للحرب وقت، وللسلم وقت.. أمّا "الهدنة" فعلامة كاذبة لا تسري على ذينك الحدّين معاً. تأبى "الهدنة" أن تسري على الموتى كما على الأحياء. فللموتى لغتهم التي قضَت عليهم بالانتظار حتى القيامة.
بعد إعلان "الهدنة" بين لبنان واسرائيل، كتبَ أحد المدوّنين على صفحته في الفيس بوك: "الموتى صاروا يحرسون هدنة الأحياء".
"الهدنة" بدلالتها على ماض لا يمضي، وحاضر لا يَقدُم، ومستقبل لا يأتي، أشبه بخطّ وهميّ على جانبي الحدود لا يُعرف مكانه، أكثر منها نصّاً مكتوباً بمفردات لا يستطيع الموتى ترجمتها- بألسنتهم المقطوعة، وعيونهم المفقوءة- إلى لغتهم.
ما أشدَّ حزن الموتى، وما أكذب فرح الأحياء! كأنّنا إزاء جدار مركوم لا ينطق إلا بلغة المطرودين من منازلهم المقصوفة. كأنّنا ظلال ملّاحين غادروا ميناءهم الفينيقيّ، تاركين وراءهم أبجديتهم القديمة.
بل ما أشدَّ حزننا لأنّنا بلا جدار نخطّ عليه علامةً تفصل بين زمنين، ولا ركيزةٍ حقيقية تضعها "الهدنة" حاجزاً بين جانبين، ولا لغةٍ ننطق بها بلا قيود أو طلاسم.
لستُ لبنانيّاً لكنّي أقرأ في ركام البنايات، وصمت الأقبية العميقة تحت الركام، رسائلَ تخصّني وحدي- تمتمات آخر الموتى، قبل دقائق من حلول وقت "الهدنة". الجهلُ الذي جاء به الموت محا ما أعرفه عن ماضي هذه البقعة الشامخة، التي سُمّيت يوما باسم "بيروت". الرسائل توقّفت، إلا ما ينتشله متطوّعو الدفاع المدني منها مع الجثث.
ما أجهلني وأنا أستقصي لغة بنود "الهدنة" اللبنانية- الإسرائيلية. على مَ ينصّ كلّ بندٍ منها؟ أحقّاً هناك لغة مفهومة تعبّر عمّا يكمن وراء الحروف: تمتمات آخر الموتى، قبل حلول وقت "الهدنة"؟
ما أكذب لغات الحرب، ما أجهل لغات السّلم!
ما أصعب الهدنات حين تُقرأ بنودها بلغة لا يستطيع الموتى ترجمتها إلى لغاتهم!
حاولَ إدواردو غاليانو أن يكتب "ما يشبه تاريخاً للعالم" فصنّفَ في العام ٢٠٠٧ مؤلَّفه المعنون (مرايا) الذي دوّنَ فيه أهواءَ الملوك ورغبات الشعوب من عهد فراعنة مصر حتى غابات أمريكا الجنوبية في عصرنا الحاضر. أرجعُ الى قراءة هذا السِّفر الشامل- الذي ترجمه صالح علماني للعربية عام ٢٠١١- علّني أتعرّف منه المصدرَ الذي شرّعَ بنودَ هدنات الحروب الكثيرة في العالم. وربّما وجدتُ بُغيتي في هذا المقطع المعنون "تَواصُل الطريق" الذي ختمَ به غاليانو الكتابَ:
"عندما يموت أحدهم، عندما ينتهي زمنه، هل يموت كذلك التجوالُ، والرغبات، والأقوال التي سمّيت باسمه في هذا العالم؟
عند هنود أعالي نهر أورينوكو، مَن يموت يفقد اسمه. إنهم يأكلون رماده ممزوجاً بحساء موز أو بنبيذ ذرة، وبعد هذا الطقس لا يعود أحد أبداً إلى ذكر اسم الميت: الميت الذي يجول، ويرغب، ويقول في أجساد أخرى، وبأسماء اخرى".
بعد إعلان "الهدنة" بين لبنان واسرائيل، كتبَ أحد المدوّنين على صفحته في الفيس بوك: "الموتى صاروا يحرسون هدنة الأحياء".
"الهدنة" بدلالتها على ماض لا يمضي، وحاضر لا يَقدُم، ومستقبل لا يأتي، أشبه بخطّ وهميّ على جانبي الحدود لا يُعرف مكانه، أكثر منها نصّاً مكتوباً بمفردات لا يستطيع الموتى ترجمتها- بألسنتهم المقطوعة، وعيونهم المفقوءة- إلى لغتهم.
ما أشدَّ حزن الموتى، وما أكذب فرح الأحياء! كأنّنا إزاء جدار مركوم لا ينطق إلا بلغة المطرودين من منازلهم المقصوفة. كأنّنا ظلال ملّاحين غادروا ميناءهم الفينيقيّ، تاركين وراءهم أبجديتهم القديمة.
بل ما أشدَّ حزننا لأنّنا بلا جدار نخطّ عليه علامةً تفصل بين زمنين، ولا ركيزةٍ حقيقية تضعها "الهدنة" حاجزاً بين جانبين، ولا لغةٍ ننطق بها بلا قيود أو طلاسم.
لستُ لبنانيّاً لكنّي أقرأ في ركام البنايات، وصمت الأقبية العميقة تحت الركام، رسائلَ تخصّني وحدي- تمتمات آخر الموتى، قبل دقائق من حلول وقت "الهدنة". الجهلُ الذي جاء به الموت محا ما أعرفه عن ماضي هذه البقعة الشامخة، التي سُمّيت يوما باسم "بيروت". الرسائل توقّفت، إلا ما ينتشله متطوّعو الدفاع المدني منها مع الجثث.
ما أجهلني وأنا أستقصي لغة بنود "الهدنة" اللبنانية- الإسرائيلية. على مَ ينصّ كلّ بندٍ منها؟ أحقّاً هناك لغة مفهومة تعبّر عمّا يكمن وراء الحروف: تمتمات آخر الموتى، قبل حلول وقت "الهدنة"؟
ما أكذب لغات الحرب، ما أجهل لغات السّلم!
ما أصعب الهدنات حين تُقرأ بنودها بلغة لا يستطيع الموتى ترجمتها إلى لغاتهم!
حاولَ إدواردو غاليانو أن يكتب "ما يشبه تاريخاً للعالم" فصنّفَ في العام ٢٠٠٧ مؤلَّفه المعنون (مرايا) الذي دوّنَ فيه أهواءَ الملوك ورغبات الشعوب من عهد فراعنة مصر حتى غابات أمريكا الجنوبية في عصرنا الحاضر. أرجعُ الى قراءة هذا السِّفر الشامل- الذي ترجمه صالح علماني للعربية عام ٢٠١١- علّني أتعرّف منه المصدرَ الذي شرّعَ بنودَ هدنات الحروب الكثيرة في العالم. وربّما وجدتُ بُغيتي في هذا المقطع المعنون "تَواصُل الطريق" الذي ختمَ به غاليانو الكتابَ:
"عندما يموت أحدهم، عندما ينتهي زمنه، هل يموت كذلك التجوالُ، والرغبات، والأقوال التي سمّيت باسمه في هذا العالم؟
عند هنود أعالي نهر أورينوكو، مَن يموت يفقد اسمه. إنهم يأكلون رماده ممزوجاً بحساء موز أو بنبيذ ذرة، وبعد هذا الطقس لا يعود أحد أبداً إلى ذكر اسم الميت: الميت الذي يجول، ويرغب، ويقول في أجساد أخرى، وبأسماء اخرى".