عبدالرحيم التدلاوي - جمالية الموت والانبعاث في رواية "الرفيق" لموسى مليح. قراءة ثانية.

تعتبر رواية "الرفيق" لموسى مليح نصا أدبيا غنيا بالدلالات والرموز، يستحق أن يقرأ بتمعن ودقة. للكشف عن الدلالات الكامنة وراء العناصر المختلفة للرواية، بدءا من العنوان..

1731744960194.png

1. العنوان: "الرفيق"
يشير في شكله الأساس وبشكل مباشر إلى علاقة الصداقة والتضامن، وهو مفهوم محوري في الرواية.
يمكن للعنوان أن يحمل دلالات سياسية، حيث يشير إلى الرفيق في النضال، أو دلالات اجتماعية، حيث يعبر عن الحاجة إلى الآخر في الحياة.
كتب العنوان بلون أحمر قوي على خلفية أفق صحراوي، وكأن هذا اللون ينبض بالحياة وسط تلك الطبيعة القاسية. يشير هذا الاختيار اللوني إلى حرارة النضال والتضحية التي يتضمنها مفهوم الرفيق، كما يوحي بالشغف والإيمان الذي يحمله البطل.
وكلمة الرفيق ذات حمولة يسارية، مما يشي أن المؤلف سيتخذ منظور اليسار في كتابته للعمل، بمعنى تحيزه للفكر اليساري القائم على نبذ الظلم والاستغلال، والرامي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، إنه يعلن منذ البدء توجهه، ولا يخفيه بالمطلق.
الغلاف:
يزين غلاف الرواية لوحة فنية تركيبية للفنان الحسين الحيان، حيث تتصارع شمس حارقة مع صخور سوداء قاحلة، فيما يقف رجل غامض يتأمل أفقًا صحراويًا يلفه الخوف. يكتب عنوان الرواية "الرفيق" باللون الأحمر على هذا الأفق، وكأن هذا اللون ينبض بالحياة وسط تلك الطبيعة القاسية. يحمل العنوان دلالة يسارية واضحة، إذ يشير إلى التضامن والنضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. أما الجزء الثاني من العنوان، المكتوب بالأبيض، فيحدد زمن ومكان الأحداث: قتبيت، سلطنة عمان، بين عامي 1989 و1990.
تلك الصورة القوية للغلاف هي بمثابة مدخل إلى عالم الرواية، حيث يتوقع القارئ رحلة مليئة بالتحديات والصراعات، وحيث تتجسد قيم الرفاقية والتضامن في مواجهة الظلم والقهر.
المؤلف:
موسى مليح، هذا القلم المغربي الأصيل من حوض الحوز، قدّم لنا في روايته "الرفيق" تحفة أدبية فريدة. بعد مسيرة حافلة في حقل التعليم، انتقل مليح إلى عالم السرد، فكانت هذه الرواية باكورة أعماله الروائية.
التجنيس:
اختار الكاتب جنس الرواية لعمله، إيذانًا بدعوة القارئ إلى الانغماس في عالم السرد، والاستمتاع برحلة سردية متكاملة. وقد قسم الرواية إلى 31 فصلًا، كأيام شهر أكتوبر، ليخلق إيقاعًا خاصًا يحاكي دقات قلب الباحث عن "الرفيق". تتكرر كلمة "الرفيق" في الرواية، مرة كاسم لموظف بسيط، ومرة أخرى كصفة تصف رجلا غامضا يحمل بندقية. وفي هذا التكرار، يكمن مفتاح البحث الذي يخوضه السارد، بحثًا عن معنى الصداقة والإخاء في عالم مليء بالصراعات والاضطرابات. وتصل رحلة البحث إلى ذروتها في سوق شعبي، حيث يلتقي السارد، أو يعتقد أنه التقى، بالرفيق الذي طالما بحث عنه.
في الرواية:
صدرت رواية الرفيق في174 صفحة من القطع المتوسط، وتتوزع على 31 فصلا، عن مطبعة سليكي اخوين ـ طنجة، في طبعتها الأولى سنة 2024.
وتستكشف بعمق دوافع الثورة وتأثيرها على الأفراد والمجتمع. من خلال شخصية البطل، نرى كيف أن الرغبة في التحرر من الاستبداد قادرة على تحويل حياة الإنسان وتشكيل مصيره. كما تسلط الرواية الضوء على التحديات التي تواجه الثوار، مثل الخيانة والخوف، وكيف يمكن لهذه التحديات أن تؤثر على مسار الثورة.
جدلية الموت والانبعاث:
تدور رحى الصراع بين الحياة والموت في قلب الرواية، متجسدة في صراع أيديولوجي أعمق. فبين فكر يسعى إلى تجديد الحياة وإشاعة العدالة، وفكر آخر يصر على تثبيت أوضاعه القائمة على الظلم والاستبداد، تتأرجح الأحداث. يرمز عدد فصول الرواية، وهو 31، إلى دورة الحياة المتجددة، فكما ينتهي الشهر ليبدأ آخر، فإن الموت هو بداية حياة جديدة. وتؤكد فترة زمن الأحداث، وهي تسعة أشهر، على هذا المعنى، إذ تشير إلى فترة الحمل والولادة، رمز البدايات الجديدة.
تتجلى هذه الجدلية في مشهد دفن الكتب الحمراء، ففي هذا الفعل المتناقض بين الدفن والبعث، تكمن دلالة عميقة على صمود الفكر الثوري. فكما تنبت البذرة في الأرض لتخرج منها نبتة جديدة، فإن الأفكار الثورية تظل حية، مهما حاولت القوى الظلامية طمرها.
إن الرواية لا تقدم لنا صورة قاتمة عن المستقبل، بل تتحدث عن صراع أزلي بين الخير والشر، بين الظلم والعدالة. فكما أن فصل الشتاء يليه الربيع، فإن الظلام لا يدوم إلى الأبد. فكرة الثورة، وإن كانت قد واجهت العديد من الانتكاسات، إلا أنها تظل حية في قلوب الناس، تنتظر اللحظة المناسبة لتزهر من جديد. فالمقاومة مستمرة، مهما كانت التحديات كبيرة، فالشعوب التي تسعى إلى الحرية والكرامة لا تقهر.
في أعماق صحراء قتبيت، حيث تلتقي رمال الزمن بحلم المستقبل، انغمس "أبو خليل" في رحلة استكشافية فريدة. لم يكن يكتفي برصد العادات والتقاليد التي تميز هذا المجتمع، بل كان يغوص في أعماق النفوس، يستشف دقات قلوبهم، ويفك شفرات عيونهم. ففي خيامهم المتواضعة، وجد نساءً يجمعن بين الأصالة والعصرنة، كأم التلميذ عقيل التي استقبلت الضيوف بابتسامة عريضة، وكأنها مفتاح لكنوز من الحكمة والتسامح. لم تكن المرأة في قتبيت مجرد صورة نمطية، بل كانت شخصية متعددة الأوجه، تتحدى التوقعات وتكسر القوالب الجاهزة.
ولكن مع وصول الطبيبة الهندية، تحولت الأنظار إلى امرأة أخرى، تحمل في ثناياها سحر الشرق وغربيته. كانت بمثابة نسمة هواء عاطر، أزاحت الستار عن رغبات مكبوتة، وكشفت عن عمق العلاقة المعقدة بين الجنسين. أما موسكو، ابنة الرفيق الثوري، فكانت تجسيدًا للتمرد على الأعراف والتقاليد. عاشت حياتها ببساطة مطلقة، متحررة من كل القيود الاجتماعية. كانت تؤمن بأن الحرية الحقيقية تكمن في التعبير عن الذات دون خوف أو تردد. وقد تجسد إيمانها هذا في انخراطها في النضال من أجل تحرير الشعوب، حيث وجدت نفسها في قلب المعركة، تقاتل من أجل مستقبل أفضل.
يا لها من رحلة استكشافية في أعماق مجتمع جديد، انطلق فيها ساردنا "أبو خليل" كعاشق أنثروبولوجيا، يرصد بدقة متناهية تفاصيل الحياة اليومية لعادات وتقاليد أهالي قتبيت. ففي خيمتهم، حيث تفوح عبق البخور، وجد نساء يتحلين بقوة الشخصية وثقافة واسعة، كأم التلميذ عقيل التي استقبلت الأساتذة بترحاب، وتحدثت إليهم عن كل شيء بمنتهى الصراحة والانطلاق. ورغم أن المجتمع قد يبدو تقليدياً في الظاهر، إلا أن روح التجديد والتغيير كانت تتسلل إليه، خاصة مع ظهور شخصيات مثل موسكو، ابنة الرفيق الثوري، التي تجسدت فيها حرية الفكر والتعبير عن الذات بأبهى صورها. فقد تجاوزت كل القيود الاجتماعية، وعاشت حياتها وفقًا لقناعاتها، مؤمنة بأن التحرر الحقيقي هو تحرر الإنسان من كل أشكال الاستعباد
يمكن اعتبار هذه الرواية مرآة عاكسة لواقعنا العربي المعاصر، حيث تتجلى ملامح التردي والظلم بوضوح. ففي عالم يسوده القمع والخوف، تتحول شخصيات الرواية إلى ضحايا لأنظمة مستبدة، فتهرب من أوطانها باحثة عن ملاذ آمن. كل شخصية تحمل معها جراحها وأوجاعها، فمنهم من يطارد بتهمة الخيانة، ومنهم من يهرب من بطش السلطة، ومنهم من يدفعه اليأس إلى الاختباء. إنهم جميعًا يعيشون في حالة من الشك والقلق، يبحثون عن هوية ضائعة في زمن الفوضى.
ولكن الرواية ليست مجرد سرد مأساوي، بل هي أيضا احتفاء بالتنوع والاختلاف. فالسارد "أبو خليل" يمنح كل شخصية مساحة للتعبير عن نفسها بصوتها الخاص، مما يخلق لوحة فنية متعددة الألوان. ففي صفحات الرواية، نجد مزيجًا من السيرة الذاتية والشعر والتحليل النقدي، كل ذلك يصب في بوتقة واحدة تعكس غنى التجربة الإنسانية. وكأن الكاتب يقول لنا: رغم كل الظلمات التي تحيط بنا، فإن الروح البشرية تبقى قادرة على الإبداع والتجديد، وأن الحكايات المتعددة هي التي تشكل هويتنا الجماعية.
في ختام هذا التحليل، يمكننا القول إن رواية "الرفيق" هي عمل أدبي غني بالدلالات والمعاني المتعددة. من خلال تطبيق منهجية السيميائية، تمكنا م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى