إسماعيل أزيات - الكتاب منقذا بصدد كتاب "ترحيل ابن رشد" لعبد الفتاح كيليطو

للجاحظ "رسالة في مدح الكتب والحثّ على حفظها"¹، أسرف فيها في ذكر محاسن الكتاب وترداد مزاياه مستعيرا له صفات جميلة، وتشبيهات بارعة، واستعارات ملفتة. لكن ثمّة صفة تبدو من المستحسن لفت النّظر إليها وهي أنّ الكتاب أيضا منقذ من النّسيان ومن الموت، لا ينقذ فحسب كاتبه من هذا المصير المفجع، وإنّما يمتدّ طوق نجاته إلى أبعد من ذلك، إلى موضوعات وقضايا وظواهر كانت ستتلاشى وتضيع لولا احتضان الكتاب لها وإيداعها بين حروفه وأوراقه.
الكتاب المنقذ هو، ربّما، الفكرة الثاوية في كتاب "ترحيل ابن رشد" لعبد الفتاح كيليطو، والخيط الذي تراءى لنا أنّه يضمّ مقالاته العشر بعضها إلى بعض. تجدر الإشارة أوّلا إلى أنّ "ترحيل ابن رشد" هو القسم الثاني من مؤلّف "لسان آدم" (1995)، لكنّه، على ما يظهر، قسم مظلوم ولم يحظ بمراجعات أو دراسات نقدية إلاّ قليلا وبصورة جزئية²، وعلّة ذلك مجاورته لقسم أوّل هو "لسان آدم" الذي أسال مدادا وافرا وأثار حوله نقاشات مثمرة. هذا القسم الأول أرخى بظلال كثيفة على القسم الثاني فحجبه عن النّظر بشكل كبير، وما زاد من شدةّ هذا الحجب هو امتياز تحوّله إلى عنوان للكتاب، الأمر الذي أدّى إلى تغييب ذاك القسم الثاني ومنعه من الإعلان عن حضوره بدءا من الغلاف. لا بدّ من القول إنّ هذا القسم الثاني ليس مجرّد ملحق بالقسم الأول؛ إنّه، في اعتقادنا، كتاب مستقلّ بنفسه ليس فقط لسريان موضوعة الكتاب في أوصاله كلّها، وإنّما أيضا للرؤى والنّظرات المثيرة للتأمّل والتدبّر التي أثارها كيليطو حول مسائل الكتابة والأدب والثقافة وغيرها.

تابوت وخزانة كتب
أتى الفيلسوف ابن رشد إلى مراكش ليموت في ظروف ملتبسة³، وليُغيّب في قبر مغربي، وليطال الغياب تآليفه التي لم تكن محلّ تقدير لولا أقرباء له جاؤوا ليعيدوا جثمانه إلى قرطبة (هل حظي الفيلسوف بجنازة تليق بمقامه أم أنّ دفنه أحاط به صمت مطبق أي لامبالاة قاسية؟). مشهد الترحيل مثير ومثقل بالإيحاءات سجّله المتصوّف ابن عربي على هذه الصورة: "ولمّا جُعل التابوت الذي فيه جسده (ابن رشد) على الدابة، جُعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر" (ص 63). هل كان ممكنا أن يرحل الجسد دون أن ترافقه أعماله؟ من المعلوم أنّ كتب الفلسفة تعرّضّت في زمن ابن رشد للملاحقة والحرق، ولذلك لم يكن لها حظّ أن تثمر في بيئة متزمّتة، هذا ما حتّم أن يوضع جثمان الفيلسوف على الدابة تعادله أحمال مخطوطاته وأعماله ليس فقط لتحقيق لتوازن مطلوب، وإنّما للتعبير عن موقف رافض للنّظر العقلي؛ فالمتصوّف ابن عربي يقول في آخر مشاهدته لحادثة الترحيل "فقيّدتها عندي موعظة وتذكرة" (ص64). لماذا هي موعظة وتذكرة؟ لأنّ مآل كلّ مشتغل بالفلسفة هو شبيه بمآل ابن رشد التراجيدي: النّبذ.
لكن كتب ابن رشد هذه ستنقذ شخصه من الاضمحلال والتلاشي. ستخوض، برجوعها إلى الأندلس، غمار ترحال آخر نحو لغات أخرى عبرية ولاتينية، وستجد لها في أوروبا موطنا جديدا جديرا بها. لن يظلّ ابن رشد مجرّد شارح لأرسطو، بل سيغدو ملهما لتيار الرشدية، وأكثر من ذلك، سيصير له وجه في عدّة رسوم إيطالية.
كُتب ابن رشد أنقذت ابن رشد ولا شكّ. كان في لحظة تاريخية معرّضا للنّسيان وللموت المضاعف في أرض المغرب (ماذا لو لم يأت أحد لإرجاعه إلى البيت؟)، لكن القدر شاء أن تستمرّ الجثّة في الحديث؛ فها هي الجثّة، وها هو لسانها يواصل النطق بمختلف اللّغات. الجسد الهامد في التابوت الذي من خشب، والكتب في الخزانة التي من خشب؛ يغيب الأول في باطن الأرض ويتحلّل، وتغيب الثانية وتتحلّل في بواطن العقول والثقافات.
ماذا قال لنا نص "ترحيل ابن رشد" من هذه الزاوية؟ إنّ الكتب تنقذ أحيانا أصحابها من مصير مجهول، بل من مصير تراجيدي.

الكتاب اليتيم
في نص "أسباب السّفر" يقول كيليطو عن ابن بطوطة "في فاس، أملى كتابه، وسرد رحلاته. بعد ذلك غاب، ولم يُسمع عنه خبر" (ص 69). أنجب ابن بطوطة الكتاب ومات ! بعد خمسة وعشرين عاما من التطواف في أصقاع عديدة ونائية قادته إلى بلاد الصين، عاد إلى موطنه الجغرافي ثمّ إلى موطن الكتابة وخمد. اختفى ابن بطوطة، لكن كتابه سيرحل أبعد منه مترجما إلى عدّة لغات. غاب من أملى الكتاب وحضر الكتاب في مفارقة ملفتة كأنّ عند كلّ كتاب يُكتب، هناك موت محقّق يقع. قام ابن بطوطة برحلتين بعد رحلته الشهيرة إلى الأندلس وإلى مالي، لكنّه لم يمل عنهما شيئا. ربّما لأنّ الأولى جرت داخل مملكة الإسلام ولذلك ليست جديرة بأن تسرد. لكنّ الثانية قادته إلى إفريقيا؛ البلاد الغريبة، ومع ذلك ليس عنها أثر. الخلاصة أنّ تدوين رحلته ترافق مع غيابه وتواريه عن الأنظار هو الذي أسمى كتابه "تحفة النظار...".
الأمر الملفت، الشّبيه بحالة ابن رشد، هو أنّ الكتاب اليتيم أنقذ ابن بطوطة من النسيان ومن الموت. الإملاء كان سببا في امتلاء الدنيا بذكره. لولا هذا التدوين لضاعت أعمار من المشاهدات ، والمقابلات، والدسائس، والمخاطر.. بل ولبقيت بلدان وطقوس وبشر في أقاصي الأرض مجهولة. لقد أنقذها كتاب ابن بطوطة من أن تصير نسيا منسيا، كما أنقذ الكتاب ابن بطوطة نفسه من نفس المصير. الكتاب هو، من دون ريب، إنقاذ للأشياء التي تتلاشى وتزول.

