أوس أبو عطا - نحن والنساء نحن والتاريخ...

عرف العرب قديماً قيمة المرأة ومكانتها، ولذا كان يسمو موضعها بسموّ المجتمع العربي. كان للمرأة الكثير من الحرية، وكانت تمتلك المال وتتصرف فيه كما تشاء، ففي عزّ ازدهار التجارة والشعر في العصر الجاهلي، كانت كلّ من خديجة بنت خويلد والخنساء تنشطان بهذين المجالين وتزاحمان الرجال.

وقد ساند الإسلام هذه الحرية وحرّم أن تعضل المرأة وتمنع من الزواج بعد وفاة زوجها، كما حرّم زواج المَقت وهو الجمع بين الأختين، وأيضاً زواج الشِّغار وهو أن يتزوج شخص أختَ صديق له مقابل أن يزوّجه أخته بالمبادلة، وحرّم وأد البنات وحرمانهن من الميراث كما يورد شوقي ضيف في كتابه "تاريخ الأدب العربي/العصر الجاهلي".

ويذكر الدكتور نبيه عاقل في كتابه "تاريخ العرب القديم والعصر الجاهلي" أن أوّل من ورَّث البنات في الجاهلية كان ذا المجاهد اليشكري، فأعطى البنت سهماً والابن سهمين. وكان لقب صعصة وهو جدّ الشاعر الفرزدق، مُحيي الموؤدات، وتذكر العديد من المصادر التاريخية أنّه فدى ثلاثمئة مولودة وقيل أربعمئة قبل الإسلام، و كان صعصعة يهب ناقتين لكلّ رجل يريد وأد ابنته ليثنيه عن هذا الفعل، وهو أمر افتخر به الفرزدق بالكثير من أشعاره.

ولنا في قصة إتجار النبي محمد بمال خديجة بنت خويلد، الكثيرُ من الرسائل عن استقلالية المرأة، وتعاملها مع الرجال بنديّة، بل واستخدامهم للقيام بشؤونها ومالها وتجارتها. كما يروي الرواة أن هنداً زوجة أبي سفيان كانت تتجر في قبيلة كلب بالشام، وأن كلاً من صفية وهند بنت عبد المطلب كانتا تشغّلان مالهما بالتجارة.
الثّراء في مكة والمدينة

يجب الأخذ بالحسبان أن المجتمع المكي هو مجتمع ثري بالأصل بسبب موسم الحج والتجارة (رحلتَي الشتاء والصيف) قبل الإسلام، وقد زاد ترفه بعد الفتوحات الإسلامية، التي كانت مغانمها لا تحصى من أموال وذهب وفضة ورقيق وجوارٍ.

عرف العرب قديماً قيمة المرأة ومكانتها، ولذا كان يسمو موضعها بِسموّ المجتمع العربي، وكان لها الكثير من الحرية، وكانت تمتلك المال وتتصرف فيه كما تشاء

أمّا المدينة فقد بدأ ظهور الثراء فيها منذ عهد الخليفة أبي بكر، ويذكر اليعقوبي (ت 284هـ)، في الجزء الثاني من تاريخه، أن أوّل مالٍ قسّمه أبو بكر ما أتى به العلاء الحضرمي من فتح بعض نواحي البحرين، حيث أعطى لكل الناس من الأحرار والعبيد نفس المبلغ (ديناراً لكل شخص). وازداد هذا الثراء بشكل جلي مع عهد عمر بن الخطاب تحديداً، بعدما انسكبت كنوز الأرض في بيوت المدينة بسبب مغانم الفتوحات الإسلامية، وتحصيل أموال الفيء من الجزيرة و بلاد الشام والعراق وفارس، وبسبب هذه الأموال العظيمة، عمل الفاروق بنصيحة بعض مزاربة الفرس، حيث دوّن الدواوين، ليضبط الأموال الداخلة والخارجة، وأعطى الناس رواتباً مالية ثابتة حسب مراتبهم.

ويذكر الطبري (ت 310هـ) في الجزء الأوّل من تاريخه، أن ابن الخطاب بدأ في الديوان بالعباس عم النبي وأقاربه، وفرض للناس حسب سابقتهم بالإسلام؛ حيث فرض لنساء النبي عشرة آلاف، ولأهل بدر خمسة آلاف، ثمّ فرض لمن بعد بدر إلى صلح الحديبية أربعة آلاف، ومن شهد فتح مكة ثلاثة آلاف. وخطب عمر بن الخطاب في الناس مرة، فقال: "إنه قدم علينا مال كثير إن شئتم أن نعدّه لكم عدّاً، وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً".

