د. محمد عبدالفتاح عمار - ما قبل المشهد الأخير



(1)

جوقة.. عازفون

في ثياب رسمية مهلهلة

وأربطة عنق

كرباط الأحذية

وجوههم صفراء

وشفاههم ترتجف

وأعينهم الزائغة..

تضيقُ

رغم وسع الأفنية

يستميتون وراء

سيمفونية هاربة

من الآلات المحطّمة..

والأوتارُ واهيةٌ

ونوتةٌ مبعثرةٌ

أوراقها ممزّقة

ونغماتٌ هالكة

كشتات على الماء

طافية

وبوق عشّش فيه العنكبوت

وملأته الأتربة

وعود جوُفه الصمت

خيوطه باكية

أناتها شاكية

...................

إنها لحظة موجعة

لحظة إسدال الأقنعة

على رؤوس بريئة

تحت المقصلة

تشوّهت أيّها العازفون

النغمات

وتحجّرت مثقلةً

.....................

إنّها لحظةٌ دامية

كظلام الأقبية

في سجون الطاغية

لما لا تعون الحقيقة؟

وتكفّون عن الأسئلة

ألم يخبركم التاريخ

عن هلاك الأجوبة

....................

إنّها ليلةُ عزفٍ صاخبةٌ

موسيقاها حائرة

ترانيمها خائرة

وأصداؤها خالدة

سيعزفُ لحنَ

رثاء الغناء

وأنشودة

انتحار الموسيقيّ..

تلك هي الحقيقة

تلك هي الحقيقة

(2)

مصباحٌ يتدلّى من عتمة دائمة..

وستائرُ سوداءُ داكنة

وأشباحُ جمهورٍ..

وجوهُهم غائمة

ونساءٌ نصف أثدائهن عارية..

وسادة عقولهم من بغاء

وقلوبهم من صدأ

يحتسون الخمر في جماجم الشهداء

وينهشونَ اللحم من جيوبِ الفقراء

أيّها العازفون:

استعدوا لعزف

اللحنِ الأخير

حالما يعوي النفير

وتحطّ أقدامُ الأمير..

وعشيقتُه ذاتُ النهدِ الوثير

وحاشيتُه ذاتُ الثيابِ الحرير..

امرأتُه عاشت؛ لعين يوسف الصغير

لم يكن نبيًّا؛

ليرى برهان ربِّ القلوب

ولم تكن بحاجة لقدّ قميصِه للهروب

مولاكم العادلُ لم يبدي الأسى

لفقد الأميرة

مولاكم العادلُ له ألف زوجة وعشيقة

إنْ رحلتْ واحدةٌ

أُحلّت له ألف رفيقة .. ورفيقة

(3)

تلكَ حفلةٌ للخيانة

واحتفال السقوط

تلك لحظةٌ..

ستُلقى فيها آلافُ القصائد

وتبسطُ فيها آلاف الموائد

ويُقسِم الشعراءُ فيها يمينَ الولاء

وتُرمى الأميرة بالزنا

ويصدرُ قاضي الأمير

حكمَه بالرجم

قبلَ صلاةِ العصر

ليبصمُ عليه مفتي القصر

سيعلنُ التلفاز في نشرةِ السادسة:

وصمُها بالعار!

ويوسف الحبيب..

فيصفّق الجمهورُ

ويتسامرُ الحضور

وترسم صورتَها في كلّ حدْبٍ

هربتْ من قيدِ الحرير

إلى شظفِ العيش

وكسرة من قديد

(4)

مشهدٌ جديد

تُطَفأ الأضواءُ لحظتها

وتبدأ رقصةُ البجع

أيّها العازفون:

تناسوا الألم

واستطعموا الوجعَ

فالذي شبّ فيكم

ركع

والذي علا منكم وقع

ستعزفونَ لحنًا جنائزيًّا

لأجل

هروبِ الأميرة

عفوًا إعدام..

الأميرة!

وجائزةٌ لمن يدلي

بأوصافِ الحبيب


(5)

لحظةً..

وينتهي كلّ شيء

إنه المشهد قبل الأخير..

بعده..

يصبحُ كلّ من كانوا

أشباح ذكرى

وأصداء موسيقى

أيّها العازفون:

استعدوا

ستعزفونَ آخرَ ألحان الحياة..

سيمفونية

المشهد قبل الأخير

سمفونية

كُتبَت بلغة الكهوف

فهيئوا آلاتِ النحاس

شدّوا الأوتار

ودقّوا بقوةٍ فوقَ الدفوف

(6)

أيّها العازفون:

هيا.. إلى سيمفونية بلا عنوان

ولا طعم ولا لون

في مشهدنا قبل الأخير

سنبكي فيها طويلًا

ونحكي عنها كثيرًا..

أنّاتُها عن فارسٍ

من غيرِ هذا الزمان

جاء قبل خلق المكان

ومن قبل بدء العصور

مزّقته الخيانة

قبل الطعان

إنّه يوسف

الثائر الشهيد

رمزُ العناد

حبيبُ الأميرة

لم يكن رسولًا

أو نبيًّا

كان ثائرًا

حرًا نقيًّا

حارب منذ آدم عليه السلام

وآمنّ بكلّ الأنبياء

وصدّق جميعَ المرسلين

وردت عنه بعض آيات

الزبور

وعباراتِ في توراة موسى

وأسفارِ الإنجيل

وآياتٍ من القرآن

ذي الذكر المبين

تعلّمَ الدين من أهل الدين

وأُوحى إلى قلبه العلم

كالخضر عليه السلام

ومرّ بكل الطغاة

ولعن كل البغاة

ويعشقُ ظلام السجون

اسمه في كلّ الزنازين

على جدرانِ المقاصل

بقايا دماه

أنشودةٌ للثائرين

فارسٌ من غير

قميصٍ أو دروع

حاربَ في ثياب يسوع

وقاتلَ مع صلاح الدين

وردَّ عن الوطن التتار

اسمه أبدًا لم يرد

في صحف العار

ولا قوائم الفرار

ولا عبدة الدرهم

ولا تجار الدولار

ولم يحتكرِ القوت

ويغشّ الدواء

حارب..

قبل أنْ يعرفَ الناسُ الجيادَ

صنعه الله من طين العناد

ومن أحجار إرمُ ذاتُ العماد

جلبتها ثمود من كلّ واد

ألف لا..

وصرخة

و رفض

قالها منذ الخليقة،

لكلّ والٍ ووزير وخليفة

حطّوا على عرش البلاد

مرّوا فوق أحلام العباد

وله في كلّ ميدانٍ ذكرى،

واحتفال، وبطولة

رايةٌ نُصبَت يوم الجلاء

وأخرى يوم تأميم القنال

وثالثة يوم حرب العبور

وها هو ذا - الآن- يعود في ثياب الشباب

يرفع الراياتِ

فى ميادينَ

النضال

خلفه تمشي الحشود

قابعًا في وجه المحال

صامدًا في وجهِ

فرعونَ الذي طوى حلم البلاد

وتجبّر فوق كلّ أصناف العباد



(7)

ايها العازفون:

هي سيمفونية تستعصي على عزف النغم

قصة من طين الثورة

ونبض الألم

أيها العازفون المحبطون

أيها الحاضرون

في مسرح العرائس

في سرادق العزاء

أيّها النائحون في مأتم الشهداء

أيّها المتفرجون في صمت الهزيمة

أيّها العابثون بأقدار البلاد

أيّها الكل

أيّها الأجزاء:

إن رغبتم في معرفة المشهد الأخير

وتفاصيله المحذوفة

بأمر مولاكم الأمير

بفرمان الوزير

اقرأوا هذه السطور

وردّدوا عنّي هذي النبوءة

وافتحوا أبواب القبور

ليخرج الشهداء لحصار القصور

وانزعوا مصابيحَ الظلام

عن ذاتِ العيون السود

(8)



أيّها المنافقون

صباحًا ومساء

ومع كلّ صلاة

أوقفوا المباخرَ

لا تنفخوا في العود

وترون على المسرح بطلًا

مبتسمًا فرحًا

يتدلّى من مشنقة

ربّما يكون

زهران دنشواي الحزينة

أو الحلبي أيام الفرنسيس الغزاة

أو طومان باى في ثياب القتال

عاشق مصر

وطن المبعدين

أنقى المماليك الجباه

عجبًا

يتدلّى رأسُه

مرفوع الجبين



(9)



في المشهد المحذوف..

الحبيبة تبكي

في دموع الأسى..

وحدّها غارقة

والحبيب.. والمشنقة

كفراشة الحرير .. قيّدتها الشرنقة

لا كومبارس

لا جوقة عازفة

فقط ترانيمُ رائعة

تردّدها أفواهُ الملائكة

وأصداءُ الحياة

وبهجةُ الخلود

ونزقُ الميلاد

ووقعُ قطرات الشتاء

على أرض الجفاء

وطينة الإسفلت

واختفاء تام

لآلاتكم النافقة

من طول عزف الأكاذيب

والحكايات المنمّقة

لمسامرات المماليك المتخمين

وأنتم.. أيهّا العازفون

في ثيابكم الممزقة

تعانون الاحتضار

تشكون للصمت

وجع الآلات

والأسى الدفين

.....

(10)

فقط..

من بعيدٍ،

يأتي عزفُ ناي حزين..

ربّما يأتي..

من قلب ميادين الثورة

أو يولد من قلب الشهيد

ومن رحم المشنقة

في خُطى الشّمس المُشرقة..

هنا..

يهربُ جميعُ الحاضرين،

ويصرخُ مولانا الأمير:

الستار.. الستار

أيّها الحراس: الستار...

أطفئوا الشمس

احبسوا ضوء النهار

ساعتها أيّها العازفون

رغمًا عنكم وعنا

وعن مولانا الأمير

سيمحى لحن الانكسار

وتطمس سيمفونيات الاندثار

وتعزف آلاتكم لحن الانتصار

اصبروا أيها العازفون

ورابطوا دون الفرار

فقد اقترب حصار الحصار

لحظة ويعزف

آخر ألحان النهار

(11)



هذي هي التفاصيل الدقيقة

والحكايات القصار

التي حذفت من مسرحيتنا العريقة

بأمر مليكنا الجبّار

لكنّها ستأتي

كقارعة ما لها من قرار

كالسيل حين يغزو البوار

لا تخافوا.. لا تجزعوا

فالله يحمى هذه الديار

يومًا..

ستعزف رغم الظالمين

أجمل ألحان النهار

ساعتها..

ربما أكون في المستقر..

حفنة من تراب

ففردّدوا عني هذي الحكاية

وعلقوها على كل جدار

واقرءوا على قبري الفاتحة

واسقوا شجرة الصبار





























تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...