محمد الديهاجي - الأدب في خطر...

هناك شبه إجماع، في صفوف الدارسين والنقاد، على أن مفهوم الشعرية، مفهومٌ مملوء بالغموض والالتباس والخلط أحيانا؛ مثلما هناك شبه اتفاق على أن أرسطو، هو أول من حاول وضع تعريف لمفهوم الشعرية، انطلاقا من مبدأ المحاكاة، أو على الأقل، إن تعريفه ظل الأكثر شهرة وهيمنة.
إلا أن هذا التعريف، سيتعرض لهزّة إمبريقية، في وضعه الإبستيمولوجي، في بداية القرن العشرين، مع الشكلانيين الروس، وتحديدا مع أحفادهم: تودوروف، وجاكوبسن، وريفاتير، وجيرار جنيت، ورولان بارت.. تمثيلا لا حصرا.
من الكتب المُؤسِّسة T.Todorov وفي هذا السياق، يُمكن اعتبار كتاب «الشعرية» لتزفيتان تودوروف، لمفهوم الشعرية بالمعنى البنيوي، إلى درجة أن هذا الكتاب، جعلَ الرجلَ يتبوأ مكانة مرموقة في مصاف «الشعريين» ومنظري علم الأدب/ الشعرية. إن الشعرية، عند تودوروف، تعني مجموع الخصائص، والقوانين العامة التي تحدد أدبية النص؛ ومن ثم فإن من مهامها الأولى والأخيرة، ليس العمل الأدبي في حد ذاته، وإنما الكشف عن خصائص الخطاب الأدبي، أي أدبية الأدب. وعلى الرُّغم من أن تودوروف ما فتئ يؤكد على أن الشعرية، كنظرية أدبية، لا تسعى البتة إلى أن تكون علما، إلا أنه، مع ذلك، لم يستطع أن يُخفي طموحها العلموي، لذلك فهي ترفد موضوعها، بالبحث في تلك التي تتولد عنها نصوص، لا تعد ولا تحصى. Codes normatifs السنن أو القوانين المعيارية. ولعل اللسانيات، في نظره، هي الوساطة الوحيدة تجاه المنهجية العامة للنشاط العلمي، ذلك «أن الأدب بأتمّ معنى الكلمة، نتاج لغوي».
واللافت في الحياة الأدبية والعلمية لتودوروف، بعد مسيرة موفقة، بحثا عن نظرية طموحة في علم الأدب، هو الكتاب الذي أصدره، في مطلع الألفية الثالثة (2007) بعنوان «الأدب في خطر»، الذي اعتبره العديد من النقاد ردّة وتراجعا خطيرا، في مسيرة هذا الرجل La Letterature en Peril ، وجدير بالإشارة، إلى أن هذا الكتاب، جاء على خلفية الوضع الكارثي الذي أصبح الأدب يعيشه، في المدارس الفرنسية، والسبب، في نظر تودوروف، هو طرق التدريس، والمناهج المعتمدة في المعالجة والمقاربة؛ وبذلك لم يتردد في إدانة الأطر المنهاجية الحديثة، كالسيميائيات والبنيوية والتداولية، باعتبارها مسيئة للدرس الأدبي. والحال، دائما في نظره، أن المعالجة السليمة للأثر الأدبي، لا تستقيم إلا بربطها العمل، قيد الدراسة، بسياقه التاريخي، مركزة على المعنى بوصفه غاية أساسية. ولم يتوقف تودوروف عند هذا الحد، بل سيتمادى في تراجعه، من خلال دعوته الصريحة للعودة إلى الأدب الجماهيري، مقابل أدب النخبة، فقط لأن الأول يظل على صلة مطلقة بالواقع والعالم. يقول: «ومنذئذ، ستحفر هوة بين الأدب الجماهيري، وهو إنتاج شعبي على اتصال مباشر بالحياة اليومية لقرائه، وأدب النخبة، الذي يقرأه محترفون ـ نقاد، أساتذة، كتاب – الذين لا يهتمون إلا بالإنجازات التقنية لمبدعيه وحدها».
هذا الأمر، سيفتح الباب على مصراعيه، أما منتقديه، لعل من أهمهم، الأكاديمي المغربي عبد الرحيم جيران، الذي أصدر في السنة الموالية لصدور كتاب تودوروف، كتابا بعنوان «إدانة الأدب» 2008، يرد فيه على مزاعم زعيم المنظرين «الشعريين». يقول جيران معلقا على فكرة الأدب الجماهيري: «فالمعادلة يجب أن تقلب، لأن الأدب لا يسعى إلى التسوية، ودوره التربوي ماثل في صناعة ثقافة الارتقاء التي تأخذ على عاتقها السمو بالناس نحو الانخراط في أرقى أشكال الفن، وتجديد صلتهم به بما يجعلهم أكثر غنى وثراء على مستوى الذوق والحساسية. فالجدل الصاعد يجب أن يحل محل الجدل النازل، فبدلا من أن ينزل الفن إلى مستوى الذوق السائد المعمم، على الجمهور أن يرتقي نحو مدخرات تطلب الفن القائم على تجديد صلته التعبيرية والجمالية بالعالم، لا على تكريس النمطية». ولئن كان تودوروف، في كتابه الأخير، قد انحاز، حسب جيران، إلى المتغير في النص الأدبي، دون أي اهتمام «بالمعياري والنمذجة المتعلقة بالجنس الأدبي»، فإنه تناسى ما كان يدعو إليه طيلة حياته المعرفية، أي ما مفاده «أن ما يحدد شروط المعنى، والعمل الأدبي، ماثل في التجديل بينه والذاكرة المعيارية التي يتأطر ضمنها بوصفها تاريخا جماليا، بل بوصفها الحياة الخاصة بالأدب، ومصدر قوته وحقيقته، على حد تعبير هنري جيمس». إن مقاربة النص، يرى عبد الرحيم جيران، باعتباره متغيرات خاضعة لدينامية التاريخ، لهي قفْز سافر على تاريخ معيارية النص الأدبي، علما أن المعيارية هذه، هي نمذجة للنص بكل تأكيد، وهي، عطفا، تمنحنا القدرة الموضوعية لإسعافه، بعيدا عن كل دوغمائية أو مماثلة للأدب بالتاريخ. يقول جيران، «وحتى في حالة قبول إحلال التاريخ من دون تحديد كيف يحول الأدب التاريخ داخليا إلى أسئلة جمالية، فالنص الأدبي لا ينتج في علاقته به إلا من خلال وساطة الجمالي بينهما، بوصفه معيارية مفتوحة تقوم على التجديل بين الترسب والتجديد على النحو الذي طرحه به بول ريكور».
وكيفما كان الحال، فإن هذا النقاش العلمي الرصين، الذي خاضه الأكاديمي المغربي عبد الرحيم جيران، تعقيبا على (أطروحة) تودوروف الأخيرة، لن ولن تكون الشجرة التي تخفي الغابة، ولن تُنكر المأزق والمطب الكارثي الذي أضحى عليه الدرس الأدبي الآن، في ظل المستجدات والمتغيرات المتسارعة، من تكنولوجيا، وتقانة رقمية، وميول ثقافية تسطيحية لا تستكين إلا إلى الجاهز. فالحق أن الدرس الأدبي، قد وصل اليوم، إلى الباب المسدود، وإلى النفق والمضايق بتعبير أبي نواس، وليس في الأمر من غرابة، ما دام تاريخ الأدب، قد لقننا الكثير من مثل هذه الدروس. والحال أن الأمر يحتاج، أكثر من أي وقت آخر، إلى فتح جديد لمعابر قادرة على جعل الأدب يتنفس برئات أخرى.
المشكلة إذن، ليست في هذا المنهج أو ذاك، وإنما في المشتغلين في هذا الحقل، منظرين كانوا أم نقادا، الذين إما أنهم يقفون، في أسوأ حال، مشدوهين أمام هول المشهد، أو أنهم لم يستوعبوا بعد اللحظة التاريخية التي يمر بها الأدب. كلنا نعلم أن الخطاب الأدبي، ليس له من العلوم الحقة إلا البراءة، وأنه خطاب غير ثابت في شكل محدد، بل إنه يتماوج بتماوج الحياة والعالم، ويتطور بتطور النظريات والعلوم، ومن ثم يمكن القول إن مفهوم الجمال، مفهوم مملوء بالنسبية، ما جعل الأطر المنهاجية في تكاثر وتبدل مستمرين. ولن نجد خيرا من هذا النص العميق للمفكر، في حقل الأدب، السوري أدونيس، إذ به نطوي صفحة هذا المقال، بعيدا عن أي تهافت. يقول «لن تسكن القصيدة الحديثة في أي شكل، وهي جاهدة أبدا في الهرب من كل أنواع الانحباس في أوزان أو إيقاعات محددة، بحيث يتاح لها أن تكشف، بشكل أشمل، عن الإحساس بتموج العالم والإنسان، الذي لا يدرك إدراكا كليا ونهائيا. لم يعد الشكل مجرد جمال، ففكرة الجمال بمعناها القديم فكرة ماتت. إن للفاعلية الشعرية غايات تتجاوز مثل هذا الجمال. من هنا لا يمكن أن يكون الشكل خالدا وفقا لحتمية معينة، ولو صح العكس لأصبح الشعر شكلا من أشكال العلم».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى