فاتن فاروق عبدالمنعم - القدس... ملتقى الأنبياء (18)

(18)

البذرة الأولى: للكيان الغاصب لفلسطين كانت بيد محمد علي الذي اصطنعته المخابرات الإنجليزية والفرنسية على عينها ليكمل ما ابتدأه نابليون الذي جاء بلادنا غازيا حاملا ديباجة كل ما نعانيه على كل المستويات حتى الآن مع خطة محكمة للحفاظ على ديمومة احتوائنا من قبل الغرب، أعلاها وأهمها إقامة دولة صهيونية في فلسطين وهو ما نحن بصدده الآن، ورغم اختلافي مع كارين أرمسترونج أحيانا إلا أنني احترم فيها الموضوعية وصدق التناول وعلمها الوافر، فقط يشوبها أحيانا بعض اللغط نظرا لخلفيتها كراهبة مسيحية،
فلنقرأ ما تقول بتمعن:

«وكان محمد علي يتوق لكسب دعم الغرب، ومن ثم شجع الأوروبيين على استيطان المدينة، وبذلك تمكنت قوة أوروبية لأول مرة من تأسيس قنصلية لها في القدس، وكان السكان المحليون قد قاوموا هذه الخطوة لمدة طويلة، ففي عام 1839م وصل إلى القدس الدبلوماسي الإنجليزي ويليام تيرنر يونج قنصلا مساعدا لبريطانيا، وخلال السنوات الخمسة عشر التالية كانت فرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا قد فتحت قنصليات لها في المدينة المقدسة، وأصبح هؤلاء القناصل ذوي حضور بالغ الأهمية في المدينة، كما عملوا على إدخال الطب الحديث والتعليم والتقنية هناك، بيد أنه كان لكل منهم أجندته السياسية، وكثيرا ما أدى ذلك إلى الصراع في المدينة المنقسمة على نفسها بالفعل، ووجد السكان المحليون أنفسهم طرفا في صراعات القوى الأوروبية».

هنا اصبح لكل طائفة مسيحية «كفيل» أوروبي عدا اليهود الذين كانوا دون كفيل فنصب القنصل الإنجليزي راعيا لهم من منطلق ديني، لأن القديس بولس تنبأ باعتناق اليهود للمسيحية قبل المجيء الثاني للمسيح، وكان عدد من المسيحين الأوروبيين يشعرون أن من واجبهم تحقيق نبوءة بولس وإزاحة تلك العقبة من طريق الخلاص الأخير فجاءت طلائع المبشرين البروتوستانت إلى المدينة والذين اصطدموا بالطوائف المسيحية الأخرى وكذا اليهود الذين ساءهم هذا السلوك وعملت قوى الغرب على توسيع نفوذها في المدينة من خلال قناصلها وكنائسها، وبذلك فإن الصراع أصبح أكثر وضوحا كونه ديني سياسي بحت.
تحت المظلة العثمانية:

كلما طرأت علينا معلومة عن ما حدث لفلسطين تحت الحكم العثماني أصباتنا غصة وشممنا رائحة كريهة تنبيء عن خيانة متجذرة في جسم هذا الكيان (الدولة العثمانية) كأنهم مخدرين أو فاقدي الوعي، فتقول كارين:

«في عام 1850م سمح العثمانيون للأجانب بشراء الأراضي في أنحاء الامبراطورية، فاشترى القنصل الإنجليزي فين ضيعة خارج الأسوار على بعد ميل من جبل صهيون، وصارت تلك مستعمرة الطالبية، وفيها كان يتم تدريب اليهود على أعمال الزراعة، وكان المتبرع الأول لمشروع فين هي الآنسة كوك من شيلتنهام ببريطانيا، كما أسست مزرعتين أخريين بأموالها، إحداهما قرب بيت لحم والأخرى عند منطقة كروم إبراهيم شمال يافا، وعمل بهما ستمائة يهودي، وكان فين يعتقد أن ظروف اليهود ستتحسن بتركهم الحي اليهودي القذر وبإتاحة الفرصة لهم لكسب قوتهم، فقد كان أغلبهم يعيش على الصدقات التي تجمع من يهود الشتات لمساعدة يهود المدينة المقدسة حتى يتسنى لأفراده دراسة التلمود والتوراة»

وهكذا فإن السير اليهودي البريطاني موشييه منتفيوري أنشأ مستوصفا يهوديا وأنشأت عائلة روتشيلد مسيداف لاداخ مستشفى على المنحدر الجنوبي لجبل صهيون، وأنشأت صندوق من أجل بناء المدارس يقوم على القروض مقابل فوائد طفيفة، وفي المقابل فإن الطوائف المسيحية على تنوعها قد أنشأت كل كنيسة مدرسة ومستشفى تابعة لها.

نشطت أعمال البحث في الآثار الدينية كما ازداد نشاط بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص وأعاد السلطان العثماني كنيسة القديسة آنا الصليبية (وهي التي كان صلاح الدين قد حولها إلى مدرسة) لنابليون الثالث كهدية لفرنسا وأصر الانجليز على تمكين اليهود من توسيع الهيرفا (اتفاق مبرم بين المنظمات الصهيونية وألمانيا النازية عام 1933 لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين مقابل تنازل اليهود عن ممتلكاتهم لألمانيا) واشترت الكنائس بعض المطابع كما أصبح هناك مطبعتين لليهود وتوسعت ممتلكات اليهود كما الكنائس لممارسة مختلف الأنشطة والتمكين بالتملك وفرض النفوذ من منطلق قوة حقيقية على الأرض، فبنى اليهود المستوطنات حول جبل صهيون وتحسنت أحوالهم المادية والصحية، وبدأ اليهود والمسيحيون على حد سواء بالخروج للبناء على الأرض خارج أسوار المدينة لتأصيل وجودهم مع تلقي الدعم غير المشروط من «الكفيل»
النوايا الحقيقية لموجة التحديث المسيحي اليهودي للقدس:

من قبل الكفيل الأوروبي كانت بمثابة حربا تسمى “حرب صليبية جديدة سلمية” وفي ذلك تقول كارين الأوروبية الإنجليزية:

«وكان العرب يحاولون تشكيل خططهم بشأن بلادهم، بيد أن الأوروبيين كانوا يوجهون نظراتهم التملكية صوب فلسطين، وينظرون للتحديثات التي أتوا بها للقدس على أنها “حرب صليبية سلمية” وكان ذلك التعبير يكشف رغبة الغرب في الغزو والهيمنة، أما الفرنسيون فكانوا يتطلعون إلى إخضاع القدس والشرق بأكمله لحكم الصليب عن طريق حربا صليبية جديدة ناجحة، وكانت مهمتهم هي تحرير القدس من السلطان التركي وسلاحهم الجديد هو الكولونيالية، أما البروتوستانت الذين بنوا المستعمرة الألمانية فلقبوا أنفسهم بفرسان الهيكل وأخذوا على حث حكوماتهم على إتمام مهمة الصليبيين، وكان أسلوب البريطانيين مختلفا نوعا ما، فقد طوروا شكلا من أشكال الصهيونية غير اليهودية أو المسيحية، فزعموا أن فهمهم للإنجيل قد أقنعهم أن فلسطين تنتمي لليهود، وبالفعل تطلع البريطانيون ذوي التوجه الواقعي لإنشاء وطن يهودي في فلسطين تحت حماية بريطانيا العظمى»

الحقيقة أنا لا يعنيني في أي كاتب دينه أو جنسيته ولكن يعنيني في المقام الأول أن يكون صاحب قلم ذهبي وفكر حر ديدنه الانتماء المطلق للحقيقة دون تزييف ولو أدان بلده وأهله الذي ينتمي إليهم وما ذكرته كارين آنفا ليوجز حقيقة الصراع في وضوح منقطع النظير وشفافية وطهر من إثم تبرير جرائم بلدها والأكثر جرم منها الكثير من منافقي المسلمين ممن يقومون بدور يفوق المحتل الأصلي خسة ووضاعة.

هكذا المرض الذي استفحل بدأ منذ عقود طويلة وتغافل عنه العثمانيون، وكأن دولتهم اخترقها الجواسيس فأصبحوا يسيرون الأمور وهم لهم منقادون، الكيان الغاصب لفلسطين أقام المستوطنات والمؤسسات والأبنية تحت سمع وبصر العثمانيين (ولا يمكن إعفائهم من المسئولية) فإن انجلترا وأوروبا بكاملها كانت ومازالت تتحرك من منطلق ديني بحت، أما العثمانيون فمنهم من استهان جهلا وغفلة في الوقت الذي كان فيه الخطط تنفذ على الأرض من عدو لا يرقبون فينا إلا ولا ذمة، ومنهم من أفسح الطريق لقوافل الجواسيس الذين شغلوا المناصب العليا فسقطت فلسطين في براثن عصابات اليهود بمساندة الصليبين وسقطت معهم دولتهم التي نخر بها السوس وذهبوا مخلفين وراءهم المشهد الذي نراه بأعيننا بكل مفرداته وتفاصيله الدقيقة قبل الكبيرة، وإصلاح المعوج لا يكون إلا بالعودة إلى الأصل المهجور «القرآن» وهو ما فعله رجال المقاومة البواسل فلله درهم.

{إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)} الممتحنة

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} 118 آل عمران

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى