محمد كمال سالم - الجانب الآخر من النهر...

كادَ النَّهارُ أن ينتصِفَ، والبلدةُ العتيقةُ يفوحُ ثراها بعبقِ التاريخ، ما هي بقريةٍ وما هي بمدينةٍ، حانوتٌ قديمٌ أظنُّ أنَّهُ ليس له باب، جاءت سيِّدةٌ من بعيدٍ تقصدُه، بيضاءُ شرقيَّةٌ في عباءتِها وحجابِها الذي ما استطاعَ أن يواري بديعَ حسنِها.
على كتفيْها شالٌ، تحملُ فوق أحدهما خرجًا تئنُّ بحملِهِ الثقيل، بينما تسحبُ في يدها الأخرى طفلةً دون الرابعةِ هي نسخةٌ مصغَّرةٌ من أمِّها.
ألقت بخرجِها على جانبِ مدخلِ الحانوتِ ووقفت تنتظرُ أن يفرغَ البائعُ من رجلٍ يُحادثه، لكنَّ البائعَ يتخطَّى الرجلَ ويعاجلها:
- ماذا تريدينَ يا امرأةُ؟
قالت:
- أريد أن أبتاعَ صنفيْن من عندِكَ دأب زوجي أن يشتريهما من هنا.
الرجلُ يُجيبها طلبَها بعد أن رفضَ مساومتَها على تخفيضِ السعرِ الذي قالتْ إنَّهُ مبالغٌ في ثمنِه، وما كان زوجُها أبدًا يشتريه بهذا الثمن.
أخذَ الرجلُ المبلغَ الذي يريدُ في غلظةٍ وكأنَّها تتسوَّلهُ بضاعته، وهمَّت بالخروجِ من الحانوت، فإذا بالبائعِ الغليظِ ينهرُ الرجلَ الذي كان يُحدِّثهُ قبلَ وصولِها قائلًا في حِدَّة:
- فيم وقوفُكَ الآن؟ انتهينا، انصرفوا، ملأتم البلدَ بهمكم.
خرجَ الرجلُ خجلًا في أثرِ المرأةِ التي رمقتْهُ من طرفٍ خفيٍّ، فنظر إليها لحظةً يتأمَّلُها ثم اتَّجه إليها في اندفاعٍ حذرٍ وقالَ في تأدُّب:
- دعيني أحملُ عنكِ الطفلةَ أو هذا الخُرج.
قالت:
- لا يبدو عليك بحمَّالٍ، وليس معي أجرةٌ لما تحملُهُ عنِّي.
- لستُ بحمَّالٍ يا سيِّدتي ولا أريدُ أجرةً، فلتكن ما كانوا يُطلقونَ عليه (المروءَة).
فناولتهُ خرجَها وهي تقول:
- أرجو ألا تكونَ مروءَتُكَ خدعةً كأيامنا تلك.
ما أن تناولها منها وهمَّ أن يدافعَ عن مروءَته حتى سمعَ أزيزَ طائراتٍ منخفضةٍ، علمَ بفطنتِه أنَّهم قد قرَّروا ضربَ هذه البلدةِ أيضًا، فركضَ نحوها مندفعًا وجذبها سريعًا نحو أقربِ عربةٍ لبائعٍ جوال، وجرَّها وطفلتَها قبلها تحتها، في نفس اللحظة التي ألقت فيها الطائراتُ حمولتها المتفجرة.
أصبحَ المكانُ في بضعِ ثوانٍ وكأنَّه قطعةٌ من جحيم، راحَ يُهدِّئُ من روع الطفلة الصغيرة ويُهدهدها، يُهدِّئُ من روع المرأة التي كادت أن تموتَ رعبًا، تتناثر الشظايا القاتلةُ حولهم وكذلك أجسادُ الضحايا، مرت بضعُ دقائقَ بعدها انتهى القصفُ، خرجا من تحت العربة يتحسَّسان موضعهما في حذر، فإذا بالطريق قد دُمِّرَ عن آخره، يبدو أنَّه لم يتبقَّ أحياءٌ حولهم اللهمَّ إلا من بعضِ الناجين مثلهم، همهماتٍ وأنينٍ وصرخاتٍ مكتومةٍ تصدُرُ من بعيد، فأسرعَ وهو مازال يحملُ الصغيرةَ بين يديْه يتفقدُ الضحايا آملًا أن يجدَ بينهم من يستطيعُ إنقاذَهُ ولكنهم كانوا جميعًا صرعى.
أخذت المرأةُ المذعورةُ تبكي وتحثُّهُ على الخروجِ من هذا الجحيم، يعودُ للعربةِ التي اختبأوا تحتَها، أخذَ يُقلِّبُ على الأرضِ ما تبقى من بضاعتها التالفةِ، ثم يضعُ عليها خُرج المرأة وصغيرتَها ويجرُّها.
يجدانِ في السير إلى خارجَ البلدة.
يسألها:
- إلى أينَ تذهبينَ؟
- إلى الجانب الآخر من النهر.
تملكتهُ دهشةٌ من إجابتها، ولكنهُ قال:
- وأينَ زوجك؟ لِمَ لمْ يُعفِكِ مشقةَ هذا الأمر؟
- زوجي ماتَ في قصفٍ مثل هذا.
أخذَ يلهثُ تحتَ وطأةِ حِملِه الذي يجرُّهُ، ويقول:
- إذن سأودعُكِ عند بدايةِ الجسر، تعبرين أنتِ وابنتكِ.
قالت:
- هل تنتهي مروءتُكَ عند الجسر؟
- بل تنتهي حياتي إذا عبرتُ الجسر!
توقفت وقد أدهشتها إجابته:
- ماذا يعني ما قلتَ؟!
- يعني ما سمعتِ، أنا هاربٌ من حتفي من حيثُ أتيتِ أنتِ.
- مجرمٌ إذن، أنتَ هاربٌ من العدالة؟!
يقف للحظةٍ يرمقها في غضب:
- عن أيِّ عدالةٍ تتحدثين؟! لستُ بمجرمٍ، جريمتي هي... هي... لكن لا طائلَ ولا وقتَ للخوضِ في هذا، هلمي، كادَ النهارُ أن ينتهي، خطواتٌ قليلةٌ ونبلغُ النهرَ وتُفارقي هذا المجرمَ الخطيرَ.
قالت معتذرةً:
- لا أقصدُ هذا، لولا شهامتُك، يعلمُ الله، لكنتُ وابنتي صريعتينِ الآن، سامحني.
- لا عليكِ، ها قد بلغنا النهر، ولكن... ولكن! ما هذا!
الجسر... لقد قُصِفَتْ الطائراتُ الجسر.
لطمت المرأةُ وجهها وافترشت الأرضَ تندبُ حظها ومصيرها المجهول، وضياعَ قوتَ عيالِها الذي حملَها على أن تعبرَ النهرَ، وأنَّ بلدتهم فقيرةٌ قد دُمِّرت مواردُها تحتَ قصفِ العدو المتصل.
يضعُ الرجلُ كلتا يديه فوقَ رأسه ويدورُ حولَ نفسهِ يُفكِّر ماذا عساهُ أن يفعل، فكر مليًّا، ثم قطعَ نحيبَ المرأةِ قائلًا:
- هوني عليكِ، سأعبرُ بكِ النهرَ وليكن ما يكون.
نظرت في دهشةٍ: كيف؟!
- سنسير بمحاذاةِ النهرِ إلى أن نصلَ البلدة المجاورة، ثم نعبرُ جسرها.. أظنهم لن يقصفوها.
- وحياتك! ألا تخشى عليها؟
- إن جريمتي قد اقترفها كلُّ الرافضين هناك، إذن فليجرِ عليَّ ما يجري عليهم، هلمي بنا.
_دخل الليل، ضعي شالكِ على الطفلة، فطريقنا طويلٌ.
- أأسيرُ معك في هذا الليل وحدي؟
قال دون أن يلتفتَ إليها:
- اطمئني، لا يقدرُ الشيطانُ أن يُشارِكَنا أو يتحملَ أن يخوضَ معنا هذا الطريق.
وضعت يدها في خُرجها وناولته رغيفَ خبزٍ، فتناولهُ وهو يقول:
- لستُ جائعًا.
كان قد أكله بالفعل.
راحَ يجرُّ العربة وفوقها الطفلة، والمرأةُ تتبعه منهكةً تسأله:
- أنتَ في مقتبلِ شبابك، لمَ هانت عليك حياتك؟!
- لو أنَّ لي امرأةً مثلكِ أو طفلةً جميلةً كطفلتِكِ، لربما جبنتُ وحرصتُ على حياتي.
تستطردُ محاولةً أن تُغيِّرَ مجرى الحديث:
- وفيمَ كانَ ينهركَ صاحبُ الحانوتِ الفظُّ هناك؟ أكنتَ تسألهُ شيئًا؟!
قالَ وهو يجدُّ السير:
- نعم، كنتُ أسألهُ عملًا أقتاتُ منه في تشريدي هناك.
طال سيرهما طويلًا وروَّعهما الليل وأرهقهما السفر، ولمَّا وصلا، وعلى ضوء القمر، وجدا جدارًا عاليًا من السلك الشائك، عليه لافتةٌ اجتهد حتى قرأها في الظلام:
"لا تتعدوا حدودكم.. خطر، حقل ألغام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...