مصطفى الحاج حسين - في ضياء البدر...

في الصّفّ الرّابع الابتدائي، شدّد علينا أستاذنا، (المعرّاوي) الخناق، بحجّة أن مستوانا التّعليمي هابط، فأخذ يحاسبنا، ويعاقبنا، ويضربنا، ضرباً مبرحاً، على تقصيرنا، لعدم حفظنا لدروسنا، أو لإهمالنا كتابة وظائفنا، الكثيرة، التي لا ترحم.

وخطرت له.. فكرة أن يراقبنا، خارج المدرسة.. فكلّف ثلاثة، من زملائنا الكسالى، بمراقبتنا، فهم أشدّ منّا طولاً، في الحارات والسّوق، وطلب منهم، أن يكتبوا له، اسم كلْ من يرونه يلعب.. وفي أيّ مكان، تتمّ مشاهدته.. ولا عذر، أو حجْة لأي واحد فينا، إن خالفنا تعليماته، إلّا إن كان حافظاً لدروسه، وكاتباً لوظائفه.

والزّملاء لم يقصروا، انصبت الأسماء
، عند أستاذنا (المعرّاوي)، وانهالت علينا عقوباته القاسية.. عنده عصا، رهيبة، فظيعة، قاسية، ملساء، لاسعة، حامية، فيها نار.. وكان يقول لنا:

- هذه العصا، نزلت عليّ من وسط جهنّم الحمراء.

كان معظمنا، نحن الطّلاب.. نمضي حصّة الدّرس، ونحن نبكي، ونتألّم، ونشهق، ونمسح دموعنا، و(مخاطنا)،
ونبلع غصّاتنا.. ونحاول أن نعيد، حشر أقدامنـا المتورّمة، بأحذيتنا.. لكنّا كنّا نجدها، قد فاقت الأحذية مقاساً، بعد عقوبة (الفلقة).. وكذلك لم تكن، أيادينا تسلم من الضْرب، والعقوبات.

تحوّلت المدينة إلى سجن، فمنعنا من مغادرة بيوتنا، و سرى نظام صارم يحظر التّجول فيها.

وبعد أن ملّلنا من هذا الحصار، اتّفقنا أنا وصديقي (راغب)، أن نخرج من بيتنا، إلى الحارة.. ونحفظ، ونلعب في الأماكن الدّاخلية، من حارتنا، فهي بعيدة عن العيون، وخاصة عيون الجواسيس، الذّين كلّفوا بمراقبتنا، فهم على أيّ حال، ليسوا من سكان حارتنا.. وكان هدفنا الأوّل، حفظ النّشيد الذي كلّفنا أستاذنا (المعرّاوي) بحفظه، ولقد هدّدنا:

- الويل.. كلّ الويل، لمن يأتي غداً، إلى المدرسة، ولم يحفظ النّشيد.

كان مطّلع الأنشودة، على ما أذكر:

- (في ضياء البدر.. يحلو سمري).

نسيتها، لم أعد أحفظها.. مع أنّني كنت أظنّ، أن من المحال أن أنساها، وسوف ترافقني إلى القبر.. لأنشدها أمام الملائكة (أنكر - ونكير)، وقد أدخل الجنّة إن أسمعتهم الأنشودة، بطلاقة.

تدرّبنا عليها أنا و (راغب)، حتّى تمكّنا من حفظها، عن ظهر قلب..(راغب) كان يستمع إليّ، وأنا بالمثل أستمع إليه، وحين تأكّدنا من الحفظ.. انتقلنا لنلعب بعض الشّيء، فذهبنا قرب سور المدرسة.. فالمدرسة قريبة، من حارتنا جدْاً.. لا يفصلها عنّا إلّا مسافة قصيرة.

لعبنا، قرب سور المدرسة، وتصارعنا
فوق العشب الأخضر، إلى أن تعرّقنا،
ورحنا نلهث بقوة، فقد هدّنا التّعب، فاستلقينا فوق العشب، وأخذنا نستريح، وكانت قلوبنا تنبض بشدّة وضراوة.. وفجأة.. وقف فوق رأسينا
(عبد الحميد)، الفتى الشّقي، الذي لا يحبّه، أحد من أولاد حارتنا، فهو شرس وغادر، يكبرنا بسنة،و يتقدّمنا في المدرسة، بصفّ واحد.. نحن في الصّفّ الرّابع، وهو في الصّفّ الخامس.. عدواني، كان يضربنا في كل مرّة، ويأخذ منّا ما بأيدينا، من طعام، وفاكهة وحلوى، وحتّى النّقود.. وكنت كثيراً ما أشكوه لأبيه، خاصّة عندما ألتقيه بصحبة أبي، فقد كانا والدانا أصدقاء، وأبناء حارة واحدة، منذ زمن أجدادنا..
أقول له:

- يا عمّي.. انظر إلى ابنك،عبد الحميد
لقد ضربني، واعتدى عليْ.

فيضحك والده.. ويقول لي أمام أبي:

- قسماً بالله.. اليوم (سأفعل) بأمّه.

ويعاود الضّحك، ويشاركه أبي ضحكته.. فأسعد أنا، وأظنّه سينال عقوبة، شديدة، وقاسية.

وقف فوق رأسينا، أنا و (راغب)، وقال، وابتسامته الشّرّيرة مرتسمة فوق شفتيه:

- ماذا تفعلان هنا؟!.. لقد رأيتكما بالجرم المشهود.. والله لأفضحكم.

وثبنا أنا و (راغب)، من استراحتنا، فوق العشب.. وقلنا له، ونحن في فزع عظيم:

- ماذا تقول؟!.. أيّ جرم تقصد؟!.

- ماذا كنتما تفعلان يا أشقياء؟!.. لقد رأيت كلّ شيء.. فلا داع للنكران والكذب.

صرخت مقهوراً:

- ماذا رأيت يا كاذب؟!.. نحن لم نكن نفعل شيئاً.. حفظنا درسنا، ثم أخذنا نلعب.. وحين تعبنا، استلقينا فوق العشب، نستريح.. فهل في هذا، ما يعيب، حتى تهدّدنا بالفضيحة؟!.

وأكمل رفيقي (راغب).. وقد كان، وجهه شديد الشّحوب:

- أنت ذمّتك واسعة، لأنّك لا تخاف الله.. عليك اللعنة.. اذهب وبلّط البحر.. كلّ النّاس يعرفونك.. ويعرفون كم أنت كاذب، وبلا ضمير.

وأخذ (عبد الحميد)، يكرّر تهديداته لنا، بكلّ وقاحة.. ولمّا هممنا أنا و (راغب) بالبطش به.. تركنا وهرب.

في اليوم الثّاني، صفّق لنا رفاقنا في الصّفّ، وسرّ منّي، ومن (راغب) أستاذنا (المعرّاوي)، لأنّنا حفظنا الأنشودة.. ونجونا من عقوبة الأستاذ، الذي كان قد هدّد بها.

وفي الفرصة الأخيرة لنا، نحن الطّلاب.. وبينما كنّا نلعب في الباحة.. لمحني السّيّء الصّيت (عبد الحميد)، وأقتربُ منّي، قائلاً:

- آه ذكّرتني.. جهّز نفسك للفضيحة.

ماذا ينوي أن يفعل؟!.. هذا المعتوه، القذر؟!.. هكذا، كنت أسأل نفسي، حينما دخلنا الصّفّ، وانتهت فرصة الاستراحة

حين دخل علينا، أستاذنا (المعرّاوي)،
وقفنا استعداداً، كما هي العادة، لمّا يدخل علينا الأستاذ، أو مدير مدرستنا.

لكنَّني لمحت عند باب الصّفّ، (عبد الحميد)، كان يقف.. فخفق قلبي.. وبعد أن أمرنا الأستاذ بالجلوس، على مقاعدنا وجّه نظره صوب (راغب).. ثمّ صوبي، وقال، بصوت فيه غضب وحزم:

- تعال يا سيّد (راغب).. وتفضّل أنت يا (مصطفى) أيضاً معه، وأشار لي بيده.. هيّا اتبعاني.. وتوجّه نحو باب الصّفّ، الذي يقف عنده، السّافل (عبد الحميد).. تحرّكنا من فوق مقاعدنا، أنا ورفيقي (راغب)، وكلّ منّا كان منقبض الصّدر.. يرتعش السّاقين.. وخرجنا من بوابة الصّفّ، نمشي خلف أستاذنا، و(عبد الحميد).. في الممرّ الطّويل، دون أن ينبس أحد منا بالكلام..

وصعدنا الدّرج المؤدي إلى الإدارة.. وعند باب الإدارة المفتوح، لمحت المدير (الأعور)، خلف طاولته، وكان بعض أساتذة مدرستنا، يأخذون مجالسهم، فوق مقاعدهم الوثيرة.. التفت إلينا أستاذنا (المعرّاوي)، وأمرنا أنا و (راغب) بالوقوف خارج الإدارة، عند الباب.. وطلب من (عبد الحميد)، أن يتبعه، ويدخل معه، لعند المدير، داخل مكتب الإدارة، التي ترعب أيّ طالب يدخلها، حتّى إن كان، من أشدّ المتفوّقين.

خطر لي أن أهرب من المدرسة، وأذهب لعند والد (عبد الحميد)، وأشكو له ابنه، الوقح، وعديم الضّميرِ.. ولكن كيف أهرب؟؟!!.. والآن يكون الآذن (أبو لطفي)، قد قفل بوابة المدرسة، ولا سبيل للخروج، وللدخول منها، إن لم يأت (أبو لطفي)،ويفتح الباب بمفتاحه
، الذي يرقد في جيبه، الواسع والعميق.

كان وجه (راغب) شديد الاصفرار، ولا أدري إن كان وجهي، كذلك مثل وجهه، تبادلنا نظرات الخوف والعجز
والاضطراب.. ولم نجرؤ على تبادل الكلام، أو المشورة، فيما سنقول ونفعل.

بعد دقائق ليست بالقليلة، خرج أستاذنا (المعرّاوي) من الإدارة، ومعه (عبد الحميد)، الذي صرت أتمنى له الموت.. ولكن خرج أيضاً برفقتهم، الأستاذ (التّادفي)..أستاذنا السّابق الذي درسنا في الصّفّ الأوّل، من السّنة الدّراسيّة، يستلم، ويدرّس الصّفّ الأوّل الابتدائي، وكأنّه مختص في هذا المجال.. نظر نحونا أنا و (راغب).. بعد أن ابتعد عنا أستاذنا (المعرّاوي)، و (عبد الحميد) الكلب، وراحا يهبطان الدّرج.. وتركانا في عهدة الأستاذ (التّادفي).. والذي أمرنا، بقوله:

- اتبعاني.

دخلنا إلى صفٍّ، يقع بجانب الإدارة،
كان مختصّاً بالأنشطة المدرسيّة، ولهذا كان غير مشغولاً، بهذا الوقت.

أغلق الأستاذ (التّادفي) الصّفّ علينا، وطلب منّا ان نجلس على أحد المقاعد، الموزّعة بشكل مرتب كباقي الصّفوف.

وبعد أن جلسنا، والخوف والشّحوب بارزان على وجهينا، أنا و (راغب).. تفرّس الأستاذ بوجهينا مليَّاً، ثمّ حوّل نظره عن وجهي، إلى وجه رفيقي (راغب).. و بعد أن (تمخّط) بمحرمة، أخرجها من جيبه، اقترب منّا أكثر، وقال:

- استمعا إليّ، أنا من درّستكم في الصّفّ الأوّل.. وأنتما تعرفاني جيداً، أهم شيء عندي، الصّدق والصّراحة.. لذلك أريد أن أعرف وبالتّفصيل المملّ، ماذا كان بينكما؟.. وماذا كنتما تفعلان، بالقرب من سور المدرسة؟!.

وانبعثَ صوتنا أنا و (راغب)، في آن واحد، بسرعة، وانفعال:

- وحقّ (المصحف) يا أستاذ..

قاطعنا الأستاذ، بحركة منه، حيث وضع سبّابته، الغليظة والضخمة، على شفته العلّيا، فغطّت وقسّمت شاربه إلى نصفين:

- تكلّما بالدّور، وبدون عجلة.. أريد معرفة كل شيء، وبدقّة. ثمّ بادرنا بسؤاله، موجهاً أصبعه إلى (راغب):

- قبل أن ندخل إلى موضوعنا.. هل أنت تدخّن؟.

هتف (راغب) من خلال دموعه، المطّلة من عينيه:

- لا.. أستاذ.. والله.. أنا لا أدخّن أبداّ.

واستدار الأستاذ نحوي، وسألني.. وأنت، هل تدخن؟.

وحتّى أكسب ثقته، أردت أن أكون صادقاً معه، فقلت:

- نعم أستاذ.. أدخّن في بعض الأحيان.

أسعده جوابي، وأراد أن يشجّعني، لكي أستمر بالاعتراف.

- جميل منك أن تصدّقني القول.. فأنا لا يخفى عنّي أمر.. ولكن قل لي.. من أين تحصل على السّجائر؟.

- أستاذ أنا أشتري السّجائر من عند السّمان (أبو فارس)، من مصروفي، فهو يبيع سجائر (فرط)، إلى الأولاد.

وبعد لحظة صمت، تابعت الاعتراف:

- وفي بعض الأحيان، أقوم بسرقة السّجائِرِ، من عند أبي، أو من علبة تبغ عمّي (عمر).

تحوَّل وجه الأستاذ، إلى القسوة، ثمّ توجه بالسّؤال، إلى (راغب):

- قل لي، وبصدق.. ماذا كنتما تفعلان عند سور المدرسة؟.

ردّ (راغب)، بعد أن وقف على قدميه:

- أستاذ.. قسماً بالله، كنا أنا (مصطفى)، نلعب، بعد أن حفظنا، النّشيد.. وإن أردت أن نسمعك إيّاها، فنحن جاهزان.

امتعض وجه الأستاذ، ووضع يديه في جيبا سترته، البنّية اللون، وصرخ
بوجهي:

- تكلّم أنت يا حيوان.. قلت لكم أنا أحبّ الصّراحة والصّدق.. قل لي ماذا كنتما تفعلان؟.

غار صوتي في أعماقي، جفّ فمي،
ما عدت قادراً على ابتلاع لعابي.. نظرات الأستاذ الثاقبة، زادت من رعبي، يا الله!!.. انقذنا من هذا التّحقيق.. ماذا أقول؟.. وكيف سيصدّقنا الأستاذ؟!.. هو يطالبنا بقول الصّدق والحقيقة.. وعنده الصّدق والحقيقة، أن نقول ونعترف بشيء لم نفعله.. هكذا، هكذا.. يفهم الصّدق والحقيقة!!.. فماذا عليّ أن أقول؟!.

رحت أبكي بمرارة، وأنظر إلى وجهِ الأستاذ المتجعّد، بتوسلٍ واسترحام شديدين، وقلت بصوت كلّه رجاء وتضرع:

- أستاذ.. صدّقنا.. نحن لا نكذب عليك، بل نقول لك الحقيقة والصّراحة.. (عبد الحميد) يكذب.. كلّ أولاد المدرسة يعرفونه كاذب.. وحرامي.. وغشّاش، وغادر.. أرجوك اسأل عنه.

ومن خلال شهقات (راغب) ودموعه،
أراد أن يكمل عنّي الكلام:

- أستاذ.. (عبد الحميد) يعادينا، لأنّنا لا نلعب معه.. أقسم بالله نحن لا نكذب عليك.

وهاج الأستاذ.. وغضب.. وضرب بيده على المقعد، فجفلنا، وتعالى عندنا النحيب، صرخ فينا وعيناه تقدحان شرراً:

- قلت لكم قولا الصّدق.. أنتما تكذبان، عيناكما تفضحان كذبكما.. أنا أستطيع كشف الكاذب من عينيه، ومن صوته، بل من رائحته.. فالكاذب يتميّز برائحة كريهة.. وأنتما تفوح منكما الرّائحة الكريهة.. تحدْثا.. اعترفا، قبل أن أرميكم في (جبِّ الفأر)، أنتما هل تعرفان ماذا يوجد في (جبّ الفأر)؟.. هل رأيتماه؟.. إنّه موجود هنا.. في قبو المدرسة المظلم.. سأرميكما هناك وأقفل عليكما الباب.. أو قولا لي الحقيقة.. وأنا أوعدكما بأنّني سأعفو عنكما، في حال كنتما صادقين.

كان الأستاذ يقول لنا هذا الكلام، وجدتني وبلا إرادة منّي، أتبوّل على نفسي.. وسال (البول) على بلاط الصّف، وانتبه الأستاذ وصاح، بعد أن صفعني بقوّة، بينما لمحت (راغب)، رغم انهمار دموعه، يبتسم:

- ماذا فعلت يا حيوان.. تبوّلتَ في البنطلون؟!.. اللعنة عليك يا عديم الذّوق.

ثمّ طلب منّي أن أخرج من الصّف، وأقف في الخارج، قرب الباب، وأنتظر.

احتفظ (براغب)عنده، داخل الصّفّ..
وأنا وقفت عند بابه المغلق.. كنت أبكي وأرتجفُ، يقطر بولاً، وكانتا عينايّ تبحثان بين التّلاميذ، عن أخي الأكبر (سامي)، فهو في الصّفّ السّادس، وصفّه هنا، في هذا الطّابق.. لكنّه في الدّاخل.. في نهاية الممرّ الطّويل.. تمنّيت أن أراه، وأن ألجأ إليه، فهو دائماً ينقذني من المواقف، والمشاكل الكبيرة
..التي تعرّضتُ لها، وكدّت أصرخُ بأعلى صوتي:

- (سامي.. سامي) يا أخي تعال.. أرجوك.. أنا بحاجة لك.. أنا بريء والله.. لكنّ الأستاذ لا يصدقني، مهما أقسمت له، لا يصدّق، ولا يقتنع.. قال إنّه سيرميني في (جبّ) الفئران.. وأنا أخاف يا أخي.. أخاف.. أرجوك تعال، لا تتركني لوحدّي.

ولكنَّني جبنت وخفت أن أصرخ، ويخرج لي الأستاذ من الصّفّ المغلق.. أو يهرع لعندي المدير (الأعور) من الإدارة، الملاصقة لهذا الصّفّ.

كان التّلاميذ يمرّون بالقرب منّي، ويضحكون من البنطون، المبلّل بالبول، ومن شكلي المضحك، ومن دموعي السّائلة فوق خدّي.. وطال انتظاري، وأنا أتمنّى الهرب.. لكنّ باب المدرسة مقفل.. ودعوت الله كثيراً، توسّلت، وتضرّعت.. وفتح باب الصّفّ، وخرج منه (راغب) باكياً.. ووقف قربي، ينتظر مثلي عند الباب، وناداني الأستاذ.. وطلب منّي الدّخول.. وحين قفل عليّ الباب، كدت أموت من شدّةِ الخوف.. أمرني أن أجلس على مقعد آخر، غير الذي سبقه، وجرى من تحته البول.. قال:

- هل تريد أن أتّصل بالشّرطة؟.

- أستاذ...

وهمس.. والسّيجارة تعجّ بين أصابع يده:

- لن أعاقبك لو أنك اعترفت لي.. لا تخف.. قل لي الصّدق.. وسأتركك الآن تذهب إلى بيتكم.

وفكّرت.. وخطر لي أن أقول له، ما يريد سماعه.. فهو لا يصدّقنا، إن قلنا الحقيقة!!.. يريد منّا أن نكذب، حتّى يصدّق كذبتنا.

- سأعترف.. وأقول لك الحقيقة يا أستاذ.. نعم، (عبد الحميد) يقول الصّدق.

هدأت ثورته.. وتغيّر صوته.. واقترب منّي أكثر.. ومجّ نفساً عميقاً، من سيجارته، وقال:

- ماذا كنت تفعل أنت و(راغب)؟.

أجبت وأنا غير مقتنع.. المهم أن يتركني، أذهب إلى البيت.. عند جدّتي وأمّي:

- كنّا نفعل كما قال لكم، (عبد الحميد).

- أفصح.. ماذا كنتما تفعلان؟.

- كنّا.. كنّا، نفعل.....

وصرخ بقوة أفزعتني، وكان يهمّ بصفعي:

- كنتما ماذا يا حيوان؟!.. أكمل.. لا تتوقف عن الاعتراف.

دعكت عيناي، مسحت دموعي، شهقت بعمق، تمنيت أن يأتي أحد من أهلي وينقذني، جدّتي، أمّي، أبي، أو عمّي (عمر) ، أو ليت عمّتي (حميدة) تهرع إلى هنا وتنقذني، من هذا الأستاذ الذي لا يرحم، ولا يصدّق إلّا ما يقوله (عبد الحميد)، ذاك الوغد السّاقط، والكريه، والمنبوذ.

سأنتقم منه، أنا وأخي (سامي)، و (غزال) ابن عمْي (سعيد).. سنقتله، والله العظيم، وسننتقم منه، لن يفلت منّا أبداً:

- أستاذ كنّا، أنا و (راغب)، وبعد أن حفظنا النّشيد، ولعبنا، وتصارعنا، وارتمينا على العشب.. كنّا....

ماذا أقول يا ربي؟؟..لا أستطيع، أن
أعترف بشيء لم أفعله... هذا اعتراف خطير، أنا أعرف معناه.. لست صغيراً، سيقتلني أبي، ويذبحني عمّي (عمر).. وتغضب عليّ جدّتي، وستبكي منه أمّي، وتلومني جدّاً عليه عمّتي.. رباه أنا في مأزق خطير.

وجاءني صوت الأستاذ، المرّعب:

- أنا أقول لك، ماذا كنتما تفعلان، أنت و (راغب)..كنتما تمارسان فعل (اللواطة) أليس كذلك يا حيوان؟.

صمّتُ، اطرقت برأسي إلى الأرض،
ما عدت قادراً على مواجهة الأستاذ، ولا أحد يطرق علينا الباب، ويدخل.. المدير سلم أمرنا إلى هذا الأستاذ.. حتّى أستاذنا في الصّفّ (المعرّاوي)، تركنا معه، وعاد إلى صفه.. ليس بوسعي سوى أن أصمت، واعترف على جرم لم أرتكبه.. يا الله.. يا ربي.. يا (محمّد).

وتابع الأستاذ تحقيقه معي:

- والآن قل لي.. من كان منكما الفاعل؟. ومن هو المفعول به؟.

يا الله!!.. هذا الأمر لم أفكّر به، بل لم يخطر على بالي أبداً!!!.. بماذا أجيب هذا الواقف أمامي، كالوحش؟!.. إن قلت له (راغب) كان يفعل معي، كارثة وفضيحة، ستلاحقني طوال عمري.. أنا أفهم خطورة هذا.. ما عدت صغيراً، أعرف، وأفهم، معنى كل ما يحدث ويدور.. وأتخيّل العواقب.. وإن قلت له، أنا من كان يفعل (براغب).. سأجلب له العار، والويل، وعلى رأسي، ورأس أبي.. بل وعائلتي، وكلّ أقربائي.. وابتهلت إلى الله، أن ينقذني مّما أنا فيه.. ولكن بسرعة حسمتُ الأمر.. فإن كان لا بدَّ، من هذا الاعتراف.. فيجب أن أختار، ما هو الأقلّ سوءاً.. ولذلك هرعت لأقول:

- أنا كنت الفاعل.. أنا من كنت أفعل (براغب).

وهنا نهض الأستاذ من فوق مقعده، رفع بنطلونه للأعلى، واقترب منّي، وانهال عليّ بيديه، بعنف شديد، يضربني، كيفا اتّفق.. بيديه وقدميه.. يصفعني، ويركلني، ويشدّني من شعري، ويصرخ بي:

- وسخ.. قذر.. شاذّ.. منحطّ.. قليل التّربية، سافل، وابن حرام.

وتحرّك.. وفتح الباب.. وأدخل (راغب) الذي ما زال يرتعش، ويبكي.

باغته.. بالضّرب المبرح، على وجهه،
ورأسه، وسائر أنحاء جسمه.. وهو يزعقُ بانفعال:

- ظننتك في البداية، ولد محترم.. وإذ بك، إنسان وضيع.. ساقط، كلب، خنزير، لا شرف عندك.

وكان (راغب) يتلوّى، ويتألّم، ويبكي، ويتوسّل، ويصيح، ويترجّى.. وهو لا يعرف، ما هي تهمته الآن.. أو بما أخبرت أنا الأستاذ.

أصوات التّّلاميذ تتناهى إلينا، من خارج الصّفّ المغلق.. وأنا و (راغب) على الأرض مرتميان.. وباكيان،
ومتألّمان.

ما عدّت أستطيع النّظر إلى (راغب).. بدأت أحتقر نفسي.. ولكنّي كنت قد أجبرت، على الاعتراف لم أكن أقصد قوله.. الخوف هو من دفع بي، لهذا الاعتراف يا (راغب) .. يا أفضل وأجمل الأصدقاء عندي.

نظر إلينا الأستاذ باحتقار وقرف، وقال، بعد أن توجّه صوب الباب المغلق:

- انتظراني.. سأعود.. وإيّاكما أن تتحرّكا من هذا المكان.. ثمّ غادرنا وخرج.. مغلقاً علينا باب الصّفّ.

وسألني (راغب)، بعد أن صرنا لوحدنا، في الصّفّ:

- ماذا قلت للأستاذ؟.

في البداية.. استمرّيت في صمتي، وتهرّبي من النّظر إليه.. لكنّه عاد يسألني، فأجبته، وأنا خجل منه:

- سامحني يا (راغب).

لحظات عصيبة مرّت علينا، ونحن في أشدّ أنواع التّعاسة، والخوف والقلق.. إلى أن فتح علينا الباب.. ودخل مدير مدرستنا الأعور، وأثنان من رجال الشْرطة.

كانت صدمة عظيمة علينا، لم نكن نتوقع استدعاء الشّرطة.

تقدّم المدير الأعور منّا.. كانت عيناه الّلتان لا تلتقيان، تطفحان بالاحتقار.. بصق علينا، وقال:

- تفضّلا.. واذهبا مع الشّرطة.. يا قليليّ التّربية والأخلاق.. لعنة الله عليكما.. وعلى أهاليكما، لقد فضحتما سمعة المدرسة.

والتمّ علينا الأساتذة، والتّلاميذ.. في ممرات المدرسة، وعند الدّرج الذي هبطناه.. وعند بابها.. وكان كلّما سأل أحدهم عن أمرنا، يقول المدير، وأستاذنا (المعرّاوي)، والأستاذ (التّادفي)، الذي تولّى التّحقيق معنا:

- لواطة..

أو كانوا يؤشّرون له بأياديهم، إشارات بذيئة، تعبّر عن حركة، ترسم، لهم عمليّة جنسيّة فاضحة، ووقحة.

ولمّا أمرنا من الشّرطة، بالصّعود إلى سيّارتهم.. لمحت عن بعد أخي (سامي)، ينظر، ويحدّق.. كأنّه غير مصدّق عينيه.. وسارت بنا سيّارة الشّرطة، إلى المخفر، الكائن جانب الجامع الكبير.

مدير المخفر، وهو ضابط كبير، لا أعرف ما هي رتبته، وإنّما كانت النّجوم، تصطفّ، وتلمع على كتفيه العريضين، حدّق في ذلّنا وانكسارنا، ودمعنا الذي لم ينقطع، أنا و (راغب)
.. وقال متوعّداً:

- والله لألعن أباكما.. يا (عرصات).

ووصل عمّي (عمر)، إلى المخفر لاهثاً .. وتبعه أبي، غاضبا ، ممتقع الوجه.. ودخل والد (راغب)، محمرّ الوجه والعينين، وبصحبته كان أخوه الهائج، عمّ (راغب).. وتجمّع داخل، وخارج المخفر، العديد من الأقرباء، والجيران.. حتّى كان هناك بعض النْسوة.. ومن المؤكْد كان أيضاً، وسط هذا الجمّع، عند درج المخفر، العريض، أخي (سامي)، وابن عمّي (غزال).

بعد خلوة مع رئيس المخفر، لأبي ووالد (راغب).. وحديث طويل دار بينهم، وصراخ، وزعيق، وانفعالات، وتهجمات، وتهديدات، وتوعّد.

جاء لعندي أبي، ليهجم عليّ كالمجنون.. لكن الشّرطة وقفوا في طريقه، ومنعوه من الوصول إليّ.. واستطاع والد (راغب) أن يركل بقدمه خاصرة ابنه، فصاح (راغب) متوجّعاً، قبل أن تصل الشّرطة، لعند والده، الذي كان قد فقد رشده.

ونادوا الشّرطة علينا، ليكتبوا الضبط،
جلس رئيس المخفر، وراء طاولته..
وقعد الكاتب، وبيده دفتراً وقلماً، وسألني رئيس المخفر، بعد أن ناوله، عمّ (راغب) سيجارة:

- هل كنت أنت الفاعل؟.. وهل فعل معك (راغب) كذلك الأمر؟.. أم أنت فقط؟!.. من قام بالفعل، المنافي للحشمة، مع (راغب)؟.

وبدون أذن، انفجر بالبكاء (راغب).. وصاح:

- لم يفعل معي شيئاً.. إنّه يكذب.

التفتوا إليّ.. أبي، وأبو (راغب)، وعمّ
(راغب)، وعمّي (عمر)، ورئيس المخفر، والشّرطي الذي كان يكتب.. وكلّ من كان واقفاً.. وعاد رئيس المخفر يسألني:

- هل فعلت شيئاً، مع (راغب)؟.

صحت بأعلى صوتي، من خلال دموعي المتدفّقة:

- لا.. لم أفعل شيئاً.. مع (راغب).. لقد أجبرني الأستاذ على قول هذا.. ضغط عليّ.. وهدّدني.

ضمّني أبي إلى حضنه.. وقال:

- لا تخف يا ابني.. قل لنا الحقيقة.

ومع كلّ هذا، أصرّ رئيس المخفر، أن يأخذنا ، أنا و (راغب)، لعند الطّبيب
الشّرعي، في (المستوصف)، القريب من المخفر، للكشف علينا من قبل الطّبيب ، وإحضار تقرير (طبّي) منه، موقع ومدموغ بختمه، ليفرج عنّا.

مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...