الكتاب الغائب
ما هو الكتاب النموذجي الذي يمثّل الثقافة العربية؟ سؤال يسعى عبد الفتاح كيليطو إلى الإجابة عنه بعد وضعه لمفارقة جديرة بالانتباه وهي "أنّ كتابا لا يجسّد الثقافة التي أنتجته إلاّ حين تتبنّاه ثقافات أخرى" (ص73). والسؤال الذي نطرحه هو "ما هو الكتاب النموذجي الذي أنقذ الثقافة العربية من الإهمال، من النسيان؟".
أهي المعلّقات؟ هي نصوص قديمة مؤسّسة، "لكن لا عربي، في ظني، يرى أنّها تشكّل الكتاب" (ص74).
أهو المتنبي؟ يبدو "مالئ الدنيا وشاغل النّاس" لم يشغل "الآخر" الذي لم يتطلّع إلى مهابته ولم يسمع أشعاره الملحمية.
أهما "كليلة ودمنة"؟ رغم أنّ هذا الكتاب حظي بمترجم حجّة وهو ابن المقفع، إلاّ أنّ الترجمة العربية، في غياب وفقدان النسخة الهندية الأصلية والنسخة الفارسية المترجمة عنها تجعل "نسبه غامضا" (ص 75) وتحول بينه وبين أن يصير الكتاب النموذجي.
أهي مقامات الحريري؟ كتاب كلاسيكي مثّل "مجموع الأدب وحصيلة كلّ الكتب السابقة" (ص75)، وحظي بالترجمة إلى لغات أوروبية، غير أنّه "لم ينجح أبدا في غزو جمهور عريض" (ص75)
أهي ألف ليلة وليلة؟ هنا يتعرّض كيليطو لمفارقة مثيرة؛ بينما "الآخر" احتفى بهذا العمل واعتبره رائعة الأدب العربي، لم ير فيه العرب إطلاقا خلاصة أدبهم: "مؤلّف هجين، ذو مقام غير ثابت، ولغة غير نقية، ومضمون جامح" (ص74)، ولذلك كان مآله التهميش.
ما هو الكتاب النموذجي حسب كيليطو إذن؟ لا كتاب نموذجي عند العرب اليوم، "لا ألف ليلة وليلة، ولا المقامات، ولا الأدب الغربي" (ص76)، والسبب أنّ غياب كتاب نموذجي يتساوق مع غياب نموذج ما عاد موجودا و لم يوجد بعد.
هذا هو جواب كيليطو، أمّا جوابنا عن الكتاب الذي أنقذ الثقافة العربية من الإهمال، فنعتبر أنّ كلّ الكتب والأشعار والشخصيات الأدبية ونضيف إليها الجاحظ وأبا العلاء المعرّي ــ إذا ظللنا في هذه الحدود ــ ساهمت في إشعاع ثقافتنا وفي حضورها، بهذا القدر أو ذاك، في ذاكرة الأدب العالمي.

المقامة والصّورة
غابت مقامات الحريري عن المشهد الأدبي تماما منذ اللحظة التي "تعرّضت فيها الأنساق الأدبية لتحوّل عميق في العالم العربي نتيجة التأثير الذي مارسه الأدب الأوروبي" (ص77). صارت الكتابة اليوم تتمّ ضدّ الحريري. لكن هذه المقامات التي ستُنبذ، سيأتي عمل آخر لينقذها من النّسيان؛ إنّها منمنمات الواسطي التي زيّنتها بالصّور. منذ هذه اللحظة ستصير هذه المنمنمات مستقلّة بنفسها عن المقامات وهي التي لم يكن طموحها سوى أن تكون مرافقة وانعكاسا لها. غاب الحريري الذي هيمنت كتابته قرونا وحضر الواسطي الرسّام الذي كان فنّه محلّ حظر. لكن ألا يمكن القول إنّ الحريري قاوم الموت بعناد شديد رغم الإهمال الذي لحقه؟ ألا يُذكر خفية كلّما تطلّع المرء إلى المنمنات وهي تحتل مثلا أغلفة بعض الكتب المنشغلة بالإسلام أو بالمشرق عموما؟

الكتاب الهجين
نتحسّر اليوم على التّهميش الذي أصاب كتاب ألف ليلة وليلة في ثقافتنا القديمة والحديثة، لكنّ عبد الفتاح كيليطو، خلافا لهذا التأسّف، مبتهج لأنّ "حظّ الليالي العظيم أنّها أفلتت من الأساتذة" (ص81) أي أفلتت من التّنميط، من التّكريس، من المراقبة، من الحنق الذي يرافق عادة تدريس مؤلّف في فصل دراسي، كما نجت من سطوة المتأدّبين القدامى الذين رأوا أنّ الليالي تستغني عن علمهم أي عن شروحهم ليُسر لغتها، ولأنّها بالأساس، كما يشير كيليطو، ليست "كتابا كلاسيكيا بالقدر الذي لا يتطابق فيه، أو في نزر يسير، مع الخصائص الاستطيقية للأدب القديم" (ص82). ما الذي أنقذ ألف ليلة وليلة؟ أنطوان غالان لاشكّ، غير أنّ كيليطو يذكر عوامل أخرى؛ هؤلاء المتأدّبون الذين وجدوا بضاعتهم إزاءه كاسدة، شرعوا في بثّ إشاعة خطيرة مفادها أنّ كتاب اللّيالي مشؤوم وقاتل لمن قرأه بأكمله (الإشاعة باعتبارها أداة مراقبة ومنع). حظر علني سمح لهذا الكتاب أن يصير لانهائيا، أن لا تكون قراءته ممكنة "إلاّ في الوحدة، في موقف أشبه بالسرية" (ص82). ثمّ إنّ هناك ميزة أخرى وهي تعدّد ترجماته، واختلاف طبعاته حتى الرديئة منها، وعدد حكاياته وترتيبها، ولغتها ومضمونها. كلّ هذه الحيثيات وغيرها جعلت الليالي تفلت، ربّما، من مصير غريب.

المخطوطة العربية
هذه الوضعية قريبة شيئا ما من قدر كتاب ضون كيخوطي لثرﭬانتس. إن كانت الليالي لا مؤلّف لها أي أنّ لها مؤلّفين كثرا، فإنّ الرواية "تقدّم نفسها باعتبارها مؤلّفا كتبه عدّة "مؤلّفين" (ص91). لكن من أنقذ الرواية؟ إنّه العثور على "كراسات عتيقة مكتوبة بالعربية" لمؤرخ عربي اسمه Cide Hamet Benegeli. هذا الاسم العربي أو القريب منه هو منقذ رواية ثرﭬانتس من أن تكون مجرّد رواية عادية من روايات الفروسية. خضع هذا الاسم لتأويلات عديدة لم تحقّق نجاحا لأنّ بقاءه على صيغته الملتبسة هو سرّه الأكبر، وهو الذي أنقذ كيليطو نفسه من عمل مرهق كان التفكير فيه أو القيام به من باب العبث. لاشكّ أنّ كيليطو وهو يقرأ ضون كيخوطي أثار فضوله ذاك الاسم العربي. من المحتمل أن يكون دفعه ذلك للتنقيب عن الأصل العربي في المكتبات والوثائق وغيرها، ورغم يقينه بأنّ فكرة العثور على مخطوط تقليد أدبي قديم، لكن الرّغبة في القبض على "حقيقة خارقة" أقوى وأمضّ. لا فائدة من الإصرار على الوصول إلى كنه ذاك الاسم العربي، بقاؤه ملتبسا هو الذي أنقذ ثرﭬانتس وأنقذ الرواية وأنقذ كيليطو أيضا. هذا الأخير ارتأى أنّ العمل الجدير بالإنجاز حقّا هو "إعادة كتابة ضون كيخوطي" بمعنى "إعادة بنائه، واستعادة شكله العربي الأصيل" أي ذاك المذاق العربي الذي طمسه ثرﭬانتس. هل هذا الطموح كان سينقذ كيليطو من هوسه وشغفه أن يصير هو بدوره أحد "مؤلّفي" الرواية؟

بويطيقا التناقض
من أنقذ الجاحظ؟ كتبه المتناقضة المندرجة ضمن ما أسماه كيليطو "بويطيقا التناقض" (ص 103) أو ما قاله عنه معاصره ابن قتيبة "ويبلغ به الاقتدار إلى أن يعمل الشيء ونقيضه" (ص 110). هذه الخصيصة كانت تبدو لمعاصريه محلّ مؤاخذة لأنّه عوض أن يقدّم اليقين كان يبذر الشكّ، وعوض أن يلتزم بالتراتبية، كان يميل إلى المساواة: كلّ المعتقدات متساوية، "وكلّ شيء يصير قضية استدلال وإقناع خطابي" (ص110). وكذلك مزجه بين الجدّ والهزل ازدواجية ترسّخ لديه نسبية القيم. إذا كان ابن قتيبة يأخذ عليه أيضا "يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشرّاب النّبيذ" (ص110)، فإنّ هذه ليست حطّا وتقليلا من شأن الجاحظ، وإنّما هي، إذا قرأناها من الوجه الآخر، ميزة كبرى تظهره كاتبا مخلخلا، "مفكّكا"، دنيويا، عابثا بالمعايير المستقرّة، متكلّما بألسنة فئات اجتماعية مقصاة ومنبوذة (هذا الموضوع بسطه كيليطو في نص "الجنون الحكيم" حين عرض لكتاب النيسابوري "مجانين العقلاء" الذي منح فرصة الكلام للمجانين على غرار ما قام به مؤلّفون آخرون اهتموا بأخبار الحمقى والمغفّلين، أو بأخبار اللصوص والعميان وغيرهم).. الجاحظ ناثر عظيم محبوب، وكتبه نبيذ وقارئوه من شرّاب هذا النّبيذ.

كتاب أبي زكرياء الحميم
ماذا عن الفقيه أبي زكرياء في نص "الكتاب الغريق"؟ طلب هذا الفقيه، حين حضرته الوفاة، بإحضار كتاب من كتبه وأمر بحلّه في الماء. والدّافع بالنسبة إليه "أخاف ألاّ يفهمه أحد يأتي بعدي فيكون سببا إلى ضلاله" (ص113). كتاب مجهول. لكنّ عبد الفتاح كيليطو ينقّب بحثا عن تعليل آخر. يبدو أنّ الفقيه يملك من هذا الكتاب نسخة وحيدة، هي أشبه ما تكون بكتاب شخصي دوّن فيه، بكلّ حرية تفكير، على ما يبدو، أسئلته وهواجسه، ويخاف، إن تركه بعده، أن يُساء فهمه، بل أن يؤدّي إلى الضلال (هذه الكلمة التي تعني، من الناحية اللغوية، البعد عن الطريق المستقيم). لم يأمر الفقيه بحرقه بالنار، وإنّما بتغريقه في الماء، ليس الاختيار بريئا، أن يذوب الحبر في الماء، فهذا قتل رحيم، لطيف. علاقة الماء بالكتاب هنا، شبيهة، كما لاحظ كيليطو، بعلاقة جسد الميّت بالماء: طقس وداع واحد. كما سيختفي هو، سيختفي الكتاب الحميم الذي سيكون هو قارئه الوحيد وعليه أن يحمله معه إلى القبر. هل كان التّغريق ضروريا؟ أبعد من أن يكون بقاء الكتاب يحتمل إحداث سوء فهم، فإنّ اختفاءه يصير على وجه اللزوم لإنقاذ الكتب الأخرى. هنا يقدّم كيليطو إضاءة ثمينة: "لإنقاذ نمط من الكتب يجب تغريق النمط الآخر" (ص 114). استقرّ رأي أبي زكرياء، في لحظة احتضاره وهي لحظة حاسمة لا مجال فيها للتردّد، أن يضحّي بكتابه الذي يراه ضارا من أجل كتبه التي يراها نافعة؛ لأنّ الإبقاء على مؤلّف مزعج يعني "أنّ المؤلّفات الأخرى تفقد براءتها" (ص 117) أي ستُقرأ، وتُنتقد على ضوء ذاك الكتاب الملتبس. هذا ما حدث للمعرّي، يقول كيليطو، ما إن كتب اللزوميات التي "رأى فيها البعض زيغا، حتى بدأت إعادة تأويل كتاباته الأخرى" (ص117). الكتب تنقذ بعضها بعضا أو بعبارة كيليطو القوية "كلّ كتاب يهدف إلى إبادة كتاب آخر، أو كتب أخرى" (ص114).


هوامش:
1ـ الجاحظ، "رسالة في مدح الكتاب والحثّ على جمعه"، تحقيق إبراهيم السامرائي، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد 8، 1961، ص 331 ـ 342
2 ـ "إنّ نص عبد الفتاح كيليطو "ترحيل ابن رشد" ريادي من حيث إنّه دشّن موجة جديدة من موجات أو مراحل قراءات ابن رشد". محمد حافظ يعقوب، الدّفن المتعذّر ــ ابن عربي وابن رشد، ونحن !!! ، المؤسسة السورية لدراسات وأبحاث الرأي العام. (موقع على الأنترنت).
3 ـ "وزعموا فيما رووا أنّه ( أبو العباس السبتي) قال: اللهمّ سلّط عليه (ابن رشد) الموت أو كلام هذا معناه، فضربه (ابن رشد) وجع في تلك الليلة، فما أصبح حتى خرجت روحه" محمد حافظ يعقوب، الدّفن المتعذّر...
* عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، دار توبقال 1995.



(الملحق الثقافي لجريدة "العلم"، الخميس 17 أكتوبر 2024)
أعلى