبره بأن الضَّابط دَفع عنه ثَمن مشروباته، حدّق به مليا ثم قال:
-طَيّب .. الضَّابِط سَعيد اِبنٌ بَارٌّ لَمْ ينسَ أنَّنِي كُنْتُ مُدرِّسا سابقاً له
اِنفرجَت شِفاهُ النَّادل عنْ ابتسامةٍ عَريضةٍ وقالَ:
-وأنا أيضا أستاذي العزيز كان لي شَرَفُ الجُلوس في الصَّفّ أمامك
ساد صمتٌ قصير، سرعان ما كسَّره وهو يستوي واقفا:
– وجودكم يا بنيّ يَنقُص من حِدّة القلق المِيتافزيقي الذِّي يُداهمني، ويخفف ثقل السنين.
عانقه النادل، وقبل رأسه، وشدّ على يديه بقوة وهو يقول:
-أنت قدوة لنا، منكم نتعلم فلسفة الحياة
ردَّ وهو يربت على ظهر النّادل:
-نسأل الله أن يُديم حَبل المودّة.

محمد محضار 25 سبتمبر 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...