د. خالد شاكر حسين - كزار حنتوش... وإستثنائية الأصالة الأدبية!

لكل شاعر علامة فارقة . . وعلامة الشاعر (كزار حنتوش) الفارقة تكمن في (أصالته المهيبة). يقول (أدورد يانغ): " وُلِدنا بأصالة فكيف يحدث أننا نموت نسخاً مكررة؟"
مات (كزار حنتوش), لكنه لم يكن نسخةً مكررةً عن أحد, لم يكن (قرداً يتقن فن المحاكاة) على حد تعبير (روثفن)! لم يكن (خانعاً ثقافياً) في نصوصه حتى يخشى ما سيقوله النقاد عن نتاجه. كان ببساطة شديدة أصيلاً, متجرداً من جميع الحذلقات المعرفية التي طالما فتكت ولا زالت تفتك بنصوص مُدعيّ الحالة الشعرية الآن.
لكن الأصالة الأدبية مكعبٌ تصعب الاحاطة عادةً بجميع أبعاده, قد يستولي بعض الشعراء على بعد أو بعدين, لكن القليل منهم فحسب ينجح في الأستيلاء على جميع أبعاد ذلك المكعب الغامض والعصي.(كزار حنتوش) كان حقاً أحد هؤلاء الذين أستولوا على جميع أبعاد هذا المكعب. ولنرى كيف:
1.البعد المهني
يرى (كزار حنتوش) أن: (الشاعر كاللقلق/ يختار المأذنة العالية/ كي يبني عشاً). كان (مساحاً) تخرج عام 1972 من معهد المساحة الهندسية في بغداد, إعتاد على أن يذرع الاراضي والفيافي ويمسح أبعادها لوزارة الزراعة والأصلاح الزراعي في مدينة (الديوانية). فليس من الغريب أن نجد النتاج الأدبي لهذا الشاعر إستكشافاً ومسحاً لأبعاد الوجود الأنساني المتشعب والمنهك. فلَقلَق الشاعر يختار أعلى المآذن, وأطولها ليبني عليها عُشَه, حتى تتسنى له رؤيةٌ بانورامية شاملة بأفق رَحِب (فيمسح) ببصره جميع زوايا المدن الغامضة. وأحياناً أخرى يتقافز (كزار حنتوش) كالجُندب بين الأفخاخ حاملاً (خرائط) المجهول: (الشاعر كالجندب/ يقفز بين الأفخاخ/ كي يرسم خارطةً/ للمجهول).


2. البعد المكاني
ليس بوسع النص الشعري الأبداعي الا أن يكون وليدأ للمكان. فهذا المكان هو المشغل الخام للشاعر يصقل فيه عدسات الرؤية الشعرية الثاقبة للأشياء, تلك العدسات التي تمكن الذات الشاعرة من إعادة صياغة الهم الذاتي والشخصي وأفراغه في قوالب الهموم المكانية للواقع المُعاش يومياً.
خصوبة النص الشعري لدى (كزار حنتوش) تنجم الى حدٍ كبير من خصوبة وثراء الذاكرة المكانية للشاعر وهي تزخر بالصور الشعبية, والعبارات العامية, ناهيك عن التناصات التأريخية والدينية والأسطورية التي أغدقها المكان بأفراط على ذاكرة ولغة الشاعر.
أسهمت ثلاثة أماكن تحديداً في صقل وبلورة الهم الأبداعي الأصيل للشاعر, وهي: الديوانية, والدغارة, والشطرة. ثلاثة أماكن شكلت حاضنةً جغرافية لنصوص (كزار حنتوش) كما ساهمت في (دوزنت) حواس الشاعر وضبط ذبذباتها في سياق أصيل من الاصوات والالوان التي تصخب بها تلك الأماكن. فهو ما أنفك يتتبع في نصوصه اسرار النشأة الأولى لكينونة الشاعر الغامضة في مدينة (الدغارة) وهي تنسبك في أكثر صياغات الوجود الفردي تطرفاً:
(أنشأه الله على عجل من سبخ (الدغارة)/ ورماه الى وطنٍ من شمسٍ وكحولٍ, ومصائب)
ويواصل الشاعر رصده الحذق والمخاتل لتأريخ الذاكرة وتحولاتها العسيرة في أنتقاله من مدينة (الدغارة) الى (الديوانية):
(جئنا للديوانية/ باللوريات الخشبية/ مكبوسين كتمرٍ في الأخصاص . . ./ نتأمل شرطَتها/ تَخفر شباناً في السيارات . . .)
ويتخذ حضور الذاكرة المكانية لدى كزار حنتوش أحياناً مشهداً جمعياً حافلاً بتفاصيل الحياة اليومية لأبناء مدينة (الديوانية) فيترك في نصوصه طيفاً عريضا ودافئاً من مرئيات ربما تكون مألوفة في سياقات المشهد اليومي لكنها تتحول في نصوص الشاعر الى زجاج من الكرستال نُبصر في زواياه ألف رؤيا ورؤيا لوجودنا اليومي المبدد:
(حين تهب رياح الذكرى/ وتنزع أغصاني مني/ حين يدق الليل على القلب/ اذ تلتم الديوانية في مقهى (الوحدة)/ اذ يهرع عمال الطين/ دون وقار . . . لمنازلهم/ محتضنين الخبز الأسمر)
ويرتجف بعد ذلك قلب الشاعر راقصاً في مقاهي وليالي مدينة (الشطرة), ففي هذه المدينة أرتسمت أولى الخطوط العريضة لمناخات الشاعر الرومانسية:
( الشطرة . .!/ دمع نجومٍ فوق السهرانين/ بسمة شيخٍ في السبعين/ كفٌّ تهب اللؤلؤ/ للقلب المخدوع/ فتشبُّ الحسره/ بين مقاهيها, ولياليها . . وفيافيها)
3. البعد الرومانسي
يقترن الرومانس لدى كزار حنتوش بنوع من (التماهي) الأصيل بين كينونة الشاعر المصلوبة أبداً على قارعة الطريق وبين كينونة (رسمية), أبنة الشطرة, منقذته وصاحبة دربه:
(لولا فيروز/ وبغداد/ ورسمية/ لأقترنت ضفدعة بي/ وألقى العنز عليّ الفضلات/ ولكنت مجرد عربةٍ/ دون وقود/ أو عجلات.)
إن القارئ لنصوص كزار حنتوش التي كتبها عن (رسمية) يستشعر حتماً رغبة متأصلة وراسخة لدى الشاعر في المكوث بأصرار غير بعيد عن عوالم ومساحات الوجود اليومي (لرسمية محيبس):
(قوديني كخروفٍ ضال/ نحو ربيعك/ خلّيني أرعى بين بساتينك/ أنت الطين الحريّ/ وأنا الماء/ فلنمتزج الآن/ قيمر – معدان -)
وما يلبث الشاعر أن يُفَرِد جناحيه أحياناً لينفلت على مضض من الحضور المكتظ والكثيف لحبيبته في زوايا وجوده الصاخب, حتى يقع فريسة سهلة لدائرة الغياب السافر وتوقعات الموت الوشيك:
( لا رسمية هذا اليوم/ لا صحو غداً/ اليوم غناء تحت التوت/ وغداً تابوت)
4. البعد الأنساني
تكتسب فاعلية الرمز الأنساني في نصوص (كزار حنتوش) وجوداً شرعياً فضفاضاً يتكاتف فيه الهَم الفردي الأصيل مع الهَم الأنساني الرَحب. أمتزجت الذات الشعرية المتفردة في منتج (كزار حنتوش) الشعري مع الذات الجمعية للأنسانية برمتها.
فما عاد بوسع القارئ تجاهل مأساوية الوجود الفردي في (الديوانية) أزاء مأساوية الوجود الفردي في (فلسطين) في قصيدة (منزل الفلسطينيين في بيروت), أو تجاهل ذلك التقابل المدان بين مظاهر الفقر والعوز الخانق في جنوب العراق أزاء الترف والبَطَر (الرأسمالي) والأمبريالي وهو يضرب أطنابه في قصيدتي (قصائد لا يحبها الرأسماليون) و (الأمبريالية . . . لن تملك الشمس), أو تجاهل بوليسية الحكومة في مدينة (الديوانية) وشَرَطتها وهي (تخفر شباناً في السيارات . . .) أزاء شَبَق الحرب الأمريكية وعبثية (جورج بوش) وهو يُطعِم (مولنار), ذلك البحار الأمريكي الشاب, ماكنة الحرب النَهِمة في قصيدة (هواجس البحار مولنار), أو تجاهل يوميات الوجود المصيري المحفوف بالموت للجندي العراقي في قصيدة (القرنة = الجبهة) أزاء التغني بموسيقى الكاتيوشا التي تعزفها المقاومة اللبنانية في قصيدة (كل عيد والكاتيوشا بخير).
5. البعد المصيري
يكتنف الموت نصوص (كزار حنتوش), كأي جنوبيٍ أخر, بصفته مصيراً أنسانيا قابلاً للحوار والأخذ والرد لا بل وقابل للتوقع. الموت في جنوب العراق مصير مأساوي يرتسم على الدوام في صورةٍ واحدةٍ تستولي على المخيلة الجمعية لأبناء هذا الجنوب: صورة تابوت مشدود الى سقف سيارة تنهب الطريق متجهةً صوب مدينة (النجف الأشرف) . . صوب صحراء مقبرة (الغَري) . .قريباً من ضريح الأمام (علي). حواريات الشاعر مع مَلَك الموت غاية في الأصالة والطرافة:
(بعد خمسين . ./ وقد لاحت لي شاهدة قبري/ وبعد أن عجنتني, وخبزتني,/ . . ./ أنصرف الآن . . . والا لأفعلن/ وألم عليك عفاريت الأرض/ لن أستبدل حياتي/ بمعلفٍ من ذهب/ ولا قبري البسيط قرب (علي)/ بتاج محل)
وكصوفي شجاع لا يخشى معرفة الحقيقة وتراجيديا المصير المحتوم, يُبصر (كزار حنتوش) نهايته الوشيكة وتنجرف مخيلته في توثيق أرتجالي لدوامةٍ كئيبةٍ ومحزنةٍ من صور متسلسلة للموت في بقاع الجنوب, الموت من الأسى . . بل من الأسف أن الدنيا (لم تكن الدنيا):
( ذاتَ ضحىً/ قد أحمَلُ للنجف الأشرف/ لا أملك الا مئزري الأبيض/ وبقايا من اسفٍ/ كون الدنيا/ لم تكن الدنيا)
6. البعد التجايلي
كثيراً ما يذيل (كزار حنتوش) قصائده بسنة كتابتها. هذه اللازمة تتكرر كثيراً لديه, رغبته في وضع تأريخ أسفل نصوصه المنشورة, رغبته في الصاق نصوصه الشعرية بسياق تأريخي قاطع ومحدد. هذه اللازمة التوثيقية لديه تكشف عن اصرار الشاعر على تذكير القارئ بالسياق الزمني والتجايلي لنصوصه. لم يتنكر الشاعر لجيله, لا على المستوى الزمني, ولا على مستوى الشخوص. كان كزار حنتوش يرسم ملامح شعراء جيله بعنفوان آخاذ وكوميديا مريرة في قصيدته النثرية (الصعاليك):
(بنطلوناتهم مجعدة, كرقبة قصاب سمين, وجيوبهم مكوية./ أحذيتهم زوارق, وقمصانهم أشرعة . . . هم عصافير مصانع الجعة, . . . لو كان شارع الرشيد يدري ما المحاورة أشتكى من وقع خطاهم الطروب. لو كان بار أتحاد الأدباء يقوم على ساقين لأنطلقَ مثل (كارل لويس) بعيداً عن أشعارهم, وشجارهم, ونقارهم . . .)
لا يمكن لعيني كزار حنتوش الجاحضتين والحذقتين أن تُخطئا في أصطياد التقاسيم الفارقة والأصيلة لمجايليه من الشعراء الصعاليك. فها هي (مرآة حسب الشيخ جعفر), وهذا (عصفور سامي مهدي), وذلك (بيت يوسف الصائغ), وهنا (موت رشدي العامل) . . جميعهم . . وضعهم (كزار حنتوش) بحنوٍ ودفئ بين دفتي ديوانه (أسعد انسانٍ في العالم)!
هذا هو مكعب الأصالة الأدبية الذي أستلوت عليه نصوص الشاعر بمهارة وشمولية فائقتين. كلما قرأت نصاً (لكزار حنتوش) تذكرت عبارة (مونتين) التي يفتتح بها مجموع نصوصه: (انها نفسي أصورها)!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى