حاميد اليوسفي - بين الضحية والجلاد...

اليوم لن تحكي قصة بالشكل المألوف. منذ سنة تقريبا، وأنت تجلس أمام التلفاز، وتشاهد دراما حقيقية تجري فصولها أمام عينيك.. تنتقل من قناة إلى أخرى. من كثرة القنوات التي تتكلم عربي لم تعد تميز بينها وبين من تتكلم عبري..
بعض الأخبار تدخل إلى غرف النوم، وتُلقي بجسدها العاري فوق السرير. وبعض الأخبار تنظر في المرآة، وتعيد ضبط أحمر الشفاه بعد أن زاغ من كثرة القبل عن مكانه، وتردد بفرح زائد لا تخطئه العين بأن إسرائيل أحرقت قطاع غزة..
لم تنس يوم تناولت وجبة من فراخ الحمام، فانهالوا عليك بنعوت ترجع إلى العهد الحجري، ووصفوك بالهمجي الذي يهدد شهية العالم المتحضر.
إسرائيل دمرت الحجر، وأحرقت البشر أمام أنظار العالم. أحرقت الأطفال والنساء والشيوخ، ومثلت بجثثهم.. رائحة الشواء البشري تنبعث من تحت أنقاض نشرات الأخبار في وقت الظهيرة.. الطبق المفضل الذي يفتح شهية العالم المتحضر..
بعد أيام أضاف المذيع متلعثما بأن اسرائيل اغتالت إسماعيل هنية في قلب طهران!
هربت من التلفاز إلى المقهى.. كان عليك أن تزور الطبيب. كم مرة نصحوك في البيت بأنه يصدر عن جهازك التنفسي صفير لا تسمعه. ستخنقك الأخبار. وما علاقة ذلك بذهابك وإيابك من المقهى؟
ـ لو كنتَ اليوم شابا ربما للبستَ الكوفية، وارتديتَ الحذاء الرياضي، وخرجتَ في المساء مع أصدقائك من الثانوية أو الجامعة، وذهبت للتظاهر ضد جرائم الحركة الصهيونية. هذا أقل ما يمكن أن تفعله.
ـ لا تكذب. تذكّر أنه عندما كنت شابا لم تكن تملك حذاء رياضيا يصلح أن تسير به في الشارع العام! فأنت جئت إلى اليسار من الأحياء الفقيرة، وليس من الكتب والمجلات.
ـ الآن تعبت. شاخت نخوة اليسار في عروقك. لم تعد قادرا على الحركة. بالكاد تذهب إلى المقهى الذي لا يبعد عن البيت إلا بحوالي كيلومتر ونصف. تذهب راكبا على الدراجة، ورغم ذلك تشعر بالعياء. يؤلمك الظهر كلما طال بك ركوب الدراجة، أو السير راجلا..
ـ تحدث مع نفسك مثل الأحمق، لكن بلا صوت حتى لا يسمع الهاتف ما تهمس به.
إيران انتخبت رئيسا إصلاحيا جديدا. بعد الانتخابات الأمريكية، سيستأنف الحوار مع الغرب حول الملف النووي، ورفع العقوبات.
تساءلت باستغراب كيف استطاعت إسرائيل الوصول إلى هنية في قلب العاصمة طهران؟ وكيف فجرت الغرفة التي ينام فيها؟ لا أحد يعلم غير الطرفين المعنيين بالأمر. هل اختلفت القيادة في إيران مع هنية حول شروط وقف الحرب، وأرادت التخلص منه؟ أم أنه ذهب ضحية صراع الأجنحة على السلطة، وقدّمه أحدهما هدية لإسرائيل لإضعاف خصمه. يقولون في السياسة يمكن أن تبيع القرد، وتضحك على من اشتراه.
طنّ في ذهنك سؤال آخر. لماذا اختارت إسرائيل أن تغتال هنية في بيت طهران الصديق والحليف؟ وليس في تركيا أو مصر أو قطر أو حتى في السماء؟
ربما أرادت تأجيج نار الحرب أو إذلال ولاية الفقيه أمام الأصدقاء والعالم أجمع لكبح ما هو قادم..
عزّيت أهل غزة. لامك البعض، ورمى في وجهك صورا للشهيد هنية إلى جانب قيادة الانفصاليين. ها هم يُشهرون في وجهك ورقة الخيانة بشكل مبتذل! بعض المؤثرين أغبياء لا يفهمون بأن الدولة نفسها غير راضية على ما يجري في المنطقة. هددك الفايسبوك والانستغرام بتجميد حسابك إذا تماديت في تقديم التعازي..
ـ أنت بالذات عليك أن تدخل سوق رأسك. سنك وصحتك لا تسمحان بأن تتبهدل في أقسام الشرطة أو السجون. والنوم على الإسمنت يوجع عظام الظهر. وعندها ستلعن الشرق والغرب!
ـ ولكنك لم تفعل ما يستحق أن يثير عليك غضب العيون التي لا تنام..
ـ لستَ تاجرا يملك شركات أو عقارات أو مصالح يخشى عليها.
ـ أنت (مزلوط) لا يملك حتى ثمن مساحة القبر الذي سيُدفن فيه.
ـ من ستخون إذن؟
ـ كل ثروتك رموز لا مادية. ذكريات وأفكار لا تستطيع أن تقصفها الطائرات.
مر حوالي شهرين، انتظرت أن يردّ الفرس على الضربة أو الإهانة.. الأخبار متناقضة. المذيعة المتشحة بالسواد تقول بنبرة يغلب عليها أحمر الشفاه بأن الصبر الاستراتيجي يقتضي أن تركن للسكون، وتُراقب الوضع، وتترك الصغار يناوشون.. إسرائيل تورطت في غزة، وتُريد توسيع الحرب للخروج من النفق المسدود الذي وضعت نفسها فيه..
الأصدقاء الروس نصحوا بلاد فارس بألا تقدم هدية للأعداء.. ستفتح المجال لتدخل الأمريكان والألمان والإنجليز والفرنسيس والغرب البربري بشكل علني لدعم عروس الشرق المدللة.
النصائح أحيانا تكون حادة مثل شفرة الحلاقة.. ما الأفضل أن تمزق الستار، وتكشف من يدير اللعبة، وتفضحه أمام الرأي العام، أم تتراجع إلى الخلف، وتترك الوضع على ما هو عليه؟
بالأمس قصفوا بيروت! بيروت اعتادت على القصف حتى أصبحت عاصمة منسية. اغتالوا بعض قادة الحزب. فجروا أجهزة البرجر.. بات الأمر خطيرا! قالوا بأن الحزب أصبح مكشوفا.. ثم ضربوا المقر في حارة حريك بثمانين قنبلة كل واحدة تزن طنا، ويمكن أن تصل شظاياها إلى أكثر من عشرين مترا تحت الأرض.. جرحوا قلب الأرض..
لا زال في صدر نيرون بقية من خبث. ها هو يُنبه سكان المنطقة أن يخلوا المكان ساعتين قبل التفجير. لا أحد يفهم ماذا يجري؟ هل أمن الحزب غبي إلى هذه الدرجة؟ ماذا جاء يفعل السيد في المقر؟ وكيف علمت إسرائيل بالخبر؟ ولماذا أرسلت إيران جنرالا من الحرس الثوري لمقابلته في هذا الوقت العصيب؟ ولماذا لم يُلغ الاجتماع بعد إعلان إسرائيل أنها ستقصف المكان؟ هل كان السيد متيقنا أنه ذاهب إلى حتفه؟
إذا كنت شيعي الهوى فلا بد أن تُلبّي نداء الحسين حتى ولو كان في ذلك نهايتك! إذا رضي عليك سيدنا الحسن، فأنت من أهل الجنة. اغتالوا السيد.. وشرعوا يستعدون للانقضاض على الذئب الجريح.
يا أخي كُفّ عن الأسئلة! ليس من حقك أن تسأل.. ادخل سوق رأسك. دول بكل ما تملك من قوة وجبروت ركنت للصمت! وانت المواطن الأعزل إلا من رحمة الله، تريد أن تعمل فيها بطلا! اذهب إلى مقهاك. تحدث عن الكرة بصوت مرتفع، وستجد ألف من يشاركك الحديث.
ـ من طلب منك تقديم تعزية عبر الفايسبوك للمقاومة في لبنان؟ الم ننصحك بشتم الفلسطينيين والشيعة وحتى الإخوان المسلمين إن شئت، وبقايا فلول اليسار الفاشل؟! وسنكافئك. نتصدق عليك ببعض المال، ونأمر فقهاء الظلام بمدحك، ونُشير على الفايسبوك أن يمنحك وساما، وينقل تدويناتك للعالم أجمع. وستبعث لك فتيات الموساد بقبل ساخنة عبر الأثير، ويرفعن التنورة عاليا. سبحان من خلقهن أجمل من الحور العين.. ستغمزك إحداهن، وتطلب منك مراسلتها على الخاص.. ماذا تريد أكثر؟
نعرف أنك تختلف مع الشيعة في المذهب وفي السياسة وفي الفكر؟
ـ تقول بأنك تنتمي إلى دولة تعمل بالمذهب المالكي. إذن أنت مسلم سُني بالوراثة. أجدادك ماتوا سُنّة. ثم جاء الوهابيون ولخبطوا كل شيء.
ـ أنت أيضا مسلم (مودرن) نصف مؤمن.. تحترم الشرائع الدينية. تصوم وتتصدق. تشتري كبشا للأضحية. تحتفل بالأعياد الدينية على الطريقة المغربية. وتكذب بين الحين والآخر مثل باقي المؤمنين.
ـ ماذا يُريد منك الفقهاء أكثر؟
تختلف في السياسة مع لبنان بلا دولة. تقول بأن قرار الحرب والسلم قرار سيادي، اختطفته طهران من بيروت.
ـ ها أنت تُخاصم بيئة المقاومة في لبنان!
ـ ولكنك ترفض أيضا احتلال اسرائيل لفلسطين واعتدائها على لبنان، وتُطالب في الحد الأدنى بحل الدولتين.
بعد إعلان اغتيال السيد رأيت الناطق الرسمي باسم الجيش الاسرائيلي يغني ويرقص من الفرح! رأيت بعض قنوات الأخبار تتحول إلى ببغاوات تنتشي وتشمت. رأيت الإسلام المسلح في سوريا يلبس لحي طويلة، ويرقص على إيقاع الدبكة، ويُوزع الحلوى على المارة في الشوارع..
لم تشرب سجائر محشوة بالحشيش. لم تستنشق الغبار الأبيض. لكنك دخت. الإنسان في مثل هذه المواقف لا بد أن يدوخ من غير بنج.. ربما القنابل سممت الهواء، واستنشق الناس سمومها من غير أن يشعروا.
بدأت أصابع القنوات الإخبارية تشير مرة أخرى إلى بلاد الفرس. الناس تتساءل هل تخلت طهران عن أذرعها كعربون محبة للعودة إلى طاولة المفاوضات؟ الصبر تحول إلى ذل استراتيجي. الشك بدأ يتسرب إلى جمهور الحلفاء. القلق الوجودي يهيمن على بيئة المقاومة. الحسين خسر حياته، وحفظ ماء وجهه. لبيك يا حسين في خطر. طهران تخسر دم وجهها.
فجأة تطير الصواريخ الفرط صوتية، تصب جام غضبها على الخصوم.
حلت مظاهر الفزع بالشارع الإسرائيلي، وانتقل الرقص والفرح إلى الشارع المقابل. شارع المستضعفين.
في الصباح قبل تناول الفطور، خرجت الوحوش من جحورها منتفخة الأوداج. عابسة، وكاشفة عن أنيابها. تتوعد الخصوم بيوم قيامة، ستغضب فيه حتى الملاكة.
ـ كن حذرا لم يعد هناك أمن ولا أمان. أنت تحمل هاتف سمارت من الجيل الخامس، ينقل كل شيء عنك. وقد يفجره أحدهم على وجهك.
الخيارات تقلصت إلى الحد الأدنى. أمامك خياران. ضع كل الخلافات الآن في الثلاجة. الاختيارات صعبة لكنها واضحة. إما أن تنحاز للجلاد أو تنحاز للضحية.
مكانك الطبيعي بين أحرار العالم.. ليس مطلوبا منك أن تكون معجبا بالقتيل، المطلوب، هو الا تكون معجبا بالقاتل*.


الهامش:
*مريد البرغوثي
مراكش 02 أكتوبر 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...