بيان أول نوفمبر 54 عبّر عن إيديولوجية ثورية كاملة
يعد موضوع التعذيب في الجزائر من المواضيع الشائكة التي وجب على المؤرخين أن يسلطوا الضوء عليها ، ليقفوا على الوقائع و الحقائق التاريخية التي كانت تعيشها الجزائر و شعبها يقتاد إلى السجون و المحتشدات آنذاك، خاصة و مطلب الشعب الجزائري ما زال قائما في إجبار فرنسا على الاعتراف بجرائمها إبان الاستعمار ، و تقديم اعتذار رسمي للشعب الجزائري و للتاريخ، و إن كانت الإعدامات التي طبقتها فرنسا ضد الجزائريين كانت كلها جماعية فإن سياسة التعذيب تمت بشكل فردي، و اعترافها اليوم بتعذيب موريس أودان، و إن كان يعتبر سابقة تاريخية، فقد سبق و أن خرجت على الشعب الجزائري بشهادة أوساريس حول تعذيبه للشهيد العربي بن مهيدي، كانت شهادة للتاريخ و لم تكن تعبيرا عن الندم أو اعتذار لما حدث، رغم خروج مؤرخين فرنسيين عن صمتهم، و كشفوا للعالم أساليب التعذيب التي مارستها فرنسا ضد الجزائريين، و وثقوا كتبهم بوثائق لإثبات حادثة التعذيب في الجزائر، و هي حسب القوانين الدولية تعد جريمة حرب ضد الإنسانية، خاصة و أن ظاهرة التعذيب أثناء الثورة تمت كوسيلة لقمع الجزائريين، و الضغط عليهم من أجل الحصول على معلومات من شأنها أن تقضي على الثورة، و توسعت فكرة التعذيب لإعطائها صبغة قانونية، و لكن رغم سياسة الضغط و الاضطهاد، ظل الجزائريون أوفياء للمشروع الوطني و متمسكين بمسالة تقرير المصير، و بدت لهم فكرة الحرية قضية لا رجعة فيها، و ازدادوا قوة بانصهارهم في صفوف الحركة الوطنية.
من المجاهدين الذين تعرضوا للتعذيب على يد الشرطة الفرنسية، المجاهد عمر عزوق الملقب بـ: السي عمار، التحق بصفوف جيش التحرير الوطني في أفريل1957 بتشجيع من والده الشهيد محمد أرزقي، و يعرف عمر عزوق بصاحب 24 رصاصة غرست في رجله اليسرى، دخل على إثرها في غيبوبة حيث اقتيد إلى المستشفى العسكري بسوق الغزلان، و لما استفاق من غيبوبته وجد رجله اليسرى مبتورة، لينقل في أفريل 1960 إلى سجن كادورا بقصر البوخاري، و هو عبارة عن سجن كبير تحيط به أربع ثكنات للعدو احتياطا لكل محاولة للهروب، ورغم حالته الصحية، فقد تعرض للاستنطاق و التعذيب من جديد، و شهد على تعذيبه الدكتور بوعلام بن حمودة الذي كان يسهر على تعليمهم اللغة العربية سرا، و نذكر اسم المجاهد رابح حنيفي الذي تعرض للتعذيب داخل فيلا التعذيب سميت بالعصافير، حيث سلطت عليه قوات العدو شتى أنواع التعذيب النفسي و الجسدي، و لا نظن أن جزائريا عايش الثورة أو قرأ عنها لا يتذكر كيف تم تعذيب الشهيد العربي بن مهيدي و ما فعلته القوات الفرنسية معه و مع أمثاله ، فما تعرض له العربي أصبح جريمة ضد الإنسانية ، و من أمثال المجاهدات.
فقد مس التعذيب أجساد نساء، و نتذكر اسم المقاومة ظريفة و المجاهدة جميلة بوعزة التي تعرضت للإستنطاق تحت التعذيب الشنيع لها إلى أن اعترفت بأنها هي من وضعت القنبلة بملهى فرنسي بالعاصمة سنة 1957، ثم لا ننسى المقاومة جميلة بوحيرد، التي يضرب بها المثل في العالم كله و قصتها التي بدأت كفدائية، شغلت الكثير من دول العالم، بل تحولت قضيتها إلى رأي عام دولي فضحت فيها الإعدامات و التعذيب في الجزائر، و قد عرفت قضية جميلة بوحيرد بجاك فيرجيس، الذي كان محاميها و رفع قضيتها إلى الرئيس الفرنسي شارل ديغول، كان هذا الأخير واحد من الأوفياء للقضايا الإنسانية الكبرى ، و الذين دافعوا عن العدالة، فكانوا أصدقاء الثورة التحريرية، على غرار المناضل سارج ميشال و اسمه الحقيقي جان لوسين دوشي، كان من المناضلين البارزين في الدفاع عن القضية العادلة للشعب الجزائري قبل ثورة أول نوفمبر إلى غاية الاستقلال، و يوجد جثمانه بمقبرة العالية، ثم موريس أودان، الذي ناضل لأجل استقلال الجزائر، و كان الجنرال أوساريس قبل وفاته في 2013 قد اعترف بأن موريس أودان طعن في القلب في 1957 بالجزائر العاصمة تحت أوامر الجنرال الفرنسي ماسو بعدما اختطفه مظليون فرنسيون وعذبوه.
من الصعب جدا الحديث عن جرائم التعذيب التي مارستها فرنسا داخل السجون و المحتشدات و المعتقلات، خاصة و ملف التعذيب ما يزال يثير جدلا في تاريخ فرنسا الإستعماري، هي في الحقيقة جرائم حرب يستحق فاعليها محاكمتهم، و من ثمة اعتراف الدولة الفرنسية بجرائم ضباطها التي ارتكبوها في حق الجزائريين و المجاهدين، و منهم أوساريس، بيجو، بيجار و ماسو، و غيرهم من الذين تفننوا في عمليات التعذيب ، مثل تعذيب المعتقلين و هم عراة بالماء البارد و الكهرباء، أو إدخال رؤوسهم معبأ بقاذورات المراحيض، أو قص أصابعهم بأداة حادة، تعليق السجين من رجليه، الكي بالتيار الكهربائي، أو وضع أقطاب الكهرباء في صدره أو ثدي المرأة و أعضائهما التناسلية، أو الحرق، إجلاسهم على فوهة القارورات، جرحهم بالزجاج ثم تمرير الملح على الجرح و هي من أبشع عمليات التعذيب، فعلى سبيل المثال لا الحصر أقدمت السلطات الاستعمارية عند اندلاع ثورة الزعاطشة عام 1849 على الإبادة الجماعية للأهالي، و هذا بتعليق الجرحى من الثوار على النخيل، نكاية بهم و تحديا للمقاومين، كما عملت فرنسا على تنصيب المقصلات، إذ أمر هيريبون بنصب مقصلة على باب معسكره ، رفع عليها ثلاثة رؤوس، رأس الشيخ بوزيان و رأس ابنه و عمره 20 سنة فقط، و كان الرأس الثالث هو رأس الشيخ موسى الدرقاوي، دون أن ننسى الحرق الجماعي و الدفن الجماعي للجزائريين و هم أحياء، فيما سميت بالإبادات الجماعية، و عمليات التهجير و الترحيل الجماعي بالقوة.
حتى لا ننسى.. ولن ننسى
إن أبشع أنواع التعذيب التي مورست ضد الجزائريين أثناء الثورة التحريرية وجب اليوم أن يتابع مرتكبيها أمام المحاكم الدولية، و إعادة الاعتبار للشعب الجزائري الذي أنهكت حرمته و مس شرفه، و كانت الحكومة الفرنسية على علم بالطرق البشعة في التعذيب ولكنها كانت تتجاهلها، و لم تعمل باتفاقيات جنيف ، فلا أحد يمكنه أن ينسى جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر التي تجلت في حرب الإبادة ، ضاربا بذلك كل القوانين الدولية عرض الحائط، و داس على كل المعاهدات لاسيما المادة 228 من معاهدة فرساي لسنة 1919، التي تنص على حق الحلفاء المنتصرين محاكمة مجرمي حرب سواء من قبل حكوماتهم الأصلية أو من قبل حكومات الدول التي وقعت على أرضها جرائم ضد الإنسانية، هذه الجرائم تشمل جرائم القتل و الإبادة و التعذيب و التهجير و غيرها سواء كانت فردية أو جماعية، وهذا ما نصت عليه المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي اعتمدت بقرار إجماعي من الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة بتاريخ 09 ديسمبر 1948 تحت رقم 290، و بذلك على الحكومة الجزائرية أن تعيد فتح ملف الجرائم التي عانى منها الشعب الجزائري أثناء الثورة.
أمام هذه الجرائم، و أمام هذه التضحيات، و البسالة و الصلابة، نقف متسائلين، هل هناك تضحية مثل هذه التضحيات؟ و هل هناك بطولة مثل هذه البطولات، لم تقدم أبدا تضحيات مثل التضحيات التي قدمها أبطال الجزائر شهداء و مجاهدين و فدائيين صمدوا أما أكبر جيش استعماري عرفته أوروبا ، سقطوا على مذبح الحرية في مقاومات عنيفة تضاف لها ما قدمته الجزائر من شهداء بين نوفمبر 54 و جويلية 62، أبطلوا فيها كل الشعارات الكاذبة التي رفعتها فرنسا، فالحديث إذن عن جرائم الإستعمار الفرنسي في الجزائر ذو شجون، لا يمكن لشعب أن يتحمله و هو يسترجع الذكرى الـ: 64 لاندلاع ثورة نوفمبر الخالدة، و الاحتفال بها هو احتفاء و إجلال لتضحيات الرجال و تكر يم للمجاهدين و الشهداء، لقد كانت ثورة التحرير معركة فريدة خاضها الشعب الجزائري بطلائع جيش التحرير الوطني و قيادة جبهة التحرير الوطني، و لم تستطع الآلة العسكرية الفرنسية بجنودها و عتادها المسندة بقوى الحف الأطلسي العسكرية أن تقتل عزيمة الشعب و تمنعه من تحقيق النصر و تقريره مصيره، باسترجاع دولته، و هنا نذكر الدور الذي لعبه النوفمبريون تحت لواء جبهة التحرير الوطني، و مهامهم في توحيد لكفاح و تنظيمه، و هذا ما يدفعنا غلى استعراض الأحداث الهامة في تاريخ الثورة و ما جاء به بيان أول نوفمبر، الوثيقة المتمثلة في مبدأ الكفاح و مبدأ الوحدة الوطنية الداخلية (سياسيا واجتماعيا) تجلت في التسمية الجديدة للحركة التي تقود النضال الثوري و هي جبهة التحرير الوطني و دعوة البيان كافة الأحزاب و الحركات الوطنية الجزائرية للانضمام إليها.
وقد عبر بيان أول نوفمبر 54 عن إيديولوجية ثورية كاملة شملت المبادئ و الأهداف ووسائل العمل، و من خلال هذا البيان أكدت جبهة التحرير الوطني أن وجودها كان ثمرة نضال طويل خاضه الشعب الجزائري منذ عشرات السنين، و حددت وثيقة بيان نوفمبر 54 الهدف الرئيسي لجبهة التحرير الوطني في الإستقلال الوطني بواسطة إعادة بناء الدولة الديمقراطية ضمن إطار المبادئ الإسلامية و احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني و هو مطلب وجد صداه في أدبيات الحركة الوطنية، و هذه الأخيرة تجمع بدورها مجموعة من المقومات و المواصفات كاللغة و الدين و الثقافة، مثلما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد بن نعمان في كتابه (الهوية الوطنية حقائق و مغالطات) طبعة 1996 ، إلى جانب ذلك وضع بيان نوفمبر أهدافا داخلية و خارجية، تتعلق أساسا بالتطهير السياسي و الوحدة الوطنية، تقول وثيقة بيان نوفمبر: (التطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية الى نهجها الحقيقي و تجميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري و تنظيمها لتصفية النظام الإستعاري، الثورة الجزائرية كانت تتبنى فكرة إعادة الدولة الجزائرية في إطار المبادئ الإسلامية و تحقيق وحدة شمال إفريقيا، و لهذا كان الغرض من إبراز بيان نوفمبر انتماء الجزائر الى العالم العربي الإسلامي و الرد على التزييف التاريخي من طرف المستعمر الذي حاول إدماج الجزائر بفرنسا.
إنه الإعتزاز بالوطن
كان الشعب الجزائري و لا يزال في طليعة الشعوب المناضلة التي يزخر تاريخها بالذكريات المجيدة الخالدة الحفلة بالأحداث لم يستسلم لها، بل حمل لواء الكفاح و الجهاد لتحقيق أهدافه الوطنية السامية، فكان اول نوفمبر 54 و كل الأيام الوطنية التي يجب ان يذكرها الجزائريون ، و يذكروا ما مر على إخوانهم منة محن و تعذيب ، و يذكرون القنابل و المحرقة و المعتقلات و السجون ومراكز التعذيب وأساليبه الوحشية ، و الجزائر اليوم و ككل سنة عن طريق جماهيرها الذين صنعوا الثورة و عن طريق الذين يؤمنون بها تحيي ذكرى عظيمة في قلب كل جزائري أصيل، تطبع كل سنة الحياة العامة تمعّنا في الأمس، ووقوفا على معطيات تاريخية كان فيها "نوفمبر" بداية حياة ثورية حاسمة بعد احتلال طويل..، في كل مدينة و في كل قرية تخرج جموع من الناس لحضور هذه الذكرى، يتوافدون كالحجيج إلى مقابر الشهداء – الرمز التاريخي- يتلون الفاتحة و يضعون أكاليل من الزهور و هي عادات دخيلة على المجتمع الجزائري المسلم، ينتظرون إلى غاية منصف الليل ليطلقوا أول رصاصة رمزية معبرين بذلك عن إخلاصهم ووفائهم لرسالة الشهيد، حتى السلطات المحلية توفر في هذا اليوم كل إمكانياتها لإنجاح هذه التظاهرة التاريخية، المنظمات، الجمعيات والأحزاب السياسية كلها على موعد اليوم للالتحام و التضامن وهي مصطلحات تعبر عن حضارة شعب صنع ثورة مجيدة، كانت الفاصل في تقرير مصيره و تحرره من كل القيود و الضغوطات الاستعمارية، ليمارس تلقائيته ويطلق العنان لسجاياه، وفي الفاتح من نوفمبر من كل سنة نجد الصحف و المجلات تخصص صفحات خاصة لهذا الاحتفال بالعناوين و التعليقات و التحليلات التي تثبت أهمية الذكرى، واصفة إياها بأفضل معاني الكلمة..
مثل هذه المناسبات ضرورة في حياة المجتمعات، تمارس على مر العصور وعلى مختلف المستويات، لكن الملاحظ..، أن نوفمبر الأمس غير نوفمبر اليوم، و قد لا يكون نوفمبر الغد، لأن الحياة اليومية تحولت إلى هموم و عمل وواجبات كبّلت الإنسان، و أفقدته طعم الحياة، ولأن الظروف أجبرته على التمرد و الابتعاد عن "الطبيعـــة الثوريــــة"، و غدت هذه الأخيرة عند البعض مجرّد وسيلة أو كما يقال ورقة للعبور، قصد تحقيق مصالح آنية، وعند البعض الآخر، فرصة لتصفية حسابات سياسية قديمة، لاسيما و في هذا اليوم تجتمع كل التشكيلات السياسية و قد اعتادت السلطات المحلية على إبراز حضورها هذا الاحتفال العظيم، أجل إنه عظيم عظم ما في الكون، لكن عند الذين يؤمنون بالثورة الحقة، وما قدمه الشهداء و المجاهدون الحقيقيون من تضحيات جسام لهذا الوطن الأبيّ، و ليس عند الذين يجعلون من نوفمبر الثورة أو جويلية النصر ومن كل مناسبة وطنية ورقة تجارية مربحة، و هنا حدث التصادم، صدام بين الأفراد والطبقات وبين الأجيال، لاسيما في ظل الصراعات الحزبية التي تعيشها الجزائر.
فأن يدّعِي المرء حُبَّ الوطن في الوقت ذاته يعمل على تخريبه سواء عن قصد أو غير قصد، ويترك هذا الوطن يعاني من التخلف والتمزق وعدم القدرة على منح كل مقومات الحضارة والرفاه لأبنائه، فذلك هو التناقض بعينه، وتلك هي الخيانة في معناها الحقيقي، إن المرء الذي يحب وطنه حقا، هو ذاك الذي يناضل من أجله، لا تهونه العقبات، بل تدفعه بقوة لتطهره من التشوهات والانحرافات، ويضعه على الطريق السليم، هل يكفي الاحتفال بنوفمبر الثورة أو جويلية النصر للتعبير عن الاعتزاز بالوطن دون الرغبة في فهم التاريخ، وكتابته وتدوينه للأجيال.؟ ومع مقولة: التاريخ ذاكرة الشعوب، نقف اليوم أمام المبادرة التي قامت بها وزارة المجاهدين بجمع شهادات المجاهدين عن تاريخ الثورة الجزائرية، فما نقرأه من مذكرات لمجاهدين وضباط لا يخرج عن إطار "السيرة الذاتية"، في هذه الحالة نتساءل إن كان سيعاد النظر في الكتابات التي أرخت لثورة من طرف باحثين أكاديميين، ومعرفة المرجعية التي ارتكزوا عليها، كلها أسئلة تدخل في صميم الموضوع، من أجل تدوين تاريخ الثورة بكل إيجابياتها وسلبياتها، ولثورة فجّرها الشعب الجزائري في الفاتح من نوفمبر، دفع فيها مليون و نصف مليون شهيد من خيرة أبنائه ثمنا للحصول على حريته و استقلاله، على الجزائر اليوم أن تجدد مطلبها في اعتراف فرنسا بجرائمها في حق الشعب الجزائر، وأن تقدم اعتذارات رسميا للشعب الجزائر، وأمام الصحافة الدولية.
ورقة علجية عيش
احتلال الفرنسي للجزائر عن غيره بأشنع الأساليب الاستعمارية، فمنذ أن وطأت قدمه البلاد عمد إلى استعمال القوة و أساليب القهر و التعذيب و الإبادة و قتل الروح المعنوية في المواطنين، و مسخ كل ما هو وطني، فقد عكس التعذيب عنصرية فرنسا و معاملتها البشعة و اللاإنسانية للجزائريين، كانت أعمالها الإجرامية أمام التاريخ و الرأي العام الدولي تؤكد بأن التعذيب كان خيارا تبنته فرنسا لإذلال الجزائريين، فكان على الجزائر بقيادة جبهة للتحرير الوطني أن تقرر مصيرها و تعلن الحرب، فكانت ثورة أول نوفمبر 1954 انفجارا حقيقيا في الساحة الدولية.
(ورقة علجية عيش)
(ورقة علجية عيش)
يعد موضوع التعذيب في الجزائر من المواضيع الشائكة التي وجب على المؤرخين أن يسلطوا الضوء عليها ، ليقفوا على الوقائع و الحقائق التاريخية التي كانت تعيشها الجزائر و شعبها يقتاد إلى السجون و المحتشدات آنذاك، خاصة و مطلب الشعب الجزائري ما زال قائما في إجبار فرنسا على الاعتراف بجرائمها إبان الاستعمار ، و تقديم اعتذار رسمي للشعب الجزائري و للتاريخ، و إن كانت الإعدامات التي طبقتها فرنسا ضد الجزائريين كانت كلها جماعية فإن سياسة التعذيب تمت بشكل فردي، و اعترافها اليوم بتعذيب موريس أودان، و إن كان يعتبر سابقة تاريخية، فقد سبق و أن خرجت على الشعب الجزائري بشهادة أوساريس حول تعذيبه للشهيد العربي بن مهيدي، كانت شهادة للتاريخ و لم تكن تعبيرا عن الندم أو اعتذار لما حدث، رغم خروج مؤرخين فرنسيين عن صمتهم، و كشفوا للعالم أساليب التعذيب التي مارستها فرنسا ضد الجزائريين، و وثقوا كتبهم بوثائق لإثبات حادثة التعذيب في الجزائر، و هي حسب القوانين الدولية تعد جريمة حرب ضد الإنسانية، خاصة و أن ظاهرة التعذيب أثناء الثورة تمت كوسيلة لقمع الجزائريين، و الضغط عليهم من أجل الحصول على معلومات من شأنها أن تقضي على الثورة، و توسعت فكرة التعذيب لإعطائها صبغة قانونية، و لكن رغم سياسة الضغط و الاضطهاد، ظل الجزائريون أوفياء للمشروع الوطني و متمسكين بمسالة تقرير المصير، و بدت لهم فكرة الحرية قضية لا رجعة فيها، و ازدادوا قوة بانصهارهم في صفوف الحركة الوطنية.
من المجاهدين الذين تعرضوا للتعذيب على يد الشرطة الفرنسية، المجاهد عمر عزوق الملقب بـ: السي عمار، التحق بصفوف جيش التحرير الوطني في أفريل1957 بتشجيع من والده الشهيد محمد أرزقي، و يعرف عمر عزوق بصاحب 24 رصاصة غرست في رجله اليسرى، دخل على إثرها في غيبوبة حيث اقتيد إلى المستشفى العسكري بسوق الغزلان، و لما استفاق من غيبوبته وجد رجله اليسرى مبتورة، لينقل في أفريل 1960 إلى سجن كادورا بقصر البوخاري، و هو عبارة عن سجن كبير تحيط به أربع ثكنات للعدو احتياطا لكل محاولة للهروب، ورغم حالته الصحية، فقد تعرض للاستنطاق و التعذيب من جديد، و شهد على تعذيبه الدكتور بوعلام بن حمودة الذي كان يسهر على تعليمهم اللغة العربية سرا، و نذكر اسم المجاهد رابح حنيفي الذي تعرض للتعذيب داخل فيلا التعذيب سميت بالعصافير، حيث سلطت عليه قوات العدو شتى أنواع التعذيب النفسي و الجسدي، و لا نظن أن جزائريا عايش الثورة أو قرأ عنها لا يتذكر كيف تم تعذيب الشهيد العربي بن مهيدي و ما فعلته القوات الفرنسية معه و مع أمثاله ، فما تعرض له العربي أصبح جريمة ضد الإنسانية ، و من أمثال المجاهدات.
فقد مس التعذيب أجساد نساء، و نتذكر اسم المقاومة ظريفة و المجاهدة جميلة بوعزة التي تعرضت للإستنطاق تحت التعذيب الشنيع لها إلى أن اعترفت بأنها هي من وضعت القنبلة بملهى فرنسي بالعاصمة سنة 1957، ثم لا ننسى المقاومة جميلة بوحيرد، التي يضرب بها المثل في العالم كله و قصتها التي بدأت كفدائية، شغلت الكثير من دول العالم، بل تحولت قضيتها إلى رأي عام دولي فضحت فيها الإعدامات و التعذيب في الجزائر، و قد عرفت قضية جميلة بوحيرد بجاك فيرجيس، الذي كان محاميها و رفع قضيتها إلى الرئيس الفرنسي شارل ديغول، كان هذا الأخير واحد من الأوفياء للقضايا الإنسانية الكبرى ، و الذين دافعوا عن العدالة، فكانوا أصدقاء الثورة التحريرية، على غرار المناضل سارج ميشال و اسمه الحقيقي جان لوسين دوشي، كان من المناضلين البارزين في الدفاع عن القضية العادلة للشعب الجزائري قبل ثورة أول نوفمبر إلى غاية الاستقلال، و يوجد جثمانه بمقبرة العالية، ثم موريس أودان، الذي ناضل لأجل استقلال الجزائر، و كان الجنرال أوساريس قبل وفاته في 2013 قد اعترف بأن موريس أودان طعن في القلب في 1957 بالجزائر العاصمة تحت أوامر الجنرال الفرنسي ماسو بعدما اختطفه مظليون فرنسيون وعذبوه.
من الصعب جدا الحديث عن جرائم التعذيب التي مارستها فرنسا داخل السجون و المحتشدات و المعتقلات، خاصة و ملف التعذيب ما يزال يثير جدلا في تاريخ فرنسا الإستعماري، هي في الحقيقة جرائم حرب يستحق فاعليها محاكمتهم، و من ثمة اعتراف الدولة الفرنسية بجرائم ضباطها التي ارتكبوها في حق الجزائريين و المجاهدين، و منهم أوساريس، بيجو، بيجار و ماسو، و غيرهم من الذين تفننوا في عمليات التعذيب ، مثل تعذيب المعتقلين و هم عراة بالماء البارد و الكهرباء، أو إدخال رؤوسهم معبأ بقاذورات المراحيض، أو قص أصابعهم بأداة حادة، تعليق السجين من رجليه، الكي بالتيار الكهربائي، أو وضع أقطاب الكهرباء في صدره أو ثدي المرأة و أعضائهما التناسلية، أو الحرق، إجلاسهم على فوهة القارورات، جرحهم بالزجاج ثم تمرير الملح على الجرح و هي من أبشع عمليات التعذيب، فعلى سبيل المثال لا الحصر أقدمت السلطات الاستعمارية عند اندلاع ثورة الزعاطشة عام 1849 على الإبادة الجماعية للأهالي، و هذا بتعليق الجرحى من الثوار على النخيل، نكاية بهم و تحديا للمقاومين، كما عملت فرنسا على تنصيب المقصلات، إذ أمر هيريبون بنصب مقصلة على باب معسكره ، رفع عليها ثلاثة رؤوس، رأس الشيخ بوزيان و رأس ابنه و عمره 20 سنة فقط، و كان الرأس الثالث هو رأس الشيخ موسى الدرقاوي، دون أن ننسى الحرق الجماعي و الدفن الجماعي للجزائريين و هم أحياء، فيما سميت بالإبادات الجماعية، و عمليات التهجير و الترحيل الجماعي بالقوة.
حتى لا ننسى.. ولن ننسى
إن أبشع أنواع التعذيب التي مورست ضد الجزائريين أثناء الثورة التحريرية وجب اليوم أن يتابع مرتكبيها أمام المحاكم الدولية، و إعادة الاعتبار للشعب الجزائري الذي أنهكت حرمته و مس شرفه، و كانت الحكومة الفرنسية على علم بالطرق البشعة في التعذيب ولكنها كانت تتجاهلها، و لم تعمل باتفاقيات جنيف ، فلا أحد يمكنه أن ينسى جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر التي تجلت في حرب الإبادة ، ضاربا بذلك كل القوانين الدولية عرض الحائط، و داس على كل المعاهدات لاسيما المادة 228 من معاهدة فرساي لسنة 1919، التي تنص على حق الحلفاء المنتصرين محاكمة مجرمي حرب سواء من قبل حكوماتهم الأصلية أو من قبل حكومات الدول التي وقعت على أرضها جرائم ضد الإنسانية، هذه الجرائم تشمل جرائم القتل و الإبادة و التعذيب و التهجير و غيرها سواء كانت فردية أو جماعية، وهذا ما نصت عليه المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي اعتمدت بقرار إجماعي من الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة بتاريخ 09 ديسمبر 1948 تحت رقم 290، و بذلك على الحكومة الجزائرية أن تعيد فتح ملف الجرائم التي عانى منها الشعب الجزائري أثناء الثورة.
أمام هذه الجرائم، و أمام هذه التضحيات، و البسالة و الصلابة، نقف متسائلين، هل هناك تضحية مثل هذه التضحيات؟ و هل هناك بطولة مثل هذه البطولات، لم تقدم أبدا تضحيات مثل التضحيات التي قدمها أبطال الجزائر شهداء و مجاهدين و فدائيين صمدوا أما أكبر جيش استعماري عرفته أوروبا ، سقطوا على مذبح الحرية في مقاومات عنيفة تضاف لها ما قدمته الجزائر من شهداء بين نوفمبر 54 و جويلية 62، أبطلوا فيها كل الشعارات الكاذبة التي رفعتها فرنسا، فالحديث إذن عن جرائم الإستعمار الفرنسي في الجزائر ذو شجون، لا يمكن لشعب أن يتحمله و هو يسترجع الذكرى الـ: 64 لاندلاع ثورة نوفمبر الخالدة، و الاحتفال بها هو احتفاء و إجلال لتضحيات الرجال و تكر يم للمجاهدين و الشهداء، لقد كانت ثورة التحرير معركة فريدة خاضها الشعب الجزائري بطلائع جيش التحرير الوطني و قيادة جبهة التحرير الوطني، و لم تستطع الآلة العسكرية الفرنسية بجنودها و عتادها المسندة بقوى الحف الأطلسي العسكرية أن تقتل عزيمة الشعب و تمنعه من تحقيق النصر و تقريره مصيره، باسترجاع دولته، و هنا نذكر الدور الذي لعبه النوفمبريون تحت لواء جبهة التحرير الوطني، و مهامهم في توحيد لكفاح و تنظيمه، و هذا ما يدفعنا غلى استعراض الأحداث الهامة في تاريخ الثورة و ما جاء به بيان أول نوفمبر، الوثيقة المتمثلة في مبدأ الكفاح و مبدأ الوحدة الوطنية الداخلية (سياسيا واجتماعيا) تجلت في التسمية الجديدة للحركة التي تقود النضال الثوري و هي جبهة التحرير الوطني و دعوة البيان كافة الأحزاب و الحركات الوطنية الجزائرية للانضمام إليها.
وقد عبر بيان أول نوفمبر 54 عن إيديولوجية ثورية كاملة شملت المبادئ و الأهداف ووسائل العمل، و من خلال هذا البيان أكدت جبهة التحرير الوطني أن وجودها كان ثمرة نضال طويل خاضه الشعب الجزائري منذ عشرات السنين، و حددت وثيقة بيان نوفمبر 54 الهدف الرئيسي لجبهة التحرير الوطني في الإستقلال الوطني بواسطة إعادة بناء الدولة الديمقراطية ضمن إطار المبادئ الإسلامية و احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني و هو مطلب وجد صداه في أدبيات الحركة الوطنية، و هذه الأخيرة تجمع بدورها مجموعة من المقومات و المواصفات كاللغة و الدين و الثقافة، مثلما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد بن نعمان في كتابه (الهوية الوطنية حقائق و مغالطات) طبعة 1996 ، إلى جانب ذلك وضع بيان نوفمبر أهدافا داخلية و خارجية، تتعلق أساسا بالتطهير السياسي و الوحدة الوطنية، تقول وثيقة بيان نوفمبر: (التطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية الى نهجها الحقيقي و تجميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري و تنظيمها لتصفية النظام الإستعاري، الثورة الجزائرية كانت تتبنى فكرة إعادة الدولة الجزائرية في إطار المبادئ الإسلامية و تحقيق وحدة شمال إفريقيا، و لهذا كان الغرض من إبراز بيان نوفمبر انتماء الجزائر الى العالم العربي الإسلامي و الرد على التزييف التاريخي من طرف المستعمر الذي حاول إدماج الجزائر بفرنسا.
إنه الإعتزاز بالوطن
كان الشعب الجزائري و لا يزال في طليعة الشعوب المناضلة التي يزخر تاريخها بالذكريات المجيدة الخالدة الحفلة بالأحداث لم يستسلم لها، بل حمل لواء الكفاح و الجهاد لتحقيق أهدافه الوطنية السامية، فكان اول نوفمبر 54 و كل الأيام الوطنية التي يجب ان يذكرها الجزائريون ، و يذكروا ما مر على إخوانهم منة محن و تعذيب ، و يذكرون القنابل و المحرقة و المعتقلات و السجون ومراكز التعذيب وأساليبه الوحشية ، و الجزائر اليوم و ككل سنة عن طريق جماهيرها الذين صنعوا الثورة و عن طريق الذين يؤمنون بها تحيي ذكرى عظيمة في قلب كل جزائري أصيل، تطبع كل سنة الحياة العامة تمعّنا في الأمس، ووقوفا على معطيات تاريخية كان فيها "نوفمبر" بداية حياة ثورية حاسمة بعد احتلال طويل..، في كل مدينة و في كل قرية تخرج جموع من الناس لحضور هذه الذكرى، يتوافدون كالحجيج إلى مقابر الشهداء – الرمز التاريخي- يتلون الفاتحة و يضعون أكاليل من الزهور و هي عادات دخيلة على المجتمع الجزائري المسلم، ينتظرون إلى غاية منصف الليل ليطلقوا أول رصاصة رمزية معبرين بذلك عن إخلاصهم ووفائهم لرسالة الشهيد، حتى السلطات المحلية توفر في هذا اليوم كل إمكانياتها لإنجاح هذه التظاهرة التاريخية، المنظمات، الجمعيات والأحزاب السياسية كلها على موعد اليوم للالتحام و التضامن وهي مصطلحات تعبر عن حضارة شعب صنع ثورة مجيدة، كانت الفاصل في تقرير مصيره و تحرره من كل القيود و الضغوطات الاستعمارية، ليمارس تلقائيته ويطلق العنان لسجاياه، وفي الفاتح من نوفمبر من كل سنة نجد الصحف و المجلات تخصص صفحات خاصة لهذا الاحتفال بالعناوين و التعليقات و التحليلات التي تثبت أهمية الذكرى، واصفة إياها بأفضل معاني الكلمة..
مثل هذه المناسبات ضرورة في حياة المجتمعات، تمارس على مر العصور وعلى مختلف المستويات، لكن الملاحظ..، أن نوفمبر الأمس غير نوفمبر اليوم، و قد لا يكون نوفمبر الغد، لأن الحياة اليومية تحولت إلى هموم و عمل وواجبات كبّلت الإنسان، و أفقدته طعم الحياة، ولأن الظروف أجبرته على التمرد و الابتعاد عن "الطبيعـــة الثوريــــة"، و غدت هذه الأخيرة عند البعض مجرّد وسيلة أو كما يقال ورقة للعبور، قصد تحقيق مصالح آنية، وعند البعض الآخر، فرصة لتصفية حسابات سياسية قديمة، لاسيما و في هذا اليوم تجتمع كل التشكيلات السياسية و قد اعتادت السلطات المحلية على إبراز حضورها هذا الاحتفال العظيم، أجل إنه عظيم عظم ما في الكون، لكن عند الذين يؤمنون بالثورة الحقة، وما قدمه الشهداء و المجاهدون الحقيقيون من تضحيات جسام لهذا الوطن الأبيّ، و ليس عند الذين يجعلون من نوفمبر الثورة أو جويلية النصر ومن كل مناسبة وطنية ورقة تجارية مربحة، و هنا حدث التصادم، صدام بين الأفراد والطبقات وبين الأجيال، لاسيما في ظل الصراعات الحزبية التي تعيشها الجزائر.
فأن يدّعِي المرء حُبَّ الوطن في الوقت ذاته يعمل على تخريبه سواء عن قصد أو غير قصد، ويترك هذا الوطن يعاني من التخلف والتمزق وعدم القدرة على منح كل مقومات الحضارة والرفاه لأبنائه، فذلك هو التناقض بعينه، وتلك هي الخيانة في معناها الحقيقي، إن المرء الذي يحب وطنه حقا، هو ذاك الذي يناضل من أجله، لا تهونه العقبات، بل تدفعه بقوة لتطهره من التشوهات والانحرافات، ويضعه على الطريق السليم، هل يكفي الاحتفال بنوفمبر الثورة أو جويلية النصر للتعبير عن الاعتزاز بالوطن دون الرغبة في فهم التاريخ، وكتابته وتدوينه للأجيال.؟ ومع مقولة: التاريخ ذاكرة الشعوب، نقف اليوم أمام المبادرة التي قامت بها وزارة المجاهدين بجمع شهادات المجاهدين عن تاريخ الثورة الجزائرية، فما نقرأه من مذكرات لمجاهدين وضباط لا يخرج عن إطار "السيرة الذاتية"، في هذه الحالة نتساءل إن كان سيعاد النظر في الكتابات التي أرخت لثورة من طرف باحثين أكاديميين، ومعرفة المرجعية التي ارتكزوا عليها، كلها أسئلة تدخل في صميم الموضوع، من أجل تدوين تاريخ الثورة بكل إيجابياتها وسلبياتها، ولثورة فجّرها الشعب الجزائري في الفاتح من نوفمبر، دفع فيها مليون و نصف مليون شهيد من خيرة أبنائه ثمنا للحصول على حريته و استقلاله، على الجزائر اليوم أن تجدد مطلبها في اعتراف فرنسا بجرائمها في حق الشعب الجزائر، وأن تقدم اعتذارات رسميا للشعب الجزائر، وأمام الصحافة الدولية.
ورقة علجية عيش