مصطفى الحاج حسين - في دورة الأغرار...

حان وقت ذهابي إلى الجيش، ولقد هدأت الأوضاع في (حلب)، بعض الشّيء، ولكن ما زال الجيش منتشراً، والدّبابات تحتل الأماكن الهامة، في شوارع المدينة، الاعتقال والمداهمات، والحواجز الطّيارة مستمرّة، ولكن بوتيرة أقل حدّة.. الأحاديث اليوم عن نجاح الثّورة الإسلاميّة في (ايران) ، وعن اتّفاقية (كامب ديفد) ، بين (مصر وإسرائيل)
.. ولكنّ العجب أن نقمع ثورة إسلاميّة في بلدنا، ونحتفي بثورة إسلاميّة في إيران.. المهم ذهبت إلى شعبة (التّجنيد) ، واستلمت مهمة إلى مركز (النّبك)، وفي (حلب) ودّعت أصدقائي، (وليد)، و(عماد)، و (مصباح)، والبقيَّة، وحلقت شعري عند الحلاق، وظهرت صلعتي، بشكلّ محزن.. وودّعت أهلي، وذهبت إلى (النّبك).. تعذبت حتى وصلت، لم أكن أعرف الطّريق والموقع جيداً، وهناك وجدت شباباً كثيرون، أتوا مثلي، للالتحاق بالقطعة العسكرية، التي سيتم فرزهم إليها.. وسلّمت مهمّتي، وكان عليّ أن أنتظر صدور فرزي، وبالتّالي سوف أنام هنا في مركز (النّبك)، وتمّ تحديد المهجع، الذي سأقضي ليلتي فيه.. المفاجأة.. كان هناك أشخاص، لهم أكثر من ثلاثة أيام، وهم ينتظرون استلام فرزهم، و المفاجأة الثّانية، كانت مجيء بعض العناصر القدماء، بلا رتب عسكريّة، يخدمون هنا، في مركز (النّبك) ، يريدون أن يتسلّوا، ويضحكوا منّا نحن الجدد، ويمارسوا علينا النّظام العسكري، والويل لمن يرفض إطاعتهم، أو يرفض تنفيذ أوامرهم.. دخلوا علينا ونحن نيام، وصاروا يصرخون بنا أن ننهض، وننزل عن أسرتنا، وأن ننفّذ التّمارين الرّياضّية، وراحوا يدلقون الماء البارد، فوق أسرة النّائمين.. وهناك من خافهم، وصار ينفّذ لهم أوامرهم، وهناك من رفض، وقال لهم - أنتم لا علاقة لكم بنا، وغداً سنقدّم بكم الشّكوى - ، فتشجّعت ورفضت تنفيذ أوامرهم.

وكانت نصيحة البعض، أن نعود إلى أهلنا، وبعد عدة أيّام، نأتي ونستلم مهمّتنا.. وأعجبتُ بهذه الفكرة،وعدتُ إلى (حلب).

كان (عماد) قد تماثل للشفاء، وعادت
علاقتنا مثلما كانت في السّابق، وأزيلت عنه الحراسة المشدّدة، من جهتي أستطيع أن أقول، بدأ زوج أخته، يميّزني عن (مصباح)، الذي كان ينظر له بخشية وريبة، (فمصباح) طالب علوم اقتصاديّة، وأكبر منّي، وأقدم صداقة مع (عماد)، بينما أنا فقد تمّت صداقتي مع (عماد)، بعد أن عرف عنه، بأنّه شوعيّ ، إذاً أنا بريء من تهمة إفساد (عماد)، و أيضاً أنا أصغر سنّاً من (عماد)، وهذا يعني أنّني لا أستطيع، السّيطرة على (عماد)، ولا يمكن لي أن أقوده.. والأهم من كلّ هذا وذاك، هو معرفة زوج شقيقة (عماد)، بأنّني عامل بناء، لا علاقة لي بالدراسة، ولا في الجامعة، وبالتالي أنا رجل على قدّي.. بسيط، وغير متعلّم، ولست بالخطير على (عماد).. وفكره.. وعلى هذا الأساس، فأنا برأيّ زوج الأخت هذا، لا أشكّل خطراً على (عماد)، ولهذا عدت أزور (عماد)، وقت أشاء، ولا أحد يطردني، أو يعتذر منّي، أو يطلب منّي قطع علاقتي وصداقتي، وصلتي (بعماد).

أمضيت، ثلاثة أيّام بصحبة (عماد)، و (مصباح)، و (وليد).. هؤلاء هم أهمّ من عندي من أصدقاء، خاصّة وأخي (سامي) بعيد عنّي في مدرسته، في (عين العرب).

وتكّررت عمليّة ذهابي إلى مركز السّواقة في (النّبك)، وعودتي إلى أهلي في (حلب).. هناك من كان ينصح بعدم تسليم أنفسنا، حتّى وإن نادوا على أسمائِنا، نتظاهر بأنّنا غير موجودين، وهكذا في كلّ مرّة، كنت أدفع المصاريف، وأجرة الطّرق، ومصروفي حتّى وإن كنت في (حلب)، وأنا متوقّف عن العمل مع أبي، الذي ما زال يعمل في مشروع، مساكن الشّرطة.. وكنت آخذ مصروفي منه.. وأتهرّب من العودة للشغل معه، وهو في حاجة ماسة، لأن أساعده في العمل، سواء على الصّعيد المادي، أو في تخفيف عبء الشّغل وصعوبته.. وكانت أمّي واسطتي في جلب النّقود إليّ، وأنا في كلّ مرّة أودّعهم صباحا لأعود إليهم مساء، حتّى ملّوا من وداعي،واستقبالي، في ذات اليوم.. واستمر هذا الحال من تاريخ /13/ آب إلى /31/ منه.. و في اليوم الأخير، من ذهابي إلى (النّبك)، لم أودّع أهلي، ولم أقبّل يد والدي، ولا يد أمّي، حتّى أخوتي الصّغار، لم أحضنهم، مثل كلّ مرّة، حين أذهب.. وأمّي لم تزوّدني بالآكلات والأطعمة، ولا أعطاني أبي مصروفي، فقد تطول السّفرة.. حملت حقيبتي وغادرت في الصّباح الباكر، وكان في يوم غد، الواحد من أيلول، موعد افتتاح المدارس، وكان على أخي الصّغير (أيمن)، الالتحاق في مدرسة (صالح حجار).. ومطلوب من أخي (سامي) أيضاً، أن يلتحق بمدرسته، كمعلّم وحيد، في قرية، تابعة لمدينة (عين العرب).. وكان (سامي) قد سجّل في (جامعة بيروت)، في قسم (الفلسفة وعلم النفس).. الاختصاص الذي يتمناه، ويعشقه.

في المركز العسكري في (النّبك)، وقبل أن يقرؤوا علينا، أسماء من تمّ فرزهم، قالوا لنا:

- من يطلع اسمه اليوم، سيكون فرزه إلى (الحرس الجمهوري). ففرحنا، وكلّ واحد منّا تمنّى أن يذاع اسمه،
وحين نادوا على اسمي، هرعت، وأنا أحمد الله، لأنّه استجاب لدعائي.

المساعد الذي صرنا تابعين له، ذو الكرش المنتفخة، أمرنا أن نصعد سيارة عسكرية مكشوفة نوع (واز 130) ، وصعد هو إلى جانب السّائق من أمام، وحين سأله، أحدنا، أين مكان اتجاهنا؟.. قال:

- بعد (دمشق) بقليل.

كنّا أكثر من عشرين جنديّاً، لا أعرف منهم أحدا.. صرت أبحث بنظراتي ، عن من هو (حلبي)، انتبه إلى اللهجة، وأعرف إن كان ابن البلد.. هنا يتّحد الرّيف بالمدينة، كلّ من هو ابن (حلب) وريفها، اسمه ابن البلد.. وهذا الدّرس الأوّل لي، الذي تعلّمته، في غربتي.

السّيارة غير مريحة، والجلوس على مقاعدها متعب، والسّائق أرعن، أو لا يعرف أصول القيادة.. لدرجة أنّنا صرنا نتمسك بجوانب السّيارة، خشية من الوقوع.. كذلك كان من الصّعب علينا، أن ندخّن ونشعل السّجائر، بسبب الهواء، السّاخن الذي يتدفق بسرعة من بيننا، ومن فوق رؤوسِنا.. وحتّى لا لذّة للتّدخين، ولا لسماع الأحاديث التي تعصف بها الرّياح، و تبعثرها فلا تفهم منها شيئا.

البعض منّا أخرجوا من حقائبهم، (الجمدانات)، الحمراء والسّوداء، ليحتموا من قوْة الرّيح، وأنا طوال عمري لم أستخدم (الجمدانة) ، وكنت أكرهها، وأكره، أن يستخدمها أبي، لأني أعتبرها، غير حضاريْة، ومن يضعها فوق رأسه، يكون رجعيّاً ومتخلْفاً.. ولكنّي الآن، وفي هذه السّيارة المتوحِّشة، تمنّيت أن يكون عندي، مثل هذه (الجمدانة).

بسبب قيادة السّائق الأحمق، والطّائش، والمتهوّر، و غير المسؤول، وجدتني وبلا شعور منّي، أعود إلى ربي، وأقرأ بداخلي الآيات القرآنية.

طال الطّريق، قال أحد رفاقنا: نحن
في طريقنا إلى (درعا)، أنا أعرف هذا الطْريق.

وصاح رفيق آخر، مغتاظاً:

- ضحكوا علينا.. قالوا، إلى (الحرس الجمهوري).. أولاد الكلب.. كذبوا.

بعد نصف ساعة، وأكثر.. خفّت سرعة السّيارة، وصفّ السّائق سيارته أمام استراحة.. ونزل هو والمساعد، ذو الكرش الكبيرة، وجاء إلينا، يسأل:

- ألم تجوعوا؟.. من يريد أن يأكل، أو يذهب إلى دورة المياه، أو يغسّل، ينزل ومن أراد منكم، أن يبقى راكبا، في السّيارة فليبقى.

وانهالت الأسئلة من معظمنا:

- سيّدي.. ألم نصل بعد؟!.

- قلتَ لنا عند (الحرس الجمهوري)؟!.

- كم بقي لنا، لنصل؟!.

وقفزنا جميعنا من السّيارة، على الأرض، الإسفلت.

الاستراحة كبيرة وجميلة، والطّاولات
كثيرة ومرتّبة، والمقاعد مريحة، ولا ريح مزعجة، بل موسيقى راقية، وهادئة، ونوافير مياه مريحة للأعصاب، توزّعنا.. هناك من زملاؤنا من دعا المساعد والسّائق على الغداء، على حسابه الخاص.. وأنا نقودي قليلة، لم آخذ من أبي، في هذه المرّة، فقد أعطاني عدْة مرات، وأنا كنت أنفقهم آجار طريق، وعلى المصروف الشّخصي.

انتبذت طاولة ، بعيدة عن الجميع، بعد أن اشتريت (صندويشة) فلافل، وكأساً من الشّايِ، ولم أجد دخّان (الحمراء الطّويلة) ، يوجد كلّ أنواع الدّخان الوطنيّ الرديء، ما عدا (الحمراء الطويلة)، التي هي في الأساس، غير متوفّرة في (حلب).. وهناك دخّان أجنبيّ، مرتفع الثّمن.

وحين همّمنا بالمغادرة، تقدّمتُ من سيادة المساعد أوّل، وسألته:

- سيّدي.. من أين أحصل على (الحمراء الطويلة)؟.

ردّ السّائق، ذو الوجه المشوّه:

- في الطّريق، أتوقّفَ لك عند الدّكان، وأنت تأخذ ما تريد.

ولم يتوقّف السّائق، كما وعدني، مشى فينا، وتجاوزنا مدناً، وبلدات، وقرى، وصرنا في البراري، وعبرنا الحقول، والأشجار، والحفريات، والمطبّات.. واقترب المساء، حين دخلت السّيارة في طريق فرعي، ترابيّ غير معبّد، وبعد دقائق، دخلنا معسكراً، فيه الكثير من الخيم، والقليل من المهاجع، والمكاتب، وأمام أحد المكاتب، بعد أن اجتزنا السّاحة التّرابية، توقّفت السّيارة، ونزل منها السّائق والمساعد أوّل ، وأمرونا بالنّزول.

وعلى الفور التمّ، حولنا بعض عناصر الصفّ الضباط، أنا أعرف الرّتب العسكريّة، هذا رقيب، وذاك رقيب أوّل، والآخر برتبة عرّيف، ثمّ جاء ضابط برتبة ملازم، وجهه محروق، وشفته العليا مشقوقة، كأنّه خاض عشرات الحروب، ووصل أيضا ضابط طويل القامة، نحيف الجسم، أسمر البشرة، ظريف الوجه، ذو شنب خفيف الشّعر، متناسق، وخرج علينا المساعد أوّل، الذي دخل المكتب، فور وصولنا، وحين خرج، صرخ بنا:

- عناصر الأغرار.. تعالوا أمامي، وشكّلوا رتلاً أحاديّاً، هنا أمامي.. ولا أريد حركة منكم، قفوا باستعداد.. سنأخذ تفقداً لكم، ومن يسمع اسمه، يرفع يده، ويقول حاضر.

صاروا ينادون على أسمائنا،والعناصر المؤلْفة من الضّباط وصفّ الضّباط، كانوا يفتلون حولنا.. يتفرّسون وجوهنا، وكانت الشّمس تميل إلى المغيب، وبعد أن انتهى المساعد أوّل، من تفقد أسمائنا، صاح فينا، بصوت جهوري:

- أغرار.. (استاعد).

ثم التفت لعند النّقيب، وقدْم التّحيّةَ العسكريّة، مع ضرب الأرض (ببوطه) العسكريّ، بقوة، وصرخ:

- الأغرار.. جاهزون للتفتيش، سيّدي النّْقيب.

وصاح بنا الملازم المحروق الوجه:

- (استارح.. استاعد..) رتلاً (آحاديّاً) اتّخذ.. ممنوع الحركة والكلام، والتّلفت، ضع حقيبتك إلى جنبك، وافتحها إن كانت مغلقة، ثم قف وانظر في (نقرة) رأس، من يقف أمامك، ولا تتحدث إلّا إن تحدّث معك أحدنا.

بدأ التفتيش، وظهر كلّ ما في الحقائب، و (الشّنط)، كانوا رفاقي معظمهم، قادمين من الأرياف، والواحد منهم ، بسيط، وغير متعلّم، راعي، فلاح، (أمّيّ)، لذلك كانوا يحملون (الجمدانة)، وهناك من يسمّيها (بالشّماخ)، أو (الرّاديو)، أو (المسبحة)، أو (ورق الشّدة)..فتمّ مصادرة كلّ هذه المحظورات هنا في دورة الأغرار.

واقترب منّي من يحمل رتبة الرّقيب
ونظر إليّ، ثمّ إلى حقيبتي، المعدنيّة (تَنَكْ)، وكانت كبيرة، وطلب منّي فتحها، وفتحتها.. لم أكن أحمل فيها، (جمدانة)، ولا (مسبحة)، ولا (ورق الشْدة)، ولا (الرّاديو) .. بل كانت مليئة بالكتب، والدّفاتر، والأفلام، والمجلات، وديوان شعر لي، منسوخ على الآلة الكاتبة.

نظر إليّ (الرّقيب)، بدهشة، واستغراب، وحيرة، وكأنَّهُ غير مصدّق ما يشاهد، وسألني:

- ما هذا؟!. قلت:

- كتب.

ابتسم.. وتلفّت حوله، ثمّ نادى على النّقيب:

- سيّدي.. النّقيب (سليمان).. ممكن أن تأتي وتشاهد، ما في هذه الحقيبة!.

واقترب النّقيب، وسبقه الجميع، ونظروا إلى ما بداخل الحقيبة، ثَمّ تطلّعوا بوجهي، وضحكوا، وابتسموا، واندهشوا، واستغربوا، وتسألوا:

- ما هذا.. إلى أين أنت قادم؟!..

وسألني النّقيب:

- لماذا هذه الكتب؟!.. أجبت:

- لكي أقرأها.. وقت فراغي.

أمرني النّقيب وهو يبتسم:

- تعال معي.. أحمل حقيبتك،ورافقني إلى المكتب.

انحنيت، وحملت حقيبتي، وكان المساء قد حلّ فوقنا.

دخلت المكتب، كان هناك ضابط، يجلس خلف طاولته.. برتبة (رائد).. نظر إلى النّقيب، ثمّ رمقني بنظرة متعالية، قال النّقيب (سليمان) ضاحكاً، وهو يشير بيده، نحوي، ونحو حقيبتي:

- انظر سيّدي.. ماذا يحمل هذا العسكريّ معه!!.

وضعت حقيبتي على أرض المكتب الخشبيّ، وفتحتها.. ونهضَ سيادة (الرّائد)، ليلقي نظرة على ما بداخل الحقيبة.. عدد الكتب ثلاثون كتاباً، وخمس مجلات.. دهش، وابتسم، وقال:

- هل تريد يا ابني، أن تفتح عندي، مركزاً ثقافياً؟!.. لِمَ اصطحبت معك، كل هذه الكتب؟!.

كانوا، قد دخلوا جميعهم، منهم من وقف عند الباب، وبعضهم خطا نحو الدّاخل، وفي مقدمتهم الملازم، المشّوه الوجه، والمساعد، وصفّ الضّباط.

ثمّ أردف، يسألني:

- هل تحمل شهادة مدرسيّة؟!. قلت:

- سيّدي.. هذه الكتب سأقرؤها أثناء فراغي، أنا أحبّ المطالعة، وأحاول أن أكتب الشّعر.. وأنا لا أحمل شهادة الابتدائي، وأعمل في البناء.

تعجّبوا.. استغربوا.. دهشوا.. وابتسموا، وهناك من علت ضحكته.. وسألوا:

- معقول!!.. هذا يا سيّدي؟!.

صرف (الرائد) الجميع، وتركني عنده، طلب منّي أن أغلق الباب، وأن أجمع كتبي على طاولته.. وحين فعلت، طلب منّي الجلوس، على كرسيّ بالقرب منه:

- منذ متى تقرأ الكتب؟.

- منذ طفولتي.

- لماذا لم تكمل تعليمك؟!.

- طيش.. و ولدنة.

- من تحبّ من الكتّاب العرب؟.

- قديماً.. أم حديثاً؟.

- لنقل في البداية.. قديماً.

- أحبّ المعلّقات.. والمتنبّي.. وأبو النّواس، والمعرّي. والجاحظ، وكثر.
- ومن الأدباء الحديثين؟!.

- نجيب محفوظ، العقاد، طه حسين، إحسان عبد القدوس، حنّا مينة، زكريّا تامر، نزار قباني، محمود درويش.. سيّدي إن أردت أن أعد لك، القائمة طويلة.

كان سعيداً ومعجباً، فابتسم وقال:

- ما شاء الله.. أردت أن أختبرك.. ولكن إذهب الآن، ليوزّعوا عليك مخصّصاتك من المهام، وسوف أراك فيما بعد.. دع كتبك هنا، ولا تخف عليهم، هم أمانة لك عندي.

بعد أن أعطاني مساعد المهمات مخصّصاتي، بدلة عسكريّة مع سيدارة، و(بوط) عسكري، و (فلت)، و (جعبة)، و (مطرة)، وكلّ ما يتعلّق بتجهيز العسكري (الغرّ).. أشار لي الرّقيب وكان اسمه (حيدر)، هكذا سمعتهم ينادونه.. أشار إلى خيمة، تقع وسط الخيم، وقال لي:

هذه خيمتك.. احفظ مكانها جيداً، ومدّ بها فراشك، وجهّز مكانك جيّداً، وابق في خيمتك، حتّى لو نادوا على الاجتماع، أنت اليوم ضيفنا، لا تحضر
.. مهما كان.. أنت معفّي من الاجتماعات والعقوبات.

حملت حقيبتي، وأمتعتي على دفعتين، ودخلت الخيمة، ليعطيني من هم أقدم منّي، بيوم أو يومين، حفرة لأقيم عليها، مليئة بالأوساخ، وربّما كانت غنيّة بالحشرات،
والأفاعي، والعقارب.

أنا الشّخص العاشر في هذه الخيمة،
لم أجد ترحاباً من أحد هنا، بل لمست التّجاهل، والبرود، والجفاء، وقد أقول البغض، والعداء.. لماذا؟!.. لم أفهم بعد، ما هي الأسباب؟!.

أنا على وشك الانقطاع من السّجائر،
وفي هذه الخيمة، من الصّعب أن أجد من يقف إلى جانبي، ويساندني، ويعطيني، ولو عن طريق الاستدانة، لغاية صباح يوم الغد، علبة تبغ، أو بضع سجائر، لمّا لقيته من فتور، ونفور، من التّعامل معي.. وكأنّني عدوّ لهم.. وجوههم الجامدة ونظراتهم العابسِة، توحي بأنهم، اتّخذوا بحقّي، كلّ الإجراءات، من مقاطعة، ونبذ، وخصام.

كانت الأرض، التي سأمدّ عليها فراشي، سيّئة جداً، وغير مريحة، منحدرة، وغير منبسطة، فيها فتحة، كبيرة، وعميقة، ممتلئة بالأوساخ، والنّفايات، وبعلب (السّردين) وغيرها من المعلّبات، إنها مزبلة، بكلّ ما فيها من معنى، وسط خيمة، فيها عشر عناصر من العساكر، (الأغرار).

وانبعثَت صفّارة الاجتماع، وتعالت الأصوات، من كلّ الخيم، تهتفُ بصوت قويّ، ومتّحد:

- اجتماع.. اجتماع.. اجتماع.

وكان على الجميع، أن يخلع ما عليه
من ثياب، ويظهر عاريّ الصّدر.. فقط عليه أن يبقيّ (الشّورت)، وحافيّ القدمين، رغم أن السّاحة مليئة
بالأشواكِ، والعشب اليابس، والحصى والحجارة، والأوساخ، وانطلق الجميع، من خيامهم.. على إيقاع صوتهم الهادر، والمتواصل:

- اجتماع.. اجتماع.. اجتماع.

والتّفتَ إليّ (بدين) خيمتنا،وقصيرها
، والأكثر شراسة، وعدواناً، وقال لي، آمراً وباحتقار، وقرف:

- هيا.. أسرع.. ألم تسمع الصّفار؟!.. والهتافات؟!.

لم أردّ عليه.. فأنا معفيّ من هذا
الاجتماع.. الرّقيب، قال لي:

- ابق في خيمتك.. لا تخرج للاجتماع.

ومع هذا شعرت بخوف، وريبة، ورعب، وقلق.. ماذا لو نادوا على اسمي؟!.. ماذا لو جاءني غير الرّقيب؟!.

جلستُ بعيداً، عن باب الخيمة، المفتوحة، كان الظْلام قد ساد فوق المعسكر، لو لا الأنوار المنبعثة، من المصابيح القليلة العدد، ومن ضوء القمر الخافت، الملّطخ بالزرقة.

وكنت أستمع للأصوات العالية، القادمة من فم العتمة، والصّدى:

- (رتلاً) سداسيّاً اجتمع.. (استاعد).. (ترادف).. (اسبل).. استرح.. على كلّ من يسمع اسمه، أن يرفع يده، ويقول حاضر.

وبدأتْ تقرأ الأسماء، وَيَلِي كلّ اسم، بقوله حاضر.. وغصت أنا في ارتعاشي.. أين أنتم يا أهلي؟.. يا أصدقائي؟.. يا آلة التّسجيل، يا أغنيات (مارسيل خليفة) و (الشّيخ إمام) ؟!.. (وعبد الحليم)، و (أمّ كلثوم)، و (صباح فخري)؟!.. يا دفاتري.. يا قصائدي؟!.. يا أختي.. وأنت تناوليني إبريق الشّاي، أو فنجان القهوة؟!.. من يصدّق أنّني، كنت بينكم، اليوم صباحاً؟!، والآنَ أنا في عالم آخر.. عالم يشبه الموت!.. تراني هل أنا ميّت؟!.

سال دمعي، فوق الظّلام.. سقطت منّي روحي، في حفرة الخيمة، الممتلئة بالقاذورات.. أنا الآن مجرد نكرة حقيرة، تدبّ، وتتألم، وتبكي، على هذه الأرض، في معسكر مظلم، لا أعرف موقعه، ولا اسمه.. وأنا رغم هذا، مميّز عن رفاقي، ومدلّل،ومعفيّ
من الاجتماع.. هل أحسد نفسي؟!.. تعالوا يا أصدقائي واحسدوني، على ما أنا فيه، من عزّ ورخاء.. ما أجمل أيّام العمارة؟.. ما أخفّ ثقل الحجارة
؟.. كنت في الجنّة، ولم أكن أدري!.. آه أبي.. كم حسبتك ظالماً؟!.. ليتني أعود إلى حضنك.. العامر بالقسوة الجميلة.

وسمعت من ينادي على اسمي.. نعم.. وساد صمت، كنت سأهرع، وأركضُ، وأصرخ، حاضر سيّدي.. ثمّ انتقلوا لأسم آخر.. فتنفّست الصّعداء.

وأخيراً، جاء الإيعاز.. أغرار.. منبطحاً،
لامس ببطنك الأرض.. ومن لم يلامس ببطنه الأرض، سوف يعاقب.. وسمعت صوت فرقعة السّوط،وتلاها صرخة ألم، ثم تهاوت الأسواط، من أماكن عديدة، وانبعثَت صرخات ألم أيضاً، من أماكن متفرّقة.

تتوالى الأوامر الصّارمة، و الحادّة، و العنيفة، والتي لا تنقطع أو تتوقّف:

- (وقوف قف).. (منبطحاً)، (جاثياً)، (مستلقياً)، ازحف على ركبتيك، تابع، تقدّم، تابع زحف، تابع ركض، زحفاً على الأكواع، على الرّكب، على الظّهر، على البطن، التّمرين السّادس، خذ وضع التّمرين التّاسع نفّذ، ولا صوت، ولا حركة، أصرخ:

- أمّة عربيّة واحدة.. ذات رسالة خالدة.

تابع هتاف:

- (صاعقة).. صاعقة.. صاعقة).. (زمجر.. زمجر.. بغضب، وانتقم من أعداء بلادي، صاعقة).

وتعالى صوت أحد المدرّبين، حازماً وقوّياً، وعالياً، وراعداً:

- نريدكم أبطالاً، وحوشاً، أسوداً، أقوياء، شرساء، عنيفون، لا تعرفون الرّحمة على أعداء الوطن، الخونة، العملاء، والرّجعيّون، من باعوا شرفهم، للإمبرياليّة، والصّهيونيّة، والماسونيّة، والرّجعيّة العربيّة، والسّلفيّة، أعداء الله، والإنسانيّة، والبشريّة، والطّفولة، وتحرر المرأة، والإرادة الحّرة، والأبيّة.. هيا نفذوا، ولا تستغلوا الظّلام، يا أوباش، يا حيوانات، نحن هنا نصنع الرّجَال الأشاوس.

مضى أكثر من ساعتين، على هذا الحفل.. بكت الأشواك، والحصى، والأوساخ، والظّلام، والهواء السّاكن والسّاخن، (والمنعدم التّواجد). خارت الأجساد، وما زالت الأسواط تفرقع بقوّةٍ على الأجساد العاريّة.. كانت السّياط مؤلّفة، من أكبال كهربائيْة رباعيّة.. وهناك دواليب تستخدم لمن يستحقّ، الفلقة.

وفجأة.. لمع بوجهي ضوء مصباح، دخل عليّ إلى خيمتي، َوأنا أدخن وأرتعش، ركّز الضّوء على وجهي، عميت عن النّظر، وكنت لا أعرف من دخل عليّ.. وسمعت صوتاً، وما يشبه الضّحكة:

- كيف أحوال شاعرنا؟!.. نعم.. أنت ابقى هنا، لا تحضر هذه الدّروس، أنت معفيّ.. شاعر مثلك يمتلك أحاسيساً ومشاعراً نبيلة، يجب أن لا يحضر هذه الدّروس.

عرفت صاحب هذا الصّوت، إنّه سيادة النّقيب (سليمان).. حاولت أن أنهض، لكنْه كان قد ذهب،وتركني في خيمتي.

أخيراً.. تمّ الإفراج عنهم، وانصرفوا، ولكن عليهم، أن يكونوا جاهزين في حال سمعوا، الصّفارة مرّة أخرى.

دخلوا أهل خيمتي، أشعلوا شَموعاً على الفور، وكانوا متعبين، متعرّقين، عطشانين، شربوا ما عندهم من ماء، حتّى انقطعوا منه.. قال سمينهم وقصيرهم، وكلّه حسد وغيرة:

- معلوم.. أنت مدعوم.. عندك واسطة، أمّا نحن، فأولاد كلب.

قلت، وأنا خجل ومحرج:

- أيّ واسطة يا أخي.. سامحك الله.. أنا مثلكم.. لكنّ الله، أرسل لي، أولاد الحلال.

وتعالت الأصوات، من كلّ صوب، تخاطبِني، بطريقة الزّجر:

- أولاد حلال؟!.. نعم.. مثلك، أولاد حلال، على (المصفاة)!!.

شعرّت بالإهانة، لكنَّني فضّلت الصّمت، لأنّ وضعهم مؤلم ومحزن.

تمنّيت لو أنّني أملك دخّاناً، لكنت قمت بضيافتهم السّجائر، ولكنّي في حاجة لمن يعطيني سيجارة واحدة.. وخطر لي أن أنهض، وأأخذ هذا (الكالون)، وأعبئه بالماء، من الخزان الذي لمحته، على طرف السّاحة.. فنهضت، وحملت مصباحي،وأسرعت
، حاملاً (الكالون)، وخرجت من الخيمة، وعبارات الشّتائم تلاحقني.. كلّها حقد وغيرة، وغلّ.

كان على من يريد اجتياز السّاحة التّرابية، أن يقطعها راكضاً، تلك هي القوانين، والويل لمن لا يتقيّد، بهذه التّعليمات، عرفت هذا، حين أبصرتُ الجميع يركضون، يحملون (كالونات) الماء، ومصابيحهم، ويركضون، وفعلت مثلهم، وكان الثّقل ليس بالهيّن، قلت لاهثاً:

- لقد أحضرت لكم الماء، لمن يريد أن يشرب.

ولكن لم أجد، من يقترب من الماء، ليشرب.

وهذا ما ضاعف من ألمي.. ومن إحساسي بالغربة، والوحدة.

سمعت من الخارج جلبة، وأصوات تسأل، هل هذه خيمة الشّاعر؟.

وعند باب الخيمة، وقف خمسة من عناصر الصّفّ ضباط.. وقال أحدهم:

- نعم.. هذه خيمة شاعرنا.. ها هو.

بعد أن وقفت، أنا وأهل الخيمة، أشاروا لهم بالجلوس، فجلسوا صامتين، وانهالت عليّ الأسئلة:

- كيفك شاعرنا؟.. هل أنت مرتاح؟.. أتشكو من شيء؟.. هل هناك من يقوم بمضايقتك؟.. قل لنا عن كلّ ما تحتاجه وتريده.

سعدت جدا بمجيئهم، بعد ما لقيته من سوء معاملة، وحقد، من هؤلاء، الذين فرضوا عليّ، أن أعيش بينهم.. رحّبت بقدومهم، وأردت أن أنهض احتراماً لهم. قال لي الرّقيب (حيدر):

- نحن أتينا لعندك، لكي نسمع منك الشّعر، الذي تكتبه.. هات أسمعنا. قلت:

- أنا مقطوع من الدّخان.. ولا أستطيع قول الشّعر، بدون تدخين.

وبسرعة انهالت عليّ سجائرهم، وتجمعت أمامي العديد منها، بينما صاح الرّقيب أوّل (مصطفى قاقو)، بمن يشاركوني الخيمة:

- ولماذا لم تعطوه، سجائر منكم.. يا حمير؟.

و راح أهل الخيمة، يقسمون:

- هو لم يقل لنا.. ولم يطلب من أحدنا.

بعد أن أشعلت سيجارة، سألتهم، ماذا تحبّون أن أسمعكم، شعراً وطنيّاً، أم شعراً عاطفيّاً؟.

وكانوا يفضلّون الشّعر العاطفي، فبدأت:

- ((عيناكِ))..

عيناك
أحبّهما، أحبْهما، أحبْهما
هما ولا شيء بدونهما
هما كعبة صلاتي
وفي قلبي مكانهما
في بحريهما أرسيت سفينتي
ورحت أغوص بمياههما
أعرف الليل وظلمته
ولا أنسى سوادهما
أنام وقلبي هائم
يدقّ وينبضُ عندهما
سئمت العيش منفرداً
فلفّيني بنورهما.

وارتفع التّصفيق، والهتاف، وصيحات الإعجاب.. ولمحت بعضاً من أفراد خيمتي يبتسم، وهذا ما جعلني أزداد سعادة.. وقال أحد صفّ الضّباط،
أسمعنا غيرها، فتحت جروحنا. قلت:

- ((إلى متى أنتظر))؟.

إلى متى سأظلّ انتظر؟!
إلى متى سأظلّ أحلم؟!
لقد قتلتني الأشواق
وآلمني الفراق
فكدّت أن أدخل القبر
إلى متى سأظلّ أنتظر؟!

تعالي..
لفّيني بحنانك
دثّريني بحبّك
أناجيك
تناجيني
كطفل المهد
أو أصغر
وخمر الشّفة ما أعذبه
فهاتي الخمر لكي أسكر
فعند الله مغفرة
لخمر الحبّ لا أكثر.

وهتف (العرّيف) وكان منتشي مّما سمع:

- والله أنت تستحقّ أن يكون عندك شهادة (بكلوريا).

وقال رقيب آخر:

- قبل أن نذهب، نريدكَ أن تسمعنا الثّالثة. فقلت:

- ((لقاء))..

عندما التقينا يا حبيبتي
كانت الورود حمراء
وكنت كالعصفور
أبحث عن لقاء
سألت النّجوم
لكنّها لا تجيب
سألت الله عن حبيب
فتّشتُ، وبحثتُ كثيراً
وتحدّيتُ الأمواج والقدر
حتّى التقينا
وأزهر الحبّ بعينيك
بعد أن تستّر
وصرتي ترشقيني
بنظرات منها أصحو
ثمّ أسكر
تعالي..
نعش حبّاً من القيد
قد تحرْر.

مصطفى الحاج حسين.

للقصّة بقيّة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...