السي حاميد اليوسفي - المستر فساد وبيض الناموس...

اللوحة 1
اشترى عادل خبزتين كبيرتين من دقيق القمح بدرهمين للواحدة. بدا الخبز جميلا ولذيذا. بعدها لعب الفأر في رأسه، وقال لنفسه:
ـ يا عادل لا يُعقل أن يكون هذا الخبز من دقيق القمح الخالص، وبهذا الحجم، ولا يساوي غير درهمين، والمخابز العصرية تبيع أصغر منه بأربعة دراهم؟
بعد أسبوع أسرّ له صديق في المقهى، بأن بعض الذين يعجنون الخبز، ويبيعونه في الدكاكين بثمن أقل، على أنه قمح خالص، يخلطونه بدقيق الخبز اليابس. لم يكذب القدماء عندما قالوا (عند رخصو تْخلّي نَصّو)2.
اللوحة 2
كلما خرج عادل في الصباح الباكر، إلا والتقى بعلال عون السلطة فوق دراجته النارية، وهو يقوم بجولة عمل في الحي، قبل تناول وجبة الفطور. ليبحث عن (قهيوة) الصباح، لا بد أن يراقب، ويسأل هل وضع أحد السكان مواد البناء أمام منزله، أو أدخلها إليه، وهو لا يتوفر على رخصة. إذا علم رئيسه بالأمر قبله سيجره من أذنه، ويشبع فيه شتما، وقد يُهدده بالفصل من عمله.
اللوحة 3
الفقيه الذي كنت تنتظر بركته، ويبيعك اللبن كل يوم جمعة أمام المسجد، ولأكثر من سنة، خدعك بلحيته المصبوغة بالحناء. عندما غاب، وسألت عنه في الجوار، أخبروك همسا بأن الشرطة اعتقلته ضمن شبكة تُتاجر في اللبن والسمن المغشوشين.
اللوحة 4
تذكر عادل حادثا مضحكا. سمع البعض يحكي عن موظف كبير في العاصمة، ارتدى يوم الأحد بدلته الرياضية، وركب سيارته الخاصة، واتجه إلى الشاطئ. عبَر حوالي عشرة كيلومترات في الطريق السيّار، ثم خرج، وانحرف الى اليمين، فوقع في كمين لموظفين من الدرك. فحص أحدهما أوراق السيارة، وقال دون أن ينظر في وجه السائق، بأنه تجاوز السرعة المسموح بها في المنعرج، وخيره بين تسجيل المخالفة، أو أداء ثمن الفطور الذي حدده في مائة درهم.
فتح الرجل المحفظة، وناولهما المبلغ المطلوب، وأخذ أوراق السارة. وبدل أن يتابع السير إلى الشاطئ، عاد أدراجه إلى البيت. ارتدى زيه العسكري بنياشينه التي توحي بأنه (كولونيل ماجور)، وعاد إلى الموقع المعلوم. أوقف السيارة، وبعد فترة قصيرة، قدم نحوه أحدهما. وبمجرد ما لمح رمز الدرجة التي تظهر على الصدر وفوق الكتف، حتى وقف بشكل مستقيم، ورفع يده اليمنى إلى الجبين، وقدّم التحية بصوت مسموع. ولما رآه زميله ادركه مسرعا، وفعل مثله. وعندما تفحّصا وجه الرجل، ارتعدت فرائصهما، وبدآ يتمتمان بكلام غير مفهوم. فطلب منهما ليتنازل عمّا تعرّض له في الصباح أن يؤديا له ثمن الغذاء. سألاه عن المبلغ، فقال بأنه بسيط يخضع للتراتبية، ولا يتجاوز ألفي درهم.
اللوحة 5
إبراهيم جاره موظف أقلُّ شأنا. خمّن عادل بأن راتبه الشهري لا يتعدى أربعة آلاف درهم على أكثر تقدير، لأنه غادر المدرسة قبل أن يُتم تعليمه الإعدادي. تعجب كيف يكتري شقة بألفي درهم، ويصرف على أسرة من أربعة أفراد، وله ولد وبنت يدرسان بالتعليم الخاص، ويخسر أكثر من أربعين درهما في اليوم على السجائر. ويوم السبت يلتقيه عند عثمان بائع الفواكه. عندما يسأل عادل عن ثمن نصف كيلو من العنب أو الموز، ويشكو غلاء الأسعار، يستغرب كيف يقتنى ابراهيم سلة فواكه بمئتي درهم.
اللوحة 6
يُروى يا عادل والعهدة على الرواة أن مهاجرا مغربيا، عاد إلى البلد، وقرر أن يستقر فيه، ويستثمر مبلغا كبيرا من المال، شقاء خمسين عاما من العمل المضني. فكر في بناء مشروع لصناعة المواد الغذائية. سيشتري الخضروات والفواكه من الفلاحين، ويعيد تصبيرها، ويزود بها السوق الداخلية، ويُشغل عشرات الأيدي العاملة. يأكل ويؤكّل غيره.. سار كل شيء على ما يرام. اشترى الأرض، بنى المصنع، اقتنى الآلات. لم يعد ينقصه غير الترخيص النهائي ليبدأ العمل. سنتان وهو يجري من إدارة إلى إدارة، حتى أصابه مرض السكري. قيل له في الأخير عليك أن تبحث عن مستر فساد، إذا أردت أن تجد دواء لدائك.
اللوحة 7
في الليل يود عادل أن يستريح من وجع النهار. يفتح الهاتف ليستمتع ببعض اشرطة الفيديو التي يبعث بها أصدقاؤه.
عندما ضغط على أول فيديو رأى ممثلا كبيرا يتحدث من مقر إحدى الجمعيات الحقوقية. قال الرجل بامتعاض كلما كثرت منظمات حماية المال العام ارتفعت نسبة سرقته. وروى بحرقة كيف يتم شراء المسلسلات والأفلام والبرامج، ولمن يُقدم الدعم قبل عرض المنتوج؟
هذا المسلسل يساوي اربعمائة مليون سنتيم، لا بد أن تأخذ مئتين أو ثلاث، وتتنازل عن الباقي لمستر فساد.
تريد أن تصعد لمنصة، وتغني وتتقاضى مبلغا سمينا، لا بد أن تقدم نصفه لمستر فساد.
ترغب في أن تُغلق المعمل، وتُعلن الإفلاس، وتشرد مئات العمال، مستر فساد جاهز ليقدم لك الفتوى، فيسلّك كما تُسلّ الشعرة من العجين.
اللوحة 8
أين ما وليت وجهك يا عادل، تجد مستر فساد. حذار أن ينقل إليك العدوى. لا بأس أن تتعرف على بعض خيوطه وألاعيبه، بشرط الّا تقع في حباله.
يا عادل ستُجنّ، وأنت تنظر إلى هذه السارات الفارهة تمر أمامك، وفي المساء تبحث عن ثمنها في موقع الشيخ جوجل، فتصاب بالدوار. والله لن تعرف من أين يأتي الناس بكل هذا المال.. يا عادل إن مستر فساد شبح، يرتدي أقنعة مختلفة. يصعد من أسفل إلى أعلى، وينزل من أعلى إلى أسفل، ويُحلق في اليمين وبين الوسط واليسار. يسكن الحقول والمصانع والإدارات والأكواخ والشقق والقصور.
تريد أن تستثمر في الفلاحة أو الصناعة، يخرج إليك مستر فساد، ويفرض عليك شروطه. تخصص لك الدولة دعما، يسرقه منك مستر فساد، ويقدمه لمن يعرف من أين تُؤكل الكتف. لديك أرض تُسيل لعاب المنعشين العقاريين، يأتي مستر فساد، وينزعها منك بالقوة، ويبيعها رغما عن أنفك.
مستر فساد يتجول في كل مكان، حتى داخل البيت الذي يأويك من البرد والشتاء. وقد يتسرب إلى الطعام الموضوع أمامك على المائدة..
اللوحة 9
اسمع يا عادل!
ـ هل سبق أن عضّك الناموس؟
ـ ومن لم يعضّه الناموس؟ الناموس موجود في كل مكان.
الناموس والفساد يا عادل وجهان لعملة واحدة، كلاهما موجود في كل مكان، وكلاهما لا يبيض إلا إذا امتصّ دم الإنسان.
المعجم:
1ـ الناموس: لفظة من العامية المغربية تُطلق على البعوض.
2ـ مثل شعبي يعني: عند رخصه تخسر نصفه.
مراكش 17 أكتوبر 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...