وازداد هذا الثراء الفاحش في عهد عثمان بسبب الفتوحات أيضاً، حتى إذا بلغنا العهد الأموّي برز هذا الثراء كثيراً وتغيرت مظاهر الحياة وأساليب العيش لدى أهل مكة والمدينة على حد سواء، فتغيرت طريقة طعامهم وشرابهم ولباسهم، فأكلوا بآنية الذهب والفضة ولبسوا الخزّ والديباج والاستبرق وتفننوا بالتطيّب واستخدام العطورات، حسبما ورد في كتب التاريخ.

ويورد ابن سعد (ت 230هـ) في طبقاته، أن السيدة عائشة بنت سعد بن أبي وقاص اشتهرت بزينتها من قلائد الذهب، كما اشتهرت السيدة سُكينة بنت الحسين بأنها كانت تثقل ابنتها بالحُلي واللآلئ.

وكما كان الرجال مترفين كانت النساء أيضاً، فترفهن أكثر ظهوراً من ترف الرجال بسبب ميلهن للتزيّن والتجمّل. وخير من يمثل ميليونيرات المجتمع الحجازي ونبيلاته في هذا العصر، هما عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين.
عائشة بنت طلحة ملكة جمال وصاحبة مال

عائشة بنت طلحة من نبيلات قريش و حسناواتها وذات مال عظيم. كانت زوجة لعبد الله بن عبدالرحمن بن أبي بكر، ثم توفي، فتزوجت من مصعب بن الزبير، وأمهرها ألف ألف درهم، وتوفي، فتزوّجت عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، ومات أيضاً ولم تتزوج بعده.

و يروي أبو الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ) في الجزء الثاني من كتابه "الأغاني" عن السيدة عائشة أنها كانت إذا حجّت ذهبت ومعها ستون بغلاً عليها الهوادج والرحائل، فانتقدها عروة بن الزبير فقال: "عائش يا ذات البغال الستين/أكلّ عام هكذا تحجين". فأرسلت إليه "نعم يا عريّة".

ويروى أن عاتكة بنت يزيد بن معاوية استأذنت عبد الملك بن مروان في الحج فقال لها: "ارفعي حوائجك واستظهري، فإن عائشة بنت طلحة تحجّ، ففعلت، فجاءت بهيئة جهدت فيها، فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها، وفرق جماعتها. فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم، فسألت عنهم، فقالوا: هذه ماشطتها، ثم جاءت مواكب على هذه الهيئة إلى سَننها، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمئة راحلة، عليها القباب والهوادج، فقالت عاتكة: 'ما عند الله خير وأبقى'".

إذا كانت بنت الخليفة يزيد، حفيدة معاوية، لا تصل إلى مستوى ترف وثراء ورفاهية عائشة بنت طلحة، ولا تبلغ مبلغها في زينتها وهيئتها، فماذا كانت هذه الهيئة والزينة؟ إننا لو سمعنا في هذا العصر أن أميرة تحجّ على هذا النحو، لتزاحَم مراسلو القنوات التلفزيونية كي يغطوا هذا الحدث ويبثّوه على شاشات التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي، ولأصبحت الترند الأول على مستوى العالم!

ويذكر الدكتور شوقي ضيف في كتابه "الشّعر والغناء في المدينة ومكة" عن عائشة بنت طلحة أنّ زوجَها مصعب بن الزبير أهداها ثماني حبات من اللؤلؤ قيمتها عشرون ألف دينار، فلما دخل عليها ليقدم هديته وجدها تغطّ في النوم، فأيقظها، فلما رأت اللآلئ لم تكترث بها، وقالت: كان النوم أحبّ إليّ.

وقد روي أنها لما تأيَّمت كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال عظيم وقصر لها بالطائف، فتتنزه وتجلس فيه في المساء، فتناضل بين الرماة، ثم يتقاطر عليها الشعراء من كل حدب وصوب لتغدق عليهم من أموالها وهداياها.

وافتتن بها الحارث بن خالد المخزومي الذي كانت كل أغانيه تقريباً في عائشة بنت طلحة، تارة يتغزل بها مباشرة، وتارة يتغزل بها عن طريق جاريتها (بُسرة) تلميحاً.
حفيدة النبي سيّدة المجتمع المخملي

أما سُكينة بنت الحسين، فحدث ولا حرج عن زينتها وترفها وبذخها، وقد كتبت عائشة عبد الرحمن الملقبة بنت الشاطئ (1912-1998) كتاباً ذاع صيته عن سكينة بنت الحسين تحدثت فيه عن محاسنها ومناقبها وفضائلها وثقافتها العالية، وعنونت الكتاب باسمها "سُكينة بنت الحسين".

يقول صاحب "الأغاني" أبو الفرج الأصفهاني في الجزء العاشر من كتابه: "كانت السيدة سكينة عفيفة برزة من النساء تجالس الأجلّة من قريش ويجتمع إليها الشعراء".

وكان لها ذوق جيد في الشعر، حيث أنها كانت تنقد الشعراء وتفاضل بينهم، وكان أشعب مضحك أهل المدينة يزورها كثيراً لإضحاكها وجلب السرور إليها، ومن خير ما يصور ترفها تلك القصة المشهورة التي رويت عنها في أكثر من موضع وكتاب أنها عندما حجّت، ورمت الجمار، سقطت من يدها الحصاة السّابعة، فرمت بخاتمها! ويروى أنها استبدلت مالها بالزوراء بقصر في العقيق يسمى "البريدي"، فلما سال العقيق خرجت ومعها جواريها تمشي حتى جاءت السيل، فجلست على جرفه، ومالت برجلَيها في السيل، ثم قالت: والله لهذه الساعة في هذا القصر خير من الزوراء.

كما كان الرجال مترفين كانت النساء أيضاً، فترفهن أكثر ظهوراً من ترف الرجال بسبب التزيّن والتجمّل. وخير من يمثل ميليونيرات المجتمع الحجازي ونبيلاته في ذلك العصر، هما عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين

ومن أشهر ما روي أنها توفيت، فلم تدفن في اليوم نفسه، فاشتروا لها عوداً من الطيب بأربعمائة دينار ظل مشتعلاً بجوارها طوال الليل حتى يعبق الجو من حولها بالأريج.

تزوّجت سُكينة بنت الحسين عبداللهَ بن الحسن بن علي وهو أوّل أزواجها، ولما قُتل مع أبيها، تزوجت بعده مصعب بن الزبير، فأمهرها ألف ألف درهم كما كان أمهر عائشة بنت طلحة بنفس المبلغ، مثلما ذكرنا. ولما قُتل، تزوجت عبد الله بن عثمان الخزامي، ثم زيد بن عمرو بن عثمان، ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان.

وقد كانت سُكينة وعائشة بنت طلحة من سيدات نساء عصرهن ملاحةً وظرفاً وأناقةً، الأمر الذي دفع البعض إلى وصفهن بربّات الجمال والمال.
مظاهر الحضارة في مكة والمدينة

غرق مكة والمدينة في الحضارة والترف، ترافق مع تنوع الثقافات بسبب العبيد والإماء والموالى من جنسيات وثقافات أخرى غير العربية، وأثّر ذلك في المجتمع أيما تأثير. وبرزت، ككلّ مجتمع متحضر، الكثير من السيدات اللائي يعرن الاهتمام بالشّعر والغناء لدرجة اقتناء مجموعة من الشعراء والفنانين؛ كما فعلت الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث، وتُعتبر هي الأخرى من ذواقات الشعر، حيث اقتنت الغريض وهو مغنٍّ، كما يذكر صاحب "الأغاني" في الجزء التاسع منه. والثريا هي من مليحات قريش، ووالدها من أثرياء مكة، ولها قصة عشق شهيرة مع الشّاعر عمر بن أبي ربيعة، وكان لها قصر عظيم، وتصيّف كل عام بالطائف، ولها ماشطتها (حلاقتها) الخاصة، وكان فيها دلال وإعجاب بنفسها، حالها كحال سيدات المجتمع المخملي في مكة والمدينة.

ساد المجتمع في مكة والمدينة بعد الإسلام ألوانٌ من الحرية المهذبة، ظهر في لقاء الرجال بالنساء والاستماع للشعراء والمغنين مع وجود حجاب بينهم. وأصبحت المرأة القرشية ذات شخصية أكثر حضوراً من قبل في المجتمع الجديد، تقارن بين الشعراء وتستمع للغناء.

وعليه، ظهرت الكثير من سيدات المجتمع المخملي وشريفاته واللواتي سطرّن فصلاً جديداً من تحضر وتحرر المرأة العربية وسموّ مكانها ومكانتها في المجتمع. وبهذا تحضر وتقدم المجتمع القرشي ولم يعد همّه الأول البحث عن الكلأ والماء، بل البحث عن التحضر والتثقف والرفاهية والترف من ارتداء أجمل الملابس وأكل أفضل الطعام والحياة في القصور إلى الاستماع للشعر والطرب بالغناء.

بإذن من الكاتب
أوس أبو عطا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى