مجدي جعفر - المجموعة القصصية (شدو الكازورينا) لمحمود الديداموني على مائدة النقد.

.....​
على مائدة النقد، أقام منتدى السرديات باتحاد كُتّاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء ندوة لمناقشة المجموعة القصصية " شدو الكازورينا " للأديب محمود الديداموني، وأدار الندوة الكاتب والناقد العربي عبدالوهاب, وعرّف بالمحتفى به، وقال :

" عرفت الحياة الثقافية والأدبية محمود الديداموني شاعرا مجيدا، فصدر له ديواني شعر : " كان في عيني حلم " و " حين يحط الموج "، وله أيضا مساهماته الطيبة في المسرح، فصدرت له مسرحيته الشعرية " مرايا الوهن " ونُفذت له على خشبة المسرح مسرحية نثرية بالعامية المصرية، وعُرف أيضا قاصا جميلا وروائيا مقتدرا من خلال مجموعتيه : " ليست كغيرها " و " فراشات تغازل قوس قزح " وروايتيه : " واسمه المستحيل " و " نزف ".

وعُرف أيضا ناشطا ثقافيا، وباحثا وناقدا وله اسهاماته النقدية المهمة، فتناول بالدرس والنقد والتحليل إبداعات أبناء جيلة والأجيال السابقة، واحتضانه الحنون للأقلام الواعدة ودعمها وتشجيعها، وقد كرمه إقليم شرق الدلتا، وهو تكريم صادف أهله، وأقام له نادي أدب ديرب نجم مؤتمرا تناول تجربته الإبداعية.

وهذه هي المجموعة القصصية الثالثة لكاتبنا، والتي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب 2021م، وسيتناولها بالنقد والتحليل الكاتب والناقد الكبير الأستاذ الدكتور : محمد سيد علي عبدالعال وشهرته (محمد عمر) والذي يعمل أستاذا للأدب والنقد ووكيلا لكلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش ويتناولها بالنقد أيضا الناقد الدكتور صادق النجار والأديب مجدي جعفر "

وتحت عنوان " شَدْوُ الكازورينا والعَودَةُ إِلَى يَنابِيعِ القَصِّ والحيَاةِ والحُبِّ: (قِرَاءَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ في فنِّ الأُقْصُوصَةِ) جاءت دراسة الأستاذ الدكتور محمد عمر، وعن " القراءةُ الإنشائيّةُ وأسئلةُ القصَّةِ القصيرةِ، قال :

كثيرًا ما كنتُ أتساءلُ عن المنهجِ الذي يمكنُنا اعتمادهُ في قراءةِ القصَّة القصيرة؛ لكونها سردًا مختلفًا عن السّردِ الرّوائيّ؟، وأتساءل أيضا: لمَ لا يُجدّدُ القاصُّ العربيُّ في فنونِ القصِّ؛ فيتجاوزَ المرحلةَ الإدريسيَّةَ، والجوهريَّةَ، والشَّارونيَّةَ إلى مناطقَ جديدةٍ منَ التَّجريبِ الذي يُعيدُ فنَّ القصَّةِ القصيرةِ إلى مكانها المعهود والمستحقِّ؟ فمن المفترض أن تكونَ هي فَنَّ العصر الحديث بإيقاعه السّريعِ اللَّاهثِ الذي اضطرّهم لاصطناعِ نوعٍ جديدٍ منها؛ أقصرَ وأدقَّ، وأكثرَ اختصارًا في تسميته؛ فأسموه بالحروف الأولى توافقًا مع سرعة الإيقاع، واختاروا الحروف الثّلاثةِ الأُوَل منَ الكلماتِ الأولى الحاويةِ لكلّ خصَائِصِهِ: ق. ق. ج.

وفي الحقيقةِ؛ ظلَّ هذَانِ السُّؤَالانِ شاغِلَينِ لي في كلّ قِرَاءةٍ لمجمُوعةٍ قصصيَّةٍ؛ حتّى قرأت مجموعة محمود الدّيدامونيّ " شَدْو الكازورينا"؛ فظلَّ العنوانُ يداعبُ أذني؛ بوصفهِ عنوانًا صوتيًّا شاديًا، ويولّد صورًا متتابعةً أمامَ عيني وفي مخيلتي بحضور شجرةِ الكازورينا بزخم دلالاتها؛ فالعنوانُ شِعريٌّ غير مُستبعدٍ على شاعرٍ، والصّورة المستدعاة لشَجرة الكازورينا تردُّنا تلقائيًّا لعالمِ الرِّيفِ السَّاحرِ في طفولتنا بكلِّ أغاريدهِ، وشدوه، وذكريَّاتهِ، وخيالاتهِ

الديداموني صوتٌ سرديٌّ مختلفٌ في القصة القصيرةِ؛ فقد مزج الواقعيَّ بالفانتازيّ، واليوميَّ بالنُّوستالجيّ الحميمِ، والملموسَ المعيشَ بالعجائبيّ السّاحرِ، في لغةٍ شعريَّةٍ تشفُّ وتسمُو، وتحلّق حتى تصلَ بنا إلى درجةٍ ساميَّة من شِعريَّةِ القَصِّ..!

وأضاف الدكتور عمر تحت عنوان فرعي آخر :

" شَجَرُ القَصِّ، وقصصُ الشَّجَرِ:

يلفِتُنا موضوع الشَّجرة التي نتمسَّكُ بظلّها وجذورها بروايات الشّجر الكثيرة في السّرد العربيّ والعالميّ؛ فللدكتور حلمي القاعود روايةٌ بعنوان:" شجرة الجميز" يهديها للجذور لا إلى الغصون والفروعِ والظِّلال؛ فهي شجرة العودة إلى الينابيعِ، التي تَحمينا من العواصفِ المتواليةِ الدَّاهمة، في مقابل " شَجرة البؤس" التي بدأتْ بها أشجار السَّرد العربي الحديثِ من لدن العميدِ، مرورًا بشَجرة العابد لعمار علي حسن، وشَجرة التفاح لطه الحرش حتّى تكاثفتِ الأَشجارُ وتشابكتْ أَغصانُها، وتنوّعت أدوارها وثمارها...!

بقي السّؤال الأوّل ملحًّا: كيف نعالجُ فنّ القصة القصيرة منهجيًّا بعيدًا عن قراءة العناصر الكلاسيكيّة التّقليديّة؟ وقد كفانا الدّيداموني إجابة هذا السّؤال حين كتب نصًّا متكاملًا تكوينيًّا؛ فيمكنُكَ عدُّهُ متواليةً قصصيَّةً؛ مكوّنةً من ثلاثةِ أجزاء؛ هي: ( أصوات- متوالية للبَحرِ- ترنيمة البوحِ والألم)..! "

وعن " عتباتُ القصّ وتذويتُ الكتابةِ الشّذريَّةِ، قال الكاتب والناقد المعروف الدكتور محمد عمر :

بلغَ القاصُّ بالأجزاء الثّلاثة درجةً من التّذويتِ الشّعريّ السَّرديّ تَضَعُنا أمامَ سَردٍ ذاتيٍّ، يعيشهُ الكاتبُ؛ بوصفهِ بطلًا متعدّدَ المشاعرِ والأطوارِ والوجوهِ؛ بما يتوافق مع تبدّل الزّمنِ وتطوّر الأحداثِ، وتغيّر المكان، بفلسفة الإثبات والمحو وفق حركة الكرونتوب/ الزّمكان، المزلزلة؛ لنبحَثَ مع هذه الشّخصيَّةِ عن شَجرةِ الكازورينا التي تُؤوينا من هذه الكوارث المحدقة بالإنسانيَّة، وقد تآكلت الإنسانيَّة إزاءها رويدًا رويدًا ثمَّ سريعًا سريعًا حينما تتحوّل شجرة الجنّة إلى شجرة للجانّ...!

ومع كلّ ما حاولته الدّراسات السِّيميائيّة بجهود العلّامة چيرارچينيت من قراءة المتعاليّات النَّصيَّة، في سبر عتباتِ النّصّ من الإهداءِ، والعنوانِ، والهوامشِ، وأيقوناتِ الغِلافِ والتَّنَاصّ وغيرها، ظلَّ الإهداءُ الرِّسَالةَ السِّريَّةَ التي تضمر وجهة النَّظر التي لا يسترها المجازُ؛ فالإهداءُ ،هُنا، يُشعرُنا بكلّ بواعثِ القَلَقِ والخوفِ من جرّاء الرّيح العاتيةِ التي تعصفُ بالإنسانيَّة لنبحثَ عن شجرةِ الحمايةِ: "إلى شَجرة الصَّفصَافِ الصَّامدةِ في وجهِ الرِّيح ...هناكَ على بُعد أَمتارٍ قلِيلةٍ مِن جَنَّتي" (ص5)؛ فإذا كان في القصِّ خيالٌ؛ فإنّهُ يسعى ليقولَ في النِّهَاية بطرائقهِ المخاتلةِ كلمةَ الإهداءِ التي يَكتبُها المبدعُ بعدما يَنْتهِي من نَصِّهِ كلِّهِ."

" نقدُ لُغةِ القصِّ:

حملَ الجزءُ الأوَّلُ عُنوانَ" أصوات"، ومن المفترضِ أن تأتيَ القصصُ الثَّلَاثُ المكوّنةُ له أقَلَّ في مكوّناتها لتجتمعَ فيه في النِّهايةِ؛ فالقصَّة الأولى التي حملت عنوان "أصوات صاخبة" كان يكفيها عنوانٌ مختصرٌ في كلمةٍ واحدةٍ؛ هُو: "صَوتان"؛ للتَّكثيفِ، والتّعبير عن المفارقةِ، والبُعدِ عن التّقريريّةِ التي حملَها الوَصْفُ" صَاخِبَة"، ولاسيَّما أنَّ الصِّراعَ في القصَّةِ بين صَوتين يصطرعانِ في نفسِ الكاتبِ، وإن نجحَ في حشْدِ كلِّ الحقولِ الدَّلاليَّةِ منَ الصَّخبِ إلى الهدوء في قصّته "المرتفعِ، نِدَاءَات، صَخَب، صَوتُك، صَرْخة، صَرخَات، المتدَاخِلَة، أَصْدَاء، صَرير، صَوتي، زَقزقَتْ، صَمْت، نَبرة، هَامِس، صَمْتي...إلخ".

ووقعَ الكاتبُ في أخطاءَ شائعةٍ، ماكان لمثله أن يقعَ فيها؛ إذْ كرَّر استخدامَ أداةِ الشَّرطِ "كُلَّما" "كُلَّما ابتعدنا كُلَّما زقزقت العصَافيرُ"(ص9)، والخلطُ بين همزة القطعِ وألف الوصلِ في" أنتزع قطعتي القطن .." (ص10)، وإن كان الخطآن الأخيران مصحَّحينِ في النُّسخة الإلكترونيَّةِ التي أرسلَها إليّ؛ فإنَّ النَّقدَ منوطٌ بالمطبوعِ؛ لأنّنا لم نكنْ لنآخذَهُ على الإلكترونيّةِ لو جاءَ المطبوعُ صَحيحًا...!

ومن المآخذِ، أيضًا، عدم التّفريق استخدام " أبدًا" الاستقباليَّة، مكانَ"قطّ" الماضويَّة" لم أكن أبَدًا لأستجيب لها"(ص10)، والكأكأةُ التي تُفسِدُ تدفُّق السَّردِ؛ أعني تكرارَ فعل الكينونةِ دُونَ داعٍ، ولاسيّما تكرارُها مع القدقدةِ؛ أعني استخدام "قد" دون داعٍ أيضًا "كانت أصداء قصيدة قديمة تتواتر على عقلي، كنتُ قد كتبتهُا لها"(ص10)، والبعدُ عن الحشو أَقْرَبُ لخصائص الأقصوصةِ؛ ممَّا يقتضينا أن نكتبَ الجُملةَ هكذا:"تواترتْ أصداءُ قصيدةٍ قديمة ٍعلى عقلي، كتبتُها لها" وفي الحقيقةِ نحن في حاجةٍ للنّظرِ في مُعظم أفعالِ الكينونة الواردةِ في المجموعةِ...!

وَنجدُ أَنْفُسَنا في القصَّة الثَّانية "إعصار" أمامَ كابوسٍ، يمثّل حالةَ الخوفِ المسيطر على إنسانِ العصر الحديثِ؛ فيفرّ مستعينًا بعجائبيَّةِ الأحلامِ، إلى عالمٍ منَ الفانتازيا، ولكنّهُ يفجؤهُ بالأضغاثِ والمخاوفِ والمحاذيرِ؛ ليحدثَ الالتباسَ بين الآمالِ والمخاوفِ، والتَّداخلَ بينها في غُمُوضٍ وفَوضَى...!

ولعلّ القاصَّ هنا يدخلنا إلى عالمٍ يشبهُ عالمنا من حيثُ الفوضَى وعدم الاتِّسَاقِ، والاختناقِ الكابوسيّ، وإن كان يُنهِي قصَّتَهُ بالمفارقةِ أيضًا " نبتتْ أشجارٌ جديدةٌ أكبرُ وأكثرُ عُلوًّا ... استحالَ الفضاءُ إلى سوادٍ .. كدتُ أتلاشى من شدَّة الاختناقِ ... لولا أنَّ أطفالي عادت لتحملني محلِّقة بي بَعِيدًا بَعِيدًا" (ص15)،ولعلّنا نلاحظُ وجودَ أطفالهِ خيطًا يربطُ مجموعتهُ ويسلكها في نظامٍ، وحينَ نصل إلى نهايةِ الجزء الأوّل في قصته الثّالثة نَجِدُها تترابطُ نصيًّا، وتتماسكُ من خلال البدايات الواحدة" صوت..."؛ هكذا"صوتُها المرتفِعُ..."(ص9)، صوتُ الرَّعد يفقدُها.."(ص12)،صوتُها يجئُ..."(ص16)، وفي القِصَّة الختاميَّة تتصاعدُ الواقعيَّة السِّحريَّةُ؛ فنجدُ شَجرةَالكازورينا مسكونةً بالجنِّ أو الثَّعابين، والأشباحِ؛ وهُو ما يفتحُ آفاقَ الدَّلالةِ لتحملَ الشَّجرةُ مفارقةً بينَ التماسِ الأمنِ ومصدرهِ...!

ولا أعرفَ سببًا لإضافةِ الكاتبِ كلمةَ" شَجَرة" في عُنوانِ قِصَّتِه الأخيرةِ" شَدْو شجرة الكازورينا"، والأوفقُ التَّوافقُ بين عُنوانِ المجموعةِ وعُنوان القصَّة، والاحتفاظ بالمفارقةِ بين المضافِ والمضافِ إليهِ" شَدْو الكازورينا".

وعلى نسقٍ مختلفٍ عن المتوالية الأولى يسير الديداموني في المتوالية الثّانية:"مُتوالية للبحرِ"، وفي المتوالية الثّالثة" ترنيمة البوح والألم" ليرتفع بالتّجريب القصصي رويدًا رويدًا مع جرأةٍ في التكوين ...!

نعم، ثمّة جرأة في تكوين المتوالية من ثلاثِ متوالياتٍ، وداخل كلّ متواليةٍ طرائقُ منَ التَّجريبِ على مستوى الرُّؤيَةِ، والتَّشكيلِ؛ فينتقلُ من عالم الأحلامِ والرُّؤَى إلى العَجائبيِّ، ويكوِّن قصَّتَهُ القَصيرةَ "هُو..هِيَ" في المتواليةِ الأخيرةِ من أربعِ قصصٍ قصيرةٍ جدًّا؛ فكأنَّنا أمامَ ديوانٍ قصصيّ؛ تُذكّرُنا بما فعلَهُ عبدالحكيم قاسم في مجموعَاتِهِ الدّواوين على مستوى الرّؤيَةِ" الهجرة إلى المألوفِ: ديوان قَصصٍ"، و"دِيوان الملحَقَات"، و"الدّيوان الأخير"، ولكنَّ شِعريَّةَ الدّيدامونيّ القصَصيَّةَ تُشْعِرنا حقيقةً أنّنا أمامَ ديوانٍ قصصيٍّ في الرّؤيةِ والتّشكيلِ؛ فهنيئًا لفنّ السّرْدِ القصصِيّ بهذا الكاتبِ الموهوبِ الذي يتطوَّرُ تطوُّرًا لافتًا في فنّهِ السَّرديّ...!

.................................................................

= أما الدكتور صادق النجار فقد عنون دراسته " تفاعلات العتبات ومدارك التلقي - قراءة سيميائية فى مجموعة شدو الكازورينا للأديب محمود الديداموني "

وقال :

يختار الأديب محمودالديداموني عتبات (شدوالكازورينا) بعناية فائقة، ويبدأ اختيار العتبات من لوحة الغلاف، التى بدورها تنقل العنوان فى صورة بصرية إلى المتلقي، وهى لوحة مرسومة تقبع فيها شجرة الكافور مسيطرة على الغلاف الخارجى وخلفها توجد سلسلة من أشجار الكازورين يليها فراغ واسع أو صحراء شاسعة وبينما تتصدر شجرة الكافور الواجهة آمنة مطمئنة تقبع شجرة الكازورين فى الخلفية تتربص بأمنها واستقرارها، أوتحاول فرض هيمنتها على المكان (الغلاف) إذا ما أصاب الضعف شجرة الكافور، أو قصرت فى الدفاع عن نفسها وحماية كيانها.

أما الخطاب الصوري للألوان فى لوحة الغلاف فتظهرعلاماته حينما تمتزج الألوان الأخضر والأصفر والبنى والأسود فى مكان واحد وتتركب وتتآلف؛ لتحيل إلى مكان ينبض بالحياة، فالماء قد مر من هنا، فاخضرت الأرض وأخذت زخرفها، وازينت، ثم جاء إنسان العصر وقدر عليها، ثم صارت فى انتظار أمر إلهى قادم، فالخطاب الصورى في هذه الألوان فى كل الأحوال يمثل فضاء يدل على وجود حياة وصراع وحضارة قائمة فى المكان الذى تجتمع فيه.

وتتربع عتبة العنوان الرئيس (شدوالكازورينا) فوق لوحة الغلاف؛ لتتغير ملامح اللوحة الصامتة لتصبح ناطقة بوجود شدو شجرة الكازورين فى الخلفية، ممثلا موسيقى تصويرية ناطقة للصورة المرسومة، وتنبعث من اللوحة رائحة الطبيعة ونسمة هوائها؛ لتكون لوحة فنية كلية مكتملة الأركان اللون والصوت والرائحة والحركة حركة الرياح ثم حفيف الشجر الذى نتج عنه الشدو، فقد تجاور اللفظي مع البصري كوسيلتين يستخدمهما الأديب لإعادة بناء وترتيب عالمه الواقعي بصورة رمزية.

ويتفاعل الإهداء مع عناصر الطبيعة وإيحاءات الصورة حينما يتوجه الكاتب إلى شجرة الصفصاف القابعة فى مواجهة منزله ليهديها مجموعته، فالكاتب لديه ذائقة فنية وحس إبداعي وصفاء نفسي حيث يتماهى مع عناصرالطبيعة بتخيلاته وأحاسيسه النفسية، لهذا لا يمكن إهمال أثر الطبيعة فى هذه المجموعة ولا فى غيرها من كتابات محمودالديداموني لأنها تنعكس على الشخصية من الداخل، وتكشف عن طبيعتها الرقيقة؛ حينما تبث ـ تواصلياـ في النفس الهدوء والسكينة والسلام مع الذات والآخر.

أما العتبات الداخلية في المجموعة فقد جاءت متضامنة مع لوحة الغلاف والعنوان الخارجى والإهداء، فأشبهت الشجرة فى تفرعها وامتدادها، فقسمها الكاتب إلى ثلاثة أغصان (أقسام)، من كل غصن تمتد أفرع وأوراق وتختلف هذه التقسيمات طولاً وقصرًا كما هو حال أغصان الشجرة المثمرة التى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

الغصن الأول، هوأقصرالأغصان وأهمها(أصوات)وفية ثلاث قصص، يتصدر فيه القص السيكولوجي الصادر من أعماق الذات الرافضة لواقعها محاولة التمرد عليه داخليًا أحيانًا، أو خارجيا فى كثير من الأحيان.

الغصن الثاني، وهوأكثر طولا من الأول وعنونه الكاتب بـ(متوالية للبحر)يمتد فيها التاريخ وانعكاساته من الحاضر إلى فترة ماضية من الزمن قاومت فيهامدينة بورسعيد العدوان الثلاثي، ثم ما ترتب على ذلك فيما بعد أصداء وتغيرات فى الواقع المعاش، وتتفرع من هذا الغصن خمسة أفرع (رائحة البحر-وصل-محروس-جبانة الشهداء- حديقة فريال).

الغصن الثالث، هو أكثر الأغصان طولا وتفرعا وأوراقا(ترنيمة البوح والألم) ويتفرع منه أربعة عشر فرعا، تتنوع بين الطول والقصر منها (ترنيمة البوح والألم- النوم والبوح- ضاربة الودع- اتجاهات- مقاومة- تماثيل- ثقب صغير باتجاه السماء).

ويستهل الأديب محمود الديدامونى قصصة بأنماط متعددة من الفقرات الافتتاحية تتنوع ما بين مشهدى وحكائى أووصف للمكان والحدث والشخصية.

أن قراءة الأنساق الدلالية للعتبات كأداة إجرائية تمكن من ولوج النص لفهمه وإدراكه فى مجموعة شدو الكازورينا قراءة سيميائية لا يمكن أن تكون نهائية فى كل الأحوال؛ لأنها تحمل الكثير من الدلالات الإيحائية العميقة والمتنوعة التى تمكن القارئ من الولوج إلى عالم الحكاية التخييلى وإدراك خلفياته الواقعية ورؤية الكاتب الفكرية مع تعدد أنماط الاستهلال وجوانب البدء فى القصص والحكايات، متجاوزا فى الكثير من الأحيان تقليدية البناء السردى، معتمدا على تفتيت اللحظات الزمنية وإعادة ترتيبها وتركيبها،وارتباطها بوعى الشخصية وعالمها اللاشعوري، ويكمن خلف ذلك كله لغة السرد والوصف الشعرية التى تعطيك من جمالياتها فتجد فيها حسن المطالع وجودة السبك وتآلف العبارة والتناغم الداخلى بين الفقرات وكلية التصوير، ثم الإيقاع الصوتي الذى يمنح النثر دلالات الشعرية مع حضور للمتخيلات التعبيرية الجزئية والكلية التى جمعت فى مضامينها الفنية بين الموضوع والذات بانحيازها إلى الكشف الوجداني لعالم الشخصية الذى يعمل على إثارة دهشة المتلقى وتساؤلاته؛ لتقيم صلات وثيقة معه وتوحى بتأويلاتها المختلفة، مما يحيل إلى مقدرة الكاتب محمود الديداموني على استعمال تقنيات الكتابة ومجازاتها واختيار معارج البدء والوصول إلى مدارك التلقي ودهشة المتلقى. "

..........................................................

= أما القراءة الثالثة فكانت للأديب مجدي جعفر وجاءت تحت عنوان ( مقاربة نقدية في المجموعة القصصية " شدو الكازورينا "

وقال :

اختار الكاتب قصة " شدو شجرة الكازورينا " عنوانا لمجموعته القصصية، واعتمد فيها على الرمز المراوغ، ولم يكتف بالرموز الإيحائية البسيطة وحسب، بل انتظمتها الرموز المركبة، وتمرد الرمز الكلي في ثنايا القصة وفي ثنايا المجموعة كلها، لتُقرأ على أكثر من مستوى، إذا كان الكاتب قد اختار " شجرة الكازورينا " عنوانا لمجموعته، فإنه في الصفحة التالية، يقدم الإهداء إلى " شجرة الصفصاف " :

( إلى شجرة الصفصاف الصامدة في وجه الريح هناك على بُعد أمتار قليلة من جنتي ).

وما بين شجرة الكازورينا وشجرة الصفصاف فضاءات واسعة، هل يملأ الكاتب بقصصه هذه الفضاءات أم يترك للقارئ مساحة من هذه الفضاءات ويشركه معه في ملئها؟

ورغم أن شجرة الصفصاف لم يرد ذكرها في أية قصة سواء في المتن أو حتى في الهامش، ولكنها رغم الغياب تظل حاضرة في ذهن المتلقي، ويستدعيها ليواجه بها غزو " الكازورينا " تلك الشجرة الوافدة، والتي تم غرسها في الجهة الشرقية للقرية، ويعشش على أغصانها البوم والغربان، وتسكنها الأفاعي والحيات والثعابين، فالخير لا يأتينا من الجهة الشرقية أبدا، والبوم في المعتقدات الشعبية نذير الشؤم ورمز الخراب.

إن العدو المتربص بنا، والذي يأتينا دائما من الجهة الشرقية، لا يريد قيام هذه البلاد، وكاد أن يحقق ما أراد من خلال القضاء على ثوابت القرية / الوطن، وضرب الهوية في مقتل، بغزوه الفكري والثقافي، وماذا بعد أن أزاحت شجرة الكازورينا شجرة الصفصاف وحلت محلها؟.

1 – تم إغراق القرية بالمخدرات.

2 – بارت الأرض :

( حقول القمح أنهكها العطش، تتسع شقوقها كأخاديد تمرح بها الثعابين والسحالي والفئران )

3 – الخراب والفقر والجوع :

( أصبحت سطوح البيوت عارية .. والحقول يابسة )

( العناكب سكنت البيوت )،

بل صار لها مخالب تدمي أيدي كل من يقترب منها، وقد أدمت بمخالبها المدببة يد الجدة التي حاولت مقاومتها.

4 – صرف الناس عن الصلاة ومحاولة التخلص من رجال الدين والقضاء على الدين ذاته :

( إمام الجامع فقد علاقته بمواقيت الصلاة ولا زال يستحث الناس على أدائها .. رغم أنه فقد القدرة على الاقناع )

وثمة محاولات خبيثة للتخلص من إمام المسجد الذي أصبح صداعا في رؤوس الناس!.

( كانت أشجار الكازورينا تتزايد بشكل منتظم .. فعلى ناصية كل حقل بزغت شجرة )

( أشجار الكازورينا تكبر بشكل مخيف .. والأعشاش على فروعها لا حصر لها )

من إذن يقاوم أسراب البوم التي صنعت تشكيلات مهيبة، وحجبت ضوء الشمس عن القرية؟

إنها الجدة التي على وعي بصير بالصراع الوجودي مع العدو الذي استغل فترة الهدنة معه وفعل بالبلاد والعباد ما فعل، فذهبت مع أحفادها، لتجتز شجرة الكازورينا من جذورها، فهل تنجح؟.

اختار الكاتب الجدة والأطفال الصغار من الأحفاد للمقاومة ولم يختر الأجيال التي بينهما، فهذه الأجيال صارت مسخا مشوها، بل نجح العدو في فترة الهدنة في تطويعها وتشكيلها وتحويلها إلى كائنات هشة وهلامية.

هل تنجح الجدة وأحفادها الصغار في اجتزاز شجرة الكازورينا والقضاء على تشكيلات البوم؟.

( كلما ضربت جدتي الشجرة كلما اتسع محيط جذعها، ونمت فروع جديدة بأعشاش كثيرة أخرى )

وهنا إشارة إلى تمكن العدو منا، وصعوبة محو أثاره، ولكن محوها ليس بالمستحيل، ولم تيأس الجدة، فأرادت أن تثير قضية الوعي لدي أهل القرية، وتوقظهم من سباتهم العميق:

ورغم أن أدوات المقاومة في يد الجدة والأطفال أدوات ضعيفة، لكن يظل فعل المقاومة ذاته فعلا ماجدا ومحمودا، وعلينا أن نعزز من هذا الفعل، ورغم توعل وتغلغل أفعال العدو في القرية، فلم يزل هناك من يقاوم.

وبالتأكيد سيستعيد القارئ شجرة الصفصاف برمزيتها ودلالتها في مواجهة ومقابلة شجرة الكازورينا برمزيتها ودلالتها، فشجرة الصفصاف لم تزل هي الأخرى تقاوم، حتى لو كان حضورها ومقاومتها في وعي الكاتب، فانتقلت إلينا وصارت في وعينا أيضا، وهي الغائبة الحاضرة، وأضفى عليها الكاتب هالة من القداسة وجعلها على عتبات جنته.

وحول قصص ( أصوات ) يقول جعفر :

" ينفتح محمود الديداموني في هذه القصص على الفنون الأخرى، وخاصة السمعية والبصرية، فإحساساته الصوتية عالية جدا، فأذنه رهيفة وعينه لاقطة، فيرينا ما لاتراه أعيننا، ويُسمعنا مالا تلتقطه آذاننا، فيسمعنا صرير الصمت، وطنين الأسئلة، وصوت البهجة الذي يختلط بصوت البكاء، وحشرجة الصوت، وهزيم الرعد، ينقل لنا الأصوات الخفية البعيدة، ويُسمعنا حتى أصداء قصيدة قديمة، كما ينقل لنا الصور الخفية التي لاتُرى بالعين المجردة، فينقلها بالبصيرة، إنها لحظة استثنائية ونادرة، يتماهى فيها الكاتب مع الكون، ويصبح مفردة من مفرداته، فيكون صوت المفردة الكونية عصفورا كان أو ريحا، رعدا أو برقا، طيرا او حيوانا أو جمادا.

وعن قصص ( متتالية للبحر ) يقول :

" خمس قصص متجاورة، منفصلة ومتصلة تشكل عالما جديدا، فاختار الكاتب منطقة تكاد تكون مهملة وغير مطروقة كثيرا، واقتحمها بجسارة، وهذه المنطقة مساحتها الزمنية صغيرة جدا، فهي المنطفة الفاصلة بين مرحلتي الطفولة والمراهقة، استطاع كاتبنا أن يقبض على هذه الفترة الزمنية القصيرة، ويتحرك بوعي في تلك المساحة الصغيرة، مسلطا الضوء عليها، ومحاولا اكتشافها، واكتشاف العالم بعين عبدالصمد، بطل النصوص الخمس، وهو النموذج الذي اختاره الكاتب ليمثل تلك المرحلة، ومن خلاله نعيد اكتشاف العالم.

يستهل الكاتب المتوالية بنص ( رائحة البحر ) وهو النص المؤسس، ويمثل الركيزة ونقطة الانطلاق، ومن خلال عبدالصمد نعيد اكتشاف :

1 – القرية المصرية.

2 – عمال التراحيل وبعض سلوكياتهم.

3 – مدينة بور سعيد، رمز الصمود والمقاومة.

4 – الموازنة والمقارنة بين القرية والمدينة.

5 – صور ونماذج مشرقة لأهالي بور سعيد الذين قاوموا ثلاث دول هاجمتهم في 1956م.

وقد يأخذ البعض على الكاتب أنه لم يقدم لنا بور سعيد الأخرى، بورسعيد التي مثلت الانفتاح الاستهلاكي، فهذا الانفتاح مع قرار الهدنة هو من أكبر الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذا الحال، إن عبدالصمد والأنفار قد ذهبوا للعمل في بورسعيد في زمن الانفتاح، فلماذا لا يعيد عبدالصمد اكتشاف أثر هذا الانفتاح على الشخصية المصرية عموما، والبورسعيدية خصوصا، ولكن يبدو أن الكاتب آثر أن يقدم لنا شخصيات مثالية، فعبدالصمد شخصية مثالية، ومدرس التاريج ماجد ومثالي، والريس محجوب من الشخصيات المثالية، وربما آثر ذلك لأنه أراد أن يقدم لنا نموذجا ( لعبدالصمد ) الذي يمثل الفترة الزمنية القصيرة جدا الواقعة بين مرحلتي الطفولة والمراهقة، ويكون النموذج فيها أقرب إلى المثالية، فكان عبدالصمد كذلك.

وعن قصص " ترنيمة للبوح والألم " يقول :

" يواصل محمود الديداموني طرقه في منطقته المفضلة، ويعبر في قصتين بديعتين له، عن الفتاة الخارجة لتوها من مرحلة الطفولة، وخطت سنتيمترات قليلة في مرحلة المراهقة، تلك المرحلة الأخطر في حياة الفتى والفتاة.

= في قصة ( النوم والبوح ) يترك الكاتب الحديث كاملا للفتاة، لتعبر بحرية تامة عن مشاعرها، وتنفل لنا ما يعتمل في قلبها، وما يدور بعقلها، همومها وأفراحها، أحزانها وتطلعاتها وانكسارتها، ومنحها الفرصة كاملة للتعبير والبوح، لننصت إليها بإهتمام، إن آفة مجتمعنا الريفي الذي نشأت فيه فتاتنا، لا ينصت أبدا للفتاه، فهي محاصرة منذ ميلادها حتى مماتها بالأسئلة، فعليها أن تطيع الأوامر دون نقاش، فالفتاة في الريف المصري محاطة بمجتمع ذكوري، لا يقبل منها غير الطاعة العمياء، ولا يتفهم حاجتها النفسية، وحاجتها البيولوجية، ولا التغيرات التي تطرا عليها في انتفالها من مرحلة نمو إلى مرحلة أعلى، وأثر التغيرات الفسيولوجية والنفسية .

وتأتي قصة ( ثقب صغير باتجاه السماء ) لتكون بطلتها فتاة أيضا، وفي خطواتها الأولى في مرحلة المراهقة، هل تتعثر هي الأخرى، وتقع في المحظور مثل الفتاة السابقة؟

الكاتب في القصة السابقة عزل الفتاة عن محيطها الأسري والاجتماعي، فلا ظهر الأب ولا الأم ولا الأخ ولا الجار ولا .. ولا ..، واعتمدت القصة على تقنية البوح فقط، ولكن هذه القصة تتحرك بطلتها الفتاة الصغيرة في محيط اجتماعي.

وإذا كانت القصة السابقة اتسمت بالاستاتيكية ( السكون ) فإن هذه القصة اتسمت بالدينامية ( الحركة )، واعتمد فيها الكاتب على الجمل السريعة الخاطفة، واستخدم الأضواء والظلال والألوان ( ألوان الطيف )، فالبنت هل تسحبها النداهة، وتقع في الغواية؟ هذا ما تخشاه الأم، ويطالبها الأب بضرورة إحكام الغلق عليها، فالبنت خرطها خراط البنات.

وقد أثرت مداخلات الحضور الندوة وعلى رأسهم الشاعر إبراهيم حامد رئيس مجلس الإدارة، أ . محمد عبدالله الهادي، د . كارم عزيز، أ . بهاء الصالحي، أ . السيد النمُاس، أ . رضا عطية، . أحمد عثمان، أ . عبدالعزيز دياب، أ . محمود رمضان، أ . محمد عجم، أ . خليل شرقاوي، أ . أبانوب لويس، أ . مختار البسطويسي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى