هل أنتهت القضية؟
كلا لن تنتهى بل هى البداية فقط ، فعندما أعجز عن نشر كل ما كتبه محمد مندور عن الشعر عن طريق ناشرين مختلفين ، حكوميين أم خاصين ، فالامر لا يعنى الفشل فى نشر ما كتبه مؤسس النقد المصرى الحديث ، بل يعنى ما هو أعمق ، هى قضية إجتماعية سياسية تعبر عن سيادة الاتجاهات الرجعية وإختراق التخلف الادبى والمهنى لاجهزة الثقافة والنشر ، لذلك فالقضية لن تصبح العجز عن النشر بل أصبحت جزءا من الصراع الاجتماعى الدائر ضد التخلف والرجعية وسيطرة البيروقراطية البليدة ، لذلك فلم تصبح قضية عن أبن يقدر دور والدة تقديرا كبيرا ، بل عن وريث لتراث يدافع عنه لحساب المستقبل .
لذلك فبكرة الاتى أت .
جزء من حول الشعر للدكتور مندور الجزء السابع "كتاب الشعر المصرى بعد شوقىالجزء الثالث"
كتب مندور
"تخطيط عام لحقل الشعر المعاصر
إلى هنا وأشعر أنه لا سبيل إلى استقصاء جميع شعراء الوجدان الذين أعتبرهم فروعا أو امتداد لجماعة أبوللو، تلك الجماعة التي ازدهر بفضلها شعر الوجدان في أدبنا العربي المعاصر ازدهارا منقطع النظير مع تعدد الألوان واختلاف النغمات تبعا لاختلاف شخصيات هؤلاء الشعراء وأمزجتهم وبيئاتهم الثقافية مما يصح معه أن نقرر أن هذه الجماعة هي التي ظهرت في أشعارها شخصيات الشعراء ظهورا واضحا مكنتنا من أن نرسم أحيانا لبعض هؤلاء الشعراء صورا روحية وفنية متكاملة. وكم كنت أود أن أضيف إلى هذه الصور غيرها مما لا يتسع له وقتي المحدود، ولذلك أرى أن أستخدم ما بقي من وقت ضيق في تخطيط عام لحقل الشعر المعاصر مع تسجيل بعض القسمات التي تتميز بها التيارات الموجودة الآن في هذا الحقل.
وليست التيارات الأدبية الموجودة في مصر الآن في مصر حديثة كلها، بل منها كما رأينا ما يرجع إلى بدء نهضتنا الحديثة في أواخر القرن الماضي. ولقد استطاعت هذه التيارات أن تصمد أمام المفاهيم الجديدة للحياة والفكر والأدب لأنها تستند إلى أسس باقية تمليها الأفكار والمشاعر وضرورات الحياة.
فالتيار التقليدي قد كان في يوم من الأيام مهوى الأفئدة ومبعث الفخار وذلك لأنه نتج عن حركة بعث قوية ردت إلى العالم العربي روحه وحياته بعد أن كان قد ذبل وجف واستحال إلى هياكل وزخارف في العصرين العثماني والمملوكي، وجاء الأدب - الذي هو صورة للحياة - هو الآخر هو الآخر زخارف لفظية لا حياة فيها ولا فكر ولا إحساس ولا مضمون. وقد تم هذا البعث بنوع خاص بفضل وصول اختراع إنساني ضخم إلى مصر والبلاد العربية ونعني به فن الطباعة، فمن المؤكد أن مطبعة بولاق التي أنشئت في النصف الأول من القرن الماضي قد كانت من أهم عوامل البعث العربي بفضل ما أخذت تنشره تباعا من التراث العربي القديم وتضعه في متناول ذوي الموهبة من رواد النهضة الأدبية الحديثة. ويكفي أن ننظر في مختارات رائد البعث الشعري في مصر، وبالتالي في العالم العربي كله محمود سامي البارودي لندرك إلى أي مدى كانت روائع الشعر العربي القديم قد أصبحت بفضل الطباعة غذاء ووسيلة لبعث الشعر العربي بديباجته المشرقة ومضمونه الإنساني الحي المتجاوب مع قضايا عصره الكبرى ومع خوالج النفس البشرية القوية، بعد أن كان الشعر قد انهار إلى مستوى الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية لندرة القدوة الفعالة والمثل الموحي، وكأنه قد غلف بأثواب الانحطاط وحرم من مذكيات الحياة.
وجاءت الثورة العرابية فعززت الشعور بالوطنية المصرية والقومية العربية تجابه بهما غطرسة الأتراك والجراكسة، بل واحتقارهم للمصريين والعرب، مما أدى إلى تقوية تيار البعث العربي واحتضان ذلك التيار وإقبال الشعب عليه ذلك الإقبال الذي شجع المواهب وأغرى بالإنتاج فكان لنا أولئك العمالقة من شعراء البعث والتقليد أمثال البارودي وشوقي وحافظ.
وبالرغم من أن زيادة اتصالنا بالآداب الأوربية مباشرة أو عن طريق الترجمة، قد أدى إلى ظهور تيار فكري أدبي جديد، يدعو إلى الخروج من التقليد إلى الابتداع، وإلى تدعيم الأدب العربي الحديث باتجاهات الفكر والأدب والفن الغربية، وبخاصة فيما يتعلق بشعر الوجدان وضرورة تعبير الشاعر أو الأديب عن نفسه تعبيرا صادقا في صور فنية تماشي أصول الأدب والفن العالميين - نقول أنه بالرغم من ظهور هذه الدعوة، فإن التيار التقليدي قد ظل حيا لأنه يرمز إلى قيم قومية كبيرة، فهو يمثل ثقافتنا التقليدية قد ظل حيا لأنه يرمز إلى قيم قومية كبيرة، فهو يمثل ثقافتنا التقليدية الراسخة في ضمائرنا، وهو يدافع دفاعا حارا عن لغتنا الفصحى ونقاء تلك اللغة وصحتها. فاللغة الفصحى كما هو معلوم هي أوثق روابط القومية العربية، لأنها وسيلة التفاهم الكامل بين الشعوب العربية المختلفة التي تطورت لهجاتها المحلية تطورا يمكن أحيانا أن يعوق التفاهم المتبادل وبالتالي القومية العربية ذاتها.
هذه هي الأسباب أو بعض الأسباب الهامة التي تفسر استمرار التيار التقليدي العربي الخالص حتى بعد اختفاء عمالقته الأوائل من أمثال البارودي وحافظ وشوقي والصيرفي ومصطفى صادق الرافعي.
ولكن بالرغم من استمرار التيار التقليدي - لم يكن بد من أن يحدث تطور نهضتنا العامة وتوثق صلاتنا بحضارة الغرب وثقافاته - تيارات فكرية وأدبية جديدة كان أسبقها إلى الوجود تيار الوجدان الذاتي، وذلك لأن النهضة أخذت تشعر الفرد بوجوده وبقيمته الذاتية، وبضرورة التعبير عن نفسه مما أدى إلى ظهور تيار الشعر الوجداني عند الجيل الذي ظهر في أوائل هذا القرن مثل الأساتذة عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني الذين نادوا بأن الشعر وجدان وليس صحافة تسجل الأحداث العامة وتعلق عليها. وكان ظهور هذا التيار في نفس الوقت الذي ظهر فيه تيار مماثل عند شعراء المهاجر العربية في أمريكا حتى لنرى الأستاذين عباس العقاد وميخائيل نعيمة يتبادلان التحية والتأييد والتضامن في "كتاب الغربال" للأستاذ نعيمة ومقدمة الكتاب الحارة التي كتبها الأستاذ عباس العقاد، وإن يكن من الواجب أن نلاحظ أن هذا التيار التجديدي لم تتفق عليه وعلى حدوده ومبادئه كلمة الداعيين إليه كما اتفقت من قبل كلمة رواد البعث فلاقوا نجاحا شعبيا كبيرا.
وربما كان الاستعمار وسيطرته، والاستبداد الداخلي وجبروته من الأسباب الأساسية في عدم اتفاق الجيل الجديد على مذهب فكري أو أدبي محدد، وذلك لأن هذه العوامل السياسية الخانقة قد ولدت في نفوس الشعراء والأدباء الحساسة نزعة عنيفة للحرية المطلقة وحبالها بل تعصبا، فكل أديب أو شاعر لا يقبل أن يخضع لأي مذهب، أو أن يضحي بأي ذرة من حريته عن وعي وقبول. وإذا كان قد ظهر بالرغم من ذلك تجانس كبير في الاتجاه الفكري والأدبي، فإن هذا التجانس لم يعد الاتجاه العام الذي حددت مجراه تضاريس الحياة أكثر مما حددته الإرادة الواعية والثقافة الهادفة، ولا أدل على ذلك من أن نلاحظ مدى التفاوت الكبير بين نغمات شعراء الوجدان الذين كثر عددهم وغزر إنتاجهم بفضل حركة "أبوللو" الخالدة بريادة المرحوم الدكتور أحمد زكي أبو شادي ذي النفس الخيرة والنزعة المثالية الرفيعة، فالشابي روح ثائرة وإبراهيم ناجي قلب ظامئ إلى الحب متلهف عليه، وعلي محمود طه طائر غرد مبتهج نهم إلى متع الحياة الحسية، والصيرفي قلق متأمل، وهكذا تفاوتت نغماتهم تبعا لتفاوت أمزجتهم وألوان روحهم وفلسفة حياتهم، وإن اتفقوا جميعا فيما نسميه شعر الوجدان الذاتي أو الشعر الرومانسي، دون أن يتفقوا على مذهب محدد أو يرسموا دروبا لهذا المذهب.
وخطونا في تطورنا الناهض خطوة أخرى، فتحررنا من سيطرة الأجنبي، وقوى تيار القومية العربية بحكم وحدة الكفاح والهدف ومعركة الحياة، مضافا إلى مقومات الوحدة التاريخية، فأخذ تيار ثوري جديد يظهر، وهو تيار وطني اجتماعي جارف لم يكن بد من أن يسايره الأدب والفكر الفتي. فأخذ جيلنا الناهض يستنكر الفردية والذاتية ويطالب الأدب والأدباء بأن يصرفوا حديثهم إلى قضايا الوطن العامة إقليمية أو قومية عربية أو إنسانية عامة، وإلى قضايا الشعب وضرورة النهوض به ورفع مستوى حياته ومعالجة مشاكله وإبراز آلامه وتعضيد مطالب حياته العادلة، وكأنهم يرددون بلسان الشاعر العربي القديم:
فلا هطلت على ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا
وذلك لأنهم يرون أنه لا خير لمن يعيش لنفسه، وهذا هو الاتجاه الأحدث الذي نسميه اتجاه الواقعية الاشتراكية مع ما يتضمنه هذا الاتجاه من تفاؤل وثقة بالنفس وثقة بالغير واطمئنان إلى المصير والقدرة على التحكم فيه.
ولكنه بالرغم من قوة هذا الاتجاه الأحدث واستناده على فلسفة ثورية جديدة إلا أنه لم يستطع، ولا أظنه يستطيع - أن يقضي على التيار الرومانسي الوجداني الفردي السابق، وذلك لأن هذا التيار الأخير يستند إلى حاجات نفسية غلابه لا سبيل إلى تجاهلها ومقاومتها، بلي ولا ضرورة لذلك، فالإنسان سيظل دائما في حاجة إلى التعبير عن ذاته والتنفيس عن آماله وآلامه الخاصة، والتغني بأشواق روحه ومباهج الحياة من حوله بما فيها الطبيعة الجميلة. والشاعر إذ يتغنى بكل هذا لا يتغنى به لنفسه فحسب، بل ولنا جميعا بحكم ما يجمعنا من مشاركة وجدانية وإنسانية.
وهكذا نخلص إلى أن حياتنا الفكرية والأدبية الراهنة تجري بها حتى اليوم تيارات ثلاث: تيار تقليدي وتيار رومانسي وتيار واقعي اشتراكي وإن يكن من الواضح أن التيار الواقعي الاشتراكي هو الآن الآخذ في الانتشار والسيطرة بفضل فلسفتنا السياسية والاجتماعية الجديدة، وهي فلسفة لا بد أن تشمل جميع ميادين النشاط.
التيار الواقعي الاشتراكي هو التيار الآخذ في النمو والسيطرة على ثقافتنا الإنسانية وعلى أدبنا وفننا المعاصرين، ولكن هذا التيار قد سبق فيه المضمون الصورة الفنية. ولا يزال أمام أدباءنا وفنانينا الشبان مجهودات يجب أن تبذل للملاءمة بين هذا المضمون الجديد والصورة الفنية الجميلة الموحية، سواء أكانت تلك الصورة قصيدة شعر، أو مسرحية أو قصة أو مقالا ثقافيا، وذلك لأن كل مضمون جديد يحتاج إلى شيء كثير من الترويض حتى يسكن إلى الصورة التي تتمشى مع أصول الأدب والفن، وهي أصول لم يخترعها التفكير المجرد بل استخلصها الأدباء والنقاد والمفكرون من تحليلهم لروائع الآداب العالمية.
وهذه الأصول لا تعتبر قيودا ولا أغلالا للإنتاج الأدبي بالأشكال التي تزيد ذلك المضمون بروزا وقوة وتأثيرا، وبالتالي نجاحا في تحقيق الأهداف المثالية التي يسعى إلى تحقيقها. ومن المؤكد أن أي مضمون إنساني لا بد له من صورة جمالية ملائمة حتى يستجيب له الناس في يسر وسهولة، بل في طرب وإقبال فيفتحوا له نفوسهم لتتشبع به، فالمسرحية مثلا تحتاج إلى تصوير وتشويق وحركة مادية وذهنية تستأثر بالانتباه وتشغل التفكير فيندمج المشاهد فيها وينفعل بها. وإذا بمضمونها الإنساني يتسرب إلى نفسه عن طريق الشعور أو اللاشعور. وكذلك الأمر في القصة، وأما الشعر فلا يمكن إلا أن يكون فنا جميلا وإلا فقد روعته وتأثيره وسقط مضمونه مهما كان ساميا رفيعا، وجمال الشعر يأتي من أساليب صياغته، فالشعر ليس تقريرا بل تصويرا بيانيا، وهو ليس تعبيرا باللغة فحسب بل هو أيضا تعبير وإيحاء عن طريق موسيقاه، وموسيقى الشعر ليست تطريبا فحسب، بل هي وسيلة من وسائل التعبير والإيحاء لا تقل أهمية عن التعبير اللفظي، بل لعلها تفوقه، وذلك لأن موسيقى الشعر هي التي تخلق الجو، وهي التي توحي بالظلال الفكرية والعاطفية لكل معنى، وقد تكون تلك الظلال أكثر فاعلية في النفس من المعنى المجرد بحيث يعتبر ضعف الموسيقى في الشعر إنقاصا شديدا من قدرته على التعبير والإيحاء.
وإذا صحت كل هذه الحقائق يكون لنا أن نغتبط باستمرار التيارين التقليدي والرومانسي إلى جوار التيار الواقعي الاشتراكي الجديد، فهما بنقدهما لهذا التيار الجديد سيساعدانه بلا ريب على استكمال وسائله، فالتيار التقليدي يحرص على سلامة الصياغة اللغوية وقوتها والتجويد فيها. والتيار الرومانسي يحرص على الجو الشعري وعلى الموسيقى وعلى ظلال المعاني المرهفة، وكل هذه وسائل يجب أن يحرص عليها أيضا التيار الواقعي الاشتراكي الجديد لأنها تزيده قوة ونفاذا إلى القلوب وبالتالي قدرة على تحقيق أهدافه الإنسانية الخيرة.
وهكذا يعزز هذان التياران التيار الجديد المنتصر، ولكنهما يصبحان ضارين عندما يخلطان في نقدهما للتيار الجديد بين المادة والشكل أي بين المضمون والصورة أو الفن، على نحو ما نشاهد أحيانا أنصار المذهب التقليدي أو المذهب الرومانسي يهاجمون التيار الجديد أأوعلى الأصح يهاجمون مضمونه باسم الفن، حتى رأينا الخصومة تتبلور - بعد انحرافها - بين التيار الجديد والتيارين السابقين في جبهتين: جبهة الفن للفن وهي التي يخفي بعض دعاتها أهدافهم الحقيقية خلف الغيرة على الفن وأصوله، وجهة أخرى هي جبهة الفن للحياة التي تسرف في الحماسة للمضمون الذي يؤمنون به بل هما كما قلنا وسيلة فعالة في تقوية هذا المضمون وتقريبه من النفس ومساعدته على تحقيق أهدافه.
وفي اعتقادنا أن هذا الخلط والتداخل سوف يتضح مع الزمن، وأن المضمون الإنساني الجديد سوف ينتصر وأن دعاة هذا المضمون أنفسهم سوف يفطنون إلى أهمية الفن وأصوله في خدمة مضمونهم، وعندئذ لن يكون هناك فن للفن وفن للحياة بل سيكون هناك فن للفن والحياة معا، وهو الفن المثالي الذي ابتدأ شبابنا الشوط نحوه، وبقي أن يصلوا في هذا الشوط إلى نهايته وذلك بأن يرتفع فنهم إلى مستوى المضمون الإنساني الخير الذي تعمل الثورة وتعمل القومية العربية على ترسيخه في النفوس."
كلا لن تنتهى بل هى البداية فقط ، فعندما أعجز عن نشر كل ما كتبه محمد مندور عن الشعر عن طريق ناشرين مختلفين ، حكوميين أم خاصين ، فالامر لا يعنى الفشل فى نشر ما كتبه مؤسس النقد المصرى الحديث ، بل يعنى ما هو أعمق ، هى قضية إجتماعية سياسية تعبر عن سيادة الاتجاهات الرجعية وإختراق التخلف الادبى والمهنى لاجهزة الثقافة والنشر ، لذلك فالقضية لن تصبح العجز عن النشر بل أصبحت جزءا من الصراع الاجتماعى الدائر ضد التخلف والرجعية وسيطرة البيروقراطية البليدة ، لذلك فلم تصبح قضية عن أبن يقدر دور والدة تقديرا كبيرا ، بل عن وريث لتراث يدافع عنه لحساب المستقبل .
لذلك فبكرة الاتى أت .
جزء من حول الشعر للدكتور مندور الجزء السابع "كتاب الشعر المصرى بعد شوقىالجزء الثالث"
كتب مندور
"تخطيط عام لحقل الشعر المعاصر
إلى هنا وأشعر أنه لا سبيل إلى استقصاء جميع شعراء الوجدان الذين أعتبرهم فروعا أو امتداد لجماعة أبوللو، تلك الجماعة التي ازدهر بفضلها شعر الوجدان في أدبنا العربي المعاصر ازدهارا منقطع النظير مع تعدد الألوان واختلاف النغمات تبعا لاختلاف شخصيات هؤلاء الشعراء وأمزجتهم وبيئاتهم الثقافية مما يصح معه أن نقرر أن هذه الجماعة هي التي ظهرت في أشعارها شخصيات الشعراء ظهورا واضحا مكنتنا من أن نرسم أحيانا لبعض هؤلاء الشعراء صورا روحية وفنية متكاملة. وكم كنت أود أن أضيف إلى هذه الصور غيرها مما لا يتسع له وقتي المحدود، ولذلك أرى أن أستخدم ما بقي من وقت ضيق في تخطيط عام لحقل الشعر المعاصر مع تسجيل بعض القسمات التي تتميز بها التيارات الموجودة الآن في هذا الحقل.
وليست التيارات الأدبية الموجودة في مصر الآن في مصر حديثة كلها، بل منها كما رأينا ما يرجع إلى بدء نهضتنا الحديثة في أواخر القرن الماضي. ولقد استطاعت هذه التيارات أن تصمد أمام المفاهيم الجديدة للحياة والفكر والأدب لأنها تستند إلى أسس باقية تمليها الأفكار والمشاعر وضرورات الحياة.
فالتيار التقليدي قد كان في يوم من الأيام مهوى الأفئدة ومبعث الفخار وذلك لأنه نتج عن حركة بعث قوية ردت إلى العالم العربي روحه وحياته بعد أن كان قد ذبل وجف واستحال إلى هياكل وزخارف في العصرين العثماني والمملوكي، وجاء الأدب - الذي هو صورة للحياة - هو الآخر هو الآخر زخارف لفظية لا حياة فيها ولا فكر ولا إحساس ولا مضمون. وقد تم هذا البعث بنوع خاص بفضل وصول اختراع إنساني ضخم إلى مصر والبلاد العربية ونعني به فن الطباعة، فمن المؤكد أن مطبعة بولاق التي أنشئت في النصف الأول من القرن الماضي قد كانت من أهم عوامل البعث العربي بفضل ما أخذت تنشره تباعا من التراث العربي القديم وتضعه في متناول ذوي الموهبة من رواد النهضة الأدبية الحديثة. ويكفي أن ننظر في مختارات رائد البعث الشعري في مصر، وبالتالي في العالم العربي كله محمود سامي البارودي لندرك إلى أي مدى كانت روائع الشعر العربي القديم قد أصبحت بفضل الطباعة غذاء ووسيلة لبعث الشعر العربي بديباجته المشرقة ومضمونه الإنساني الحي المتجاوب مع قضايا عصره الكبرى ومع خوالج النفس البشرية القوية، بعد أن كان الشعر قد انهار إلى مستوى الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية لندرة القدوة الفعالة والمثل الموحي، وكأنه قد غلف بأثواب الانحطاط وحرم من مذكيات الحياة.
وجاءت الثورة العرابية فعززت الشعور بالوطنية المصرية والقومية العربية تجابه بهما غطرسة الأتراك والجراكسة، بل واحتقارهم للمصريين والعرب، مما أدى إلى تقوية تيار البعث العربي واحتضان ذلك التيار وإقبال الشعب عليه ذلك الإقبال الذي شجع المواهب وأغرى بالإنتاج فكان لنا أولئك العمالقة من شعراء البعث والتقليد أمثال البارودي وشوقي وحافظ.
وبالرغم من أن زيادة اتصالنا بالآداب الأوربية مباشرة أو عن طريق الترجمة، قد أدى إلى ظهور تيار فكري أدبي جديد، يدعو إلى الخروج من التقليد إلى الابتداع، وإلى تدعيم الأدب العربي الحديث باتجاهات الفكر والأدب والفن الغربية، وبخاصة فيما يتعلق بشعر الوجدان وضرورة تعبير الشاعر أو الأديب عن نفسه تعبيرا صادقا في صور فنية تماشي أصول الأدب والفن العالميين - نقول أنه بالرغم من ظهور هذه الدعوة، فإن التيار التقليدي قد ظل حيا لأنه يرمز إلى قيم قومية كبيرة، فهو يمثل ثقافتنا التقليدية قد ظل حيا لأنه يرمز إلى قيم قومية كبيرة، فهو يمثل ثقافتنا التقليدية الراسخة في ضمائرنا، وهو يدافع دفاعا حارا عن لغتنا الفصحى ونقاء تلك اللغة وصحتها. فاللغة الفصحى كما هو معلوم هي أوثق روابط القومية العربية، لأنها وسيلة التفاهم الكامل بين الشعوب العربية المختلفة التي تطورت لهجاتها المحلية تطورا يمكن أحيانا أن يعوق التفاهم المتبادل وبالتالي القومية العربية ذاتها.
هذه هي الأسباب أو بعض الأسباب الهامة التي تفسر استمرار التيار التقليدي العربي الخالص حتى بعد اختفاء عمالقته الأوائل من أمثال البارودي وحافظ وشوقي والصيرفي ومصطفى صادق الرافعي.
ولكن بالرغم من استمرار التيار التقليدي - لم يكن بد من أن يحدث تطور نهضتنا العامة وتوثق صلاتنا بحضارة الغرب وثقافاته - تيارات فكرية وأدبية جديدة كان أسبقها إلى الوجود تيار الوجدان الذاتي، وذلك لأن النهضة أخذت تشعر الفرد بوجوده وبقيمته الذاتية، وبضرورة التعبير عن نفسه مما أدى إلى ظهور تيار الشعر الوجداني عند الجيل الذي ظهر في أوائل هذا القرن مثل الأساتذة عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني الذين نادوا بأن الشعر وجدان وليس صحافة تسجل الأحداث العامة وتعلق عليها. وكان ظهور هذا التيار في نفس الوقت الذي ظهر فيه تيار مماثل عند شعراء المهاجر العربية في أمريكا حتى لنرى الأستاذين عباس العقاد وميخائيل نعيمة يتبادلان التحية والتأييد والتضامن في "كتاب الغربال" للأستاذ نعيمة ومقدمة الكتاب الحارة التي كتبها الأستاذ عباس العقاد، وإن يكن من الواجب أن نلاحظ أن هذا التيار التجديدي لم تتفق عليه وعلى حدوده ومبادئه كلمة الداعيين إليه كما اتفقت من قبل كلمة رواد البعث فلاقوا نجاحا شعبيا كبيرا.
وربما كان الاستعمار وسيطرته، والاستبداد الداخلي وجبروته من الأسباب الأساسية في عدم اتفاق الجيل الجديد على مذهب فكري أو أدبي محدد، وذلك لأن هذه العوامل السياسية الخانقة قد ولدت في نفوس الشعراء والأدباء الحساسة نزعة عنيفة للحرية المطلقة وحبالها بل تعصبا، فكل أديب أو شاعر لا يقبل أن يخضع لأي مذهب، أو أن يضحي بأي ذرة من حريته عن وعي وقبول. وإذا كان قد ظهر بالرغم من ذلك تجانس كبير في الاتجاه الفكري والأدبي، فإن هذا التجانس لم يعد الاتجاه العام الذي حددت مجراه تضاريس الحياة أكثر مما حددته الإرادة الواعية والثقافة الهادفة، ولا أدل على ذلك من أن نلاحظ مدى التفاوت الكبير بين نغمات شعراء الوجدان الذين كثر عددهم وغزر إنتاجهم بفضل حركة "أبوللو" الخالدة بريادة المرحوم الدكتور أحمد زكي أبو شادي ذي النفس الخيرة والنزعة المثالية الرفيعة، فالشابي روح ثائرة وإبراهيم ناجي قلب ظامئ إلى الحب متلهف عليه، وعلي محمود طه طائر غرد مبتهج نهم إلى متع الحياة الحسية، والصيرفي قلق متأمل، وهكذا تفاوتت نغماتهم تبعا لتفاوت أمزجتهم وألوان روحهم وفلسفة حياتهم، وإن اتفقوا جميعا فيما نسميه شعر الوجدان الذاتي أو الشعر الرومانسي، دون أن يتفقوا على مذهب محدد أو يرسموا دروبا لهذا المذهب.
وخطونا في تطورنا الناهض خطوة أخرى، فتحررنا من سيطرة الأجنبي، وقوى تيار القومية العربية بحكم وحدة الكفاح والهدف ومعركة الحياة، مضافا إلى مقومات الوحدة التاريخية، فأخذ تيار ثوري جديد يظهر، وهو تيار وطني اجتماعي جارف لم يكن بد من أن يسايره الأدب والفكر الفتي. فأخذ جيلنا الناهض يستنكر الفردية والذاتية ويطالب الأدب والأدباء بأن يصرفوا حديثهم إلى قضايا الوطن العامة إقليمية أو قومية عربية أو إنسانية عامة، وإلى قضايا الشعب وضرورة النهوض به ورفع مستوى حياته ومعالجة مشاكله وإبراز آلامه وتعضيد مطالب حياته العادلة، وكأنهم يرددون بلسان الشاعر العربي القديم:
فلا هطلت على ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا
وذلك لأنهم يرون أنه لا خير لمن يعيش لنفسه، وهذا هو الاتجاه الأحدث الذي نسميه اتجاه الواقعية الاشتراكية مع ما يتضمنه هذا الاتجاه من تفاؤل وثقة بالنفس وثقة بالغير واطمئنان إلى المصير والقدرة على التحكم فيه.
ولكنه بالرغم من قوة هذا الاتجاه الأحدث واستناده على فلسفة ثورية جديدة إلا أنه لم يستطع، ولا أظنه يستطيع - أن يقضي على التيار الرومانسي الوجداني الفردي السابق، وذلك لأن هذا التيار الأخير يستند إلى حاجات نفسية غلابه لا سبيل إلى تجاهلها ومقاومتها، بلي ولا ضرورة لذلك، فالإنسان سيظل دائما في حاجة إلى التعبير عن ذاته والتنفيس عن آماله وآلامه الخاصة، والتغني بأشواق روحه ومباهج الحياة من حوله بما فيها الطبيعة الجميلة. والشاعر إذ يتغنى بكل هذا لا يتغنى به لنفسه فحسب، بل ولنا جميعا بحكم ما يجمعنا من مشاركة وجدانية وإنسانية.
وهكذا نخلص إلى أن حياتنا الفكرية والأدبية الراهنة تجري بها حتى اليوم تيارات ثلاث: تيار تقليدي وتيار رومانسي وتيار واقعي اشتراكي وإن يكن من الواضح أن التيار الواقعي الاشتراكي هو الآن الآخذ في الانتشار والسيطرة بفضل فلسفتنا السياسية والاجتماعية الجديدة، وهي فلسفة لا بد أن تشمل جميع ميادين النشاط.
التيار الواقعي الاشتراكي هو التيار الآخذ في النمو والسيطرة على ثقافتنا الإنسانية وعلى أدبنا وفننا المعاصرين، ولكن هذا التيار قد سبق فيه المضمون الصورة الفنية. ولا يزال أمام أدباءنا وفنانينا الشبان مجهودات يجب أن تبذل للملاءمة بين هذا المضمون الجديد والصورة الفنية الجميلة الموحية، سواء أكانت تلك الصورة قصيدة شعر، أو مسرحية أو قصة أو مقالا ثقافيا، وذلك لأن كل مضمون جديد يحتاج إلى شيء كثير من الترويض حتى يسكن إلى الصورة التي تتمشى مع أصول الأدب والفن، وهي أصول لم يخترعها التفكير المجرد بل استخلصها الأدباء والنقاد والمفكرون من تحليلهم لروائع الآداب العالمية.
وهذه الأصول لا تعتبر قيودا ولا أغلالا للإنتاج الأدبي بالأشكال التي تزيد ذلك المضمون بروزا وقوة وتأثيرا، وبالتالي نجاحا في تحقيق الأهداف المثالية التي يسعى إلى تحقيقها. ومن المؤكد أن أي مضمون إنساني لا بد له من صورة جمالية ملائمة حتى يستجيب له الناس في يسر وسهولة، بل في طرب وإقبال فيفتحوا له نفوسهم لتتشبع به، فالمسرحية مثلا تحتاج إلى تصوير وتشويق وحركة مادية وذهنية تستأثر بالانتباه وتشغل التفكير فيندمج المشاهد فيها وينفعل بها. وإذا بمضمونها الإنساني يتسرب إلى نفسه عن طريق الشعور أو اللاشعور. وكذلك الأمر في القصة، وأما الشعر فلا يمكن إلا أن يكون فنا جميلا وإلا فقد روعته وتأثيره وسقط مضمونه مهما كان ساميا رفيعا، وجمال الشعر يأتي من أساليب صياغته، فالشعر ليس تقريرا بل تصويرا بيانيا، وهو ليس تعبيرا باللغة فحسب بل هو أيضا تعبير وإيحاء عن طريق موسيقاه، وموسيقى الشعر ليست تطريبا فحسب، بل هي وسيلة من وسائل التعبير والإيحاء لا تقل أهمية عن التعبير اللفظي، بل لعلها تفوقه، وذلك لأن موسيقى الشعر هي التي تخلق الجو، وهي التي توحي بالظلال الفكرية والعاطفية لكل معنى، وقد تكون تلك الظلال أكثر فاعلية في النفس من المعنى المجرد بحيث يعتبر ضعف الموسيقى في الشعر إنقاصا شديدا من قدرته على التعبير والإيحاء.
وإذا صحت كل هذه الحقائق يكون لنا أن نغتبط باستمرار التيارين التقليدي والرومانسي إلى جوار التيار الواقعي الاشتراكي الجديد، فهما بنقدهما لهذا التيار الجديد سيساعدانه بلا ريب على استكمال وسائله، فالتيار التقليدي يحرص على سلامة الصياغة اللغوية وقوتها والتجويد فيها. والتيار الرومانسي يحرص على الجو الشعري وعلى الموسيقى وعلى ظلال المعاني المرهفة، وكل هذه وسائل يجب أن يحرص عليها أيضا التيار الواقعي الاشتراكي الجديد لأنها تزيده قوة ونفاذا إلى القلوب وبالتالي قدرة على تحقيق أهدافه الإنسانية الخيرة.
وهكذا يعزز هذان التياران التيار الجديد المنتصر، ولكنهما يصبحان ضارين عندما يخلطان في نقدهما للتيار الجديد بين المادة والشكل أي بين المضمون والصورة أو الفن، على نحو ما نشاهد أحيانا أنصار المذهب التقليدي أو المذهب الرومانسي يهاجمون التيار الجديد أأوعلى الأصح يهاجمون مضمونه باسم الفن، حتى رأينا الخصومة تتبلور - بعد انحرافها - بين التيار الجديد والتيارين السابقين في جبهتين: جبهة الفن للفن وهي التي يخفي بعض دعاتها أهدافهم الحقيقية خلف الغيرة على الفن وأصوله، وجهة أخرى هي جبهة الفن للحياة التي تسرف في الحماسة للمضمون الذي يؤمنون به بل هما كما قلنا وسيلة فعالة في تقوية هذا المضمون وتقريبه من النفس ومساعدته على تحقيق أهدافه.
وفي اعتقادنا أن هذا الخلط والتداخل سوف يتضح مع الزمن، وأن المضمون الإنساني الجديد سوف ينتصر وأن دعاة هذا المضمون أنفسهم سوف يفطنون إلى أهمية الفن وأصوله في خدمة مضمونهم، وعندئذ لن يكون هناك فن للفن وفن للحياة بل سيكون هناك فن للفن والحياة معا، وهو الفن المثالي الذي ابتدأ شبابنا الشوط نحوه، وبقي أن يصلوا في هذا الشوط إلى نهايته وذلك بأن يرتفع فنهم إلى مستوى المضمون الإنساني الخير الذي تعمل الثورة وتعمل القومية العربية على ترسيخه في النفوس."