أحمد بوزفور - "القصة شكل من أشكال الشعر: شكله السردي"

1 ـ
أنا زاهدٌ في النّشر فعلًا، ليس خارج المغرب فقط، بل داخل المغرب أيضًا. وأغلب ما نشرته داخل المغرب حتى الآن كان بطلب من أصدقائي وبدعم منهم. لا يهمّني كثيرًا أن يعرفني الناس كاتبًا، أو أن تنتشر كتبي داخل المغرب أو خارجه. وأنا أحسد كثيرًا أصحاب النّصوص المجهولة. النّصوص الجميلة الرائعة التي نجدها مثلًا في الأدب الشعبيّ: حكايات وأغانيَ وأمثالًا، حكايات ألف ليلة، جلجامش، إلخ. ليس للجمال صاحب. الجمال في الأدب كالجمال في الطبيعة: حرٌّ ومتاحٌ للجميع. ولا ضرورة لتسويقه. إذا كان جميلًا وممتعًا، سيصل إليه العشّاق حتمًا يومًا ما.
2 ـ
زهدي ليس خيارًا في الكتابة أكثر مما هو مزاج. لست كاتبًا محترفًا. أنا في الحقيقة قارئ. مدمن قراءة للنّصوص الجميلة (من كل الأزمنة والأمكنة والثّقافات). وبين الحين والحين، أحسّ بميلٍ إلى كتابة قصة، فأكتبها وأستمتع بمراجعتها وتنقيحها أو بهدمها وإعادة بنائها، وأقرأ ما كتبت على أصدقائي، فإذا أعجبهم وطلبوه للنّشرأدفعه لهم وإلاّ بقي في أدراجي.نقطة. انتهى..
3 ـ
للكتابة في اعتقادي معنى أساسي هو الحرية. حريّة التّعبير عن أيّ شيء وعن كل شيء. وحريّة التّعبير بأيّ شكل وبكلّ شكل. وبهذا المعنى فموقع الكاتب في اعتقادي هو أن يكون ضدّ أي سلطة، وضد كلّ السُّلط. مهمة الكاتب أن يخلق الجديد، ولن يخلقه إذا خضع لسلطة أيًّا كانت. ومهمّته أن يكون الجديدُ الذي يخلقه جميلًا، ولن يكون جميلًا إذا راعى النّماذج والرّقابة أيًّا كانت، والرّقابة الذاتيّة خصوصًا.
4 ـ
ما القصّة بالنسبة لي؟ ليتني أعرف. إنّني أبحث عن معناها في كلّ نصّ أكتبه، وأحاول أن أقبض عليها، ولكنّها تتحوّل باستمرار، وتخلق لنفسها معاني جديدة باستمرار. هل هي عالم من الإمكانات والاحتمالات؟ بالتأكيد هي كذلك. ولكن ما هي الإمكانات والاحتمالات؟ مجاهيل.
5 ـ
لماذا أكتب؟ لأنّي أحبّ الكتابة، وأستمتع بممارستها.
ما جدوى الكتابة؟ أنا لا أبحث عن الجدوى. الكتابة عندي نوع من الموسيقى. ما جدوى الموسيقى؟ ما جدوى الجمال؟ ما جدوى الجدول؟ دعنا نُضِفْ إلى هذا العالم المليء بالجدوى شيئًا آخر جميلًا.. ولا جدوى منه.
قديمًا كنت حين أُسأل هذا السؤال أبحث عن علة أجيب بها.. "فأفنيت علاّتي فكيف أقولُ".

الشرّ؟ الموت؟ الألم؟ نعم، أحسّ بذلك. هل أثّرت عليّ الحقبةُ المؤلمة لنهاية الستينيّات؟ نعم، كثيرًا. أحسّ أنّ نهاية الستينيّات هي بداية الانهيار الذي نعاني منه الآن جميعًا، وعلى جميع الأصعدة. والكتابة شديدة الحساسيّة بالجوّ العام، ولا بد أن تعكسه. ليس بالضرورة بكلمات سافرة. قد تفعل ذلك بمناخ النص. بالأثر الشجيّ الذي تخلّفه في نفس القارئ. لكن هذا كلّه ليس إلا سطح الكتابة. الطبقات الأعمق للكتابة أشد قتامة. إنها المنطقة التي لا ينتمي الكاتب فيها إلى شعب أو عرق او طبقة، بل ينتمي إلى الإنسان. ويعاني فيها من الشّرط الوجوديّ للإنسان. المنطقة التي يكون الإنسان فيها هو المجهول. هو الخوف. يكون (الإنسان فيها هو الموت) كما يقول الشعراء. الفرحون يا صديقي لا يكتبون.
7 ـ
الشّعر هو دم الكتابة. هو جوهرها. بدأَت الكتابةُ، حين بدأت، شعرًا. وكلما رجعت إليه أخلصت لهويّتها. بالنّسبة لي، أغلب قراءاتي في الشّعر. وقد مارستُ طوال حياتي المهنيّة تذويقه لطلّابي. وقد أحسستُ دائمًا أن القصّة شكل من أشكال الشعر: شكله السرديّ. والقصّة بدونه تفقد ثلاثة على الأقل من عناصرها الأساسية: تفقد عمقها: تلك المساحة المجهولة التي يمارس القارئ فيها تأويله؛ وتفقد إيجازها (دقّتها ورشاقتها)؛ ثم تفقد أخيرًا جماليات التّعبير والإيقاع فيها. وما هي القصّة بدون هذه العناصر؟ حكاية.
8 ـ
موقع المعرفة من كتابتي؟ لم أفكر في ذلك من قبل. لكن يبدو لي وأنا أتأمّل في سؤالكم الآن أنّ المعرفة قد يكون لها موقعان فيما أكتب:
موقع قبليّ: يتعلق بالمعرفة التي قد أكتسبها قبل الكتابة، سواء كانت في علوم الطّبيعة والإنسان أو في التّجارب التي أعيشها في الحياة، أو أقرأها في النّصوص الإبداعية. وأنا ولوع بالرّبط بين هذه المجالات كلّها، حتى إنّي لأجد -أو أخلق- شبهًا بين السرد والفيزياء أحيانًا، ولا أرى فرقًا كبيرًا بين تعقيدات نظام الكون بمجرّاته الكبرى كما يتحدث عنها ستيفن هوكينغ مثلًا في كتبه الفيزيائيّة، وبين تعقيدات النّفس البشريّة كما يتحدث عنها دوستويفسكي في رواياته.
كيف أستفيد من هذه المعرفة في الكتابة؟ أنا لا أكتسب هذه المعرفة من أجل الكتابة. أكتسبها من أجل أن أكون. ثم تأتي الكتابة بعد ذلك كثمرة طبيعيّة. لكن يخيّل لي أن علوم الطّبيعة تعطينا إحساسًا بجماليّات الوضوح والدقّة والنّظام والشكل. وأن علوم الإنسان تعطينا إحساسًا بجماليات السّعة والعمق والتّعقيد والغموض. ولا بد أن هذه الأحاسيس تؤثّر على كتاباتنا وتسهم في بنائها بهذا الشّكل أو بذاك.
موقع بعديّ: يتعلق بالمعرفة التي قد تعطيها نصوصي للقارئ. وأنا لا أستطيع بالطّبع الحديث عن مدى هذه المعرفة أو صداها. ولكنني آمل أن تعطي نصوصي لقارئها معرفةً بنفسه أولًا، حين يجد مثلًا في هذه القصّة أو تلك شيئًا أحسَّ به يومًا ولم يوله اهتمامًا، فوجده هنا بارزًا ومؤثّرًا ويستحقّ الاهتمام. وآمل أن تعطيه معرفة بالعلاقة الخفيّة بين الأطراف المتباعدة، بين الأزمنة مثلًا أو بين المواقف أو بين المشاعر، وآمل أخيرًا أن تمتّعه، فالمتعة أجمل المعارف وأرقاها، وألطفها وأبقاها أثرًا في النّفس.
9 ـ
السّندباد شخصيتي البديلة؟ ربّما، وربما كنت أنا شخصيّته البديلة. كنت معجبًا به منذ قرأت ألف ليلة في صغري. أنا أيضًا أحببت أن أقوم برحلات، وأن أحكي حكايات. حكايات غريبة يشطُّ فيها الخيال وتُطوّح فيها الأقدارُ بالمصائر. كان السندباد بطلي دائمًا ومثالي الأعلى. لم أقم برحلات. وحكاياتي كئيبة وغامضة ومبتورة، ولكنني مجرّد صورة من ملايين الصّور من المثال الأعلى.
لِم لا يظهر السّندباد كثيرًا في قصصي إذن؟ ولِم ظهر في قصة (الهنديّ) بالذّات؟ لا أدري. ربما لأنّه ينتمي إلى المنطقة السريّة في نفسي. المنطقة التي أضِنُّ بها على النّاس، وأستأثر بالحياة فيها وحدي. وقد أفلت مني دون أن أشعر في (الهنديّ). ربما جذبه العنوان. أليس أصل ألف ليلة هنديًّا؟
10 ـ
ليست لي أيّة فلسفة. لا في الشّكل الفنيّ ولا في غيره. ولا أفكّر في شكل القصة قبل كتابتها. إنها تُكوّن شكلها وهي تتخلّق. لذلك ربما لا تتّخذ قصصي شكلًا واحدًا. من أين تأتي أشكالي إذن ما دمت لا أنطلق من مقياس ذهبيّ محدّد وقبليّ؟ لا أدري. لا بد أنّ في لاشعور كلّ كاتب معملًا صغيرًا للأشكال. معملًا يستقي موادّه الخامّ من كل النّصوص التي قرأها، ومن كل اللّوحات والموسيقات والأفلام والعروض الفنيّة التي سبق له أن تذوّقها. والكاتب يصنع، في هذا المعمل، ومن هذه المواد، أشكاله الجديدة.
11 ـ
أعتقد أن دور القارئ في عملية الكتابة يختلف باختلاف الكُتَّاب. فيما يخصّني، هناك قارئ غريب يقف على سنّ قلمي وأنا أكتب. لا أعرفه، لكنّني أعرف أنّه ذكيّ جدًّا، أذكى منيّ على الأقل. وأنا أحسّ به وأكتب له وأخشاه. من هو هذا القارئ؟ هل هو (ضميري الفنيّ)؟ لا بد أنّ هناك ضميرًا فنيًّا مثل ذاك الذي يقولون عنه (الضّمير المهنيّ) أو (الضّمير الأخلاقيّ). هل هو القارئ الذي أحلم أن يكونه قُرّائي؟ لا أدري. لكنّني أحسّ بحضوره، وأنا أكتب، إحساسًا قلقًا يشبه إحساس العاشق بالعذول. أفكّر أحيانًا بأنّ نصوصي قد تصبح، بدون الحضور الضاغط لهذا القارئ، أشد عنفًا وتمردًّا وغرابة… وأفكر أحيانًا أخرى أنها ستصبح، على العكس، أكثر هدوءًا ووداعةً وانضباطًا للقواعد الفنيّة والذوق العام.
هذا القارئ الغريب هو سراطي وقَدَري. هو طائري المعلّق في عنقي. وهو ملاكي الحارس أيضًا.
12 ـ
الموسيقى والسّينما هما جناحاي اللّذان أطير بهما حين تضيق أحوالي. كانت السّينما تساعدني على تحمّل البؤس الذي عشته في طفولتي. تسافر بي إلى أصقاع العالم المختلفة، وتعرّفني على النّاس وتجاربهم وأحلامهم وخيباتهم ومصائرهم، وتُربّي عينيّ على تذوق جمال الطبيعة والوجوه والأشكال. وأقول (كانت)، لأنّني لم أعد الآن أشاهد السّينما للأسف. لم تعد في مدننا قاعات سينمائيّة محترمة وكافية، ولا أحب مشاهدة الأفلام على الشّاشة الصّغيرة. ذوقي السينمائيّ تربّى في القاعات. أما الموسيقى فكانت، ولا تزال، الهواء الذي أتنفّسه. أحسّ وأنا أسمعها (الكلاسيكيّة خصوصًا) بالعالم منظّمًا وصافيًا وجميلًا، وأحسّني فيه وأنا أرِقُّ وأَشِفُّ، مع استمرار العزف وتطوّره وتحوّله، حتى لأحسّني، في الأخير، عدمًا أبيضَ محضًا.
هل أستفيد من السّينما أو من الموسيقى أو من الفنون الأخرى في قصصي؟ أعتقد أن لها تأثيرًا بالطّبع. لكنّني لا أعرف إلى أي مدى. لا بدّ أنها تفيد في الإحساس بالشّكل على الأقل، وفي الدقّة والتّرتيب… وربما في الوقع أيضًا. القصّة موسيقى في شعوري، نوع خاصٌّ من الموسيقى. وأنا أنصح الذين يبحثون في القصة عن المعنى بالاستماع إلى الموسيقى.
أعلى