يسري ابو العينين - حيوان طليق...

لم أوقن فى البداية أننى هدفه, وأنه كان ينتظرنى أنا فى ساعات انتظاره الطويلة , وكنت فرحان لهذا اليقين , إذ كانت هيئته أشبه بهؤلاء الناس الذين يثيرون الريبة بمجرد النظر إليهم ..
كان معفرا , دقيق الحجم, قله .. هذه القلة التى توحى بسرعة الخاطر والمبادرة .. له لحية قصيرة نافرة , وعلى طول جانب الوجه أثر لجرح قديم غائر .. تبدو فى فروة رأسه المحلوقة حتى منبت الشعر ندب رمادية, رجحت أنها أثار ضربات قديمة هتكت بصيلات الشعر أسفلها .
كل هذا ما كان يثير داخلى غير إحساس بالتجاهل والإبتعاد .. لكن ما راح يدفعنى ويشدنى للإنتباه, هى تلك النظرات الحادة التى رأيتها وبشكل عارض تبرق فى عينيه الواسعتين فى ذهول .. هذه النظرات التى راحت توحى إلى كلما أجبرنى الفضول على الترامق .. أننى فى حضرة حيوان شرس طليق .
كنت أجده هناك كل صباح, واقفا متوثبا فى اتجاهى .. يتكئ بمؤخرته على عامود النور المجاور لبيتى, وبتزايد المخاوف المضطردة ، بدأت أشعر بحفيف بصرى آت من عينيه, كنت أحسه يتلمسنى وأنا أمر بمحاذاته, فتغشانى على الفور ارتعادة لم تكن تفارقنى إلا عندما أختفى من مدى عينيه ولم يكن مجرد إنفلاتى منها كفيل بإعادة الطمأنينة إلى قلبى, فكنت غالبا ما ألتفت خلفى متوجسا من أن يكون ورائى يلاحقنى .
بمرور الوقت, راح خيط سميك ومفاجئ خفق قلبى رعبا منه يربط بيننا, وبدأت أشعر رويدا أن ثمة شيئا مريبا وراء حضوره الغامض, وكنت وأنا أغرق فى تخميناتى أبتعد قدر إمكانى عن دائرة الفزع التى كانت أشبه بشبكة عنكبوتية راحت تتسع وتوشك على إصطيادى .. كان لهذا كان أقصى ما رجحته, أنه لص شقى يخطط للسطو على إحدى الشقق القريبة .. وبدا هذا الخاطر مطمئنا لى حيث كنت أسكن فى حجرة شديدة التواضع, ولم يكن فى مظهرى ما يغريه بالسرقة .. إذ كنت أبحث عن عمل يمنحنى قدرا ولو يسيرا من السعادة مع الدنيا .
أعترف أننى كنت فى ذلك الوقت حزين .. كل شئ داخلى يبتعث أحزانى الدفينة .. كل شئ حولى يتضاءل ويصغر , يوغل فى الإبتعاد حتى أن ملامح الناس كانت تضيع , ومن حولى هذا الفراغ الذى يوهن كل شئ, يكئبنى اللون الرمادى المطروح أمامى على امتداد الأفق, والذى يشعرنى بالإختناق و يحجب عنى بهاء الشوارع, فما هبطت مرة من حجرتى إلا وكنت غاضبا ومخنوقا بحبل من اليأس .. لحيتى طليقة وعيناى ذاهلتان .. بطبيعة الحال, لم يكن أمامى من سبيل أن أنفض عن نفسى تراكمات الحزن التى تملؤنى, تشعل داخلى إحساسا بالتعاسة, يجعلنى لأتفه سبب أجهش بالبكاء .
راح كل شئ يدعو للإرتياب , بداية من وقفته التى كانت تطول حتى موعد إيابى, ثم خيبة الإنتظار والقلق المصاحب يوم بعد يوم بعدم الإعلان عن أى حادثة سرقة, ثم تحرشه المفاجئ بى وملاحقته إياى فى أى مكان كنت أذهب إليه, حيث كنت أجده يقفز ورائى فى العربات التى أركبها .. يسبقنى لعتبات البيوت والأماكن التى أدخلها .. يتبعنى كظلى وألمحه واقفا على الأرصفة المقابلة للشوارع التى أسير فيها, وحين أمر بمحاذاته كان يتعمد أن يمشى محاذيا لى ومحدقا فى وجهى .
كان على أن أبدأ فى مراقبته أنا أيضا, وحين كنت أمعن فى الإستغراب, كان يدخل إلى قلبى يقين ماحق أننى هدفه لا محال, وإننى المقصود بوجوده المريب, وراح هذا اليقين يتأكد بجلاء حين قررت متوجسا تحت وطأة الفضول أن أديم النظر إليه وكنت عائدا للبيت واستدرت فجأة لأجد نفسى وقد أصبحت فى مواجهته مباشرة .
فاجئنى الإتساع الهائل لحدقتى عينيه .. اتساع مرعب ومخيف لبحيرة ساكنة .. ثم ثانية واحدة فقط ووجدتنى انزلق فوق منحدر جليدى يمتد إلى صفحة ماء عسلية اللون بلا قاع .. ورحت أهوى .. ولم يكن ثمة ما أمسك به وأتشبث, ولشد ما كان روعى حين وجدته يضيق عينيه ويفتحهما فى حركات متتالية وسريعة توشك على الإبتلاع .
كان يخمش الأرض بقدميه .. يتحرك للأمام ثم يعود للخلف سريعا كأنه يتوثب للإنقضاض , وراحت كثافة الفزع فى تلك المساحة الضيقة التى تفصلنا تزيد, لكن عملية الإنقضاض التى تخيلت نفسى مقتولا فيها لا محال ,لم تحدث وبقى فى مكانه .
مرت لحظة خاطفة عاودنى فيها ذلك الإحساس بملمس الأرض تحت قدمى و تناهى إلى سمعى وشيش فجائى بالحياة .. أصوات عمال, ونداءات باعة, وأبواق سيارات, وصخب أطفال , وإذا بى فى لحظة وبدون أن أفكر رحت أجرى بكل قوتى فى اتجاه البيت .. قفزت فوق درجات السلم وأنا مفجوع بالإرتعاب ووضوح قصده بجلاء و كنت أقفز وأنا أستشعر وقع خطواته المتسارعة وأحس لفح أنفاسه تلسعنى , وما لبثت حتى وجدتنى داخل حجرتى أوصد بابها ونافذتها وأنا أستعيد ذكرى تلك المواجهة التى شعرتها ستقتلنى وأنا أمرق بجواره, وأسمع صوت أنفاسه كأنها صوت سعار .
بقيت فى مكانى لم أبرحه دون أدنى حركة .. لحظات طويلة مرت وأنا مغرق فى الجمود, أستعيد ذكرى ما حدث, وبدأت أفكر أنه ربما الآن قد رحل , وما إن اطمئن قلبى للفكرة حتى نهضت مسرعا فى اتجاه النافذة .. واربتها بفتحة صغيرة تتيح لى (دون أن يرانى ) أن أراه , وكم كان ذهولى وأنا أجده واقفا يبحلق فى وجهى .. لا أعرف ماذا حدث بالضبط, لكن يبدو أن فكرة تلصصى عليه لم ترقه لأنه فجأة راح يلوح ببلطة كبيرة لها رأس مفلطح مسنون كان يخفيها وراءه, ثم راح يركض بكل قوة فى اتجاه البيت .
أوصدت النافذة بسرعة وقفزت ناحية الباب .. لصقت أذنى على الخط الفاصل بين ضلفتيه وأنا أشل بتعمد جسدى عن الحركة حتى أتبين صوته بوضوح .. بعد سيطرة خرافية على ارتعاشة جسدى الذى لم يتوقف عن الارتجاف , تناهت إلى سمعى أصوات أقدامه المتواترة فوق الدرج وخبطات سن بلطته فوق الجدران وأنا أكاد أجن من فرط الفزع, ووصول المواجهة بينى وبينه إلى هذا الحد دون ما سبب واضح .
كنت اتخبط فى أى شئ يقابلنى وأنا أجرى فى كل مكان, ورحت أفكر فى الإستعانة بأى شئ موجود فى الغرفة يعيننى على المواجهة .. قبضت على مطواة قرن غزال كانت ملقاة أمامى, ثم سرعان ما أدركت أنها لن تكون مجدية أمام حدة بلطته الكبيرة .. المسنونة بحدة, ومن ثم أخذت أنزع ألواح السرير الخشبية وبدأت أمسمرها على ضلفتى الباب .. كل دقة على مسمار, كانت تقابلها خبطة من بلطته الكبيرة .. خبطة هنا تقابلها خبطة من عنده ويداهمنى الإرتعاد ويفلت زمام السيطرة .
انتهيت من إتمام الغلق وخبطات بلطته لاتزال تتواتر بصوت بدأ يعلو تدريجيا , ورحت أشعر بوقع أقدامه تقترب وأحس بفحيح أنفاسه من حولى .. لحظات كأنها دهر مرت وأنا أجلس فى مقابل الباب, فى يدى مطواة قرن الغزال والمطرقة, أقبض عليهما بقوة .. عيناى جاحظتان , تغرقان فى ذهول الإرتعاب .. أنتظر هجومه المفاجئ الذى رحت أرجح أنه بات وشيكا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...