جلس في جحره تحت السلّم وأمامه منضدة ، صف عليها دفاتره الخمسة، وقد سطر فيها أسماء ثلاثمائة موظف هم العاملون في تلك المؤسسة . مع أول مطالعة للوجوه تظن أنك دخلت دارا للمسنين ، أغلبهم من الأربعين حتى ما قبل الستين بشهور أو أيام ، الشباب فيهم نادر جدا، ويغلب عليهم المعوقون بعد ما اقتصر التعيين على نسبة الخمسة في المائة.
تيسير سر أسرار هذه المؤسسة أكثر من عشرين عاما وهو متشبث بهذا الجحر، وبدفاتر الحضور والانصراف التي جعلت منه المدير العام الفعلي لهذه المؤسسة . يعرف جيدا كيف يغير جلده مع كل مدير جديد، يتقن الوسوسة في أذن كل من يجلس على هذا المقعد. لم تقع عليه أي جزاءات ، ودائما ما يخرج من التحقيقات كما تنسل الشعرة من العجين، يحفظ اللوائح ويستخدمها بدقة حين يريد.
يومان متتابعان أعود إلى بيتي بعد أن قطعت مسافة ثلاثين كيلومترا لتأخري عن الحضور .دقيقتان أو ثلاثة ، مما جعل زميلتي ترق لحالي وتهمس في أذني:
- مها .. سأقول لك شيئا لا تخبري به أحدا .
- لا عليك لن أخبر أحدا مهما كان .
- ثلاثون جنيها تجعل تيسير يغمض طرفه عنكِ ، ويوقع لكِ حتى ولو لم تأتِ
فلما وجدتني أفتح فمي من الدهشة ظنت أني أستكثرها قالت:
- وممكن أيضا أن تضيفي ساندويتش إلى ساندويتشاتك وتعطيها له .
- أو يكفيه ذلك ؟
- التفتت حولها وقالت: يوه ، وكيسان سكر، أو باكو شاي كبير، أو برطمان مربى ، كله مقبول .
- هل يعرف أحد هذا ؟
بضحكة ساخرة قالت: كلهم يعرف إلا أنتِ ، وكلهم يصمتون لأنهم يستفيدون .
لم أتقبل هذه النصيحة ، ولم أعمل بها . اجتهدت أن أحضر مبكرا وظللت مواظبة على الحضور في موعدي ، ولكنني لاحظت أن المؤسسة تكاد تخلو من الموظفين قبل موعد الانصراف بساعة ، حتى أن القسم الذي أعمل به لا يغلقه يوميا إلا أنا ، بعد تسلل زملائي الثلاثة واحدا تلو الآخر .
وفي يوم أردت أن أفعل مثلهم، وقبل موعد الانصراف بنصف ساعة وضعت الأوراق التي أمامي في الدرج وحملت حقيبتي ومضيت، وخرجت من البوابة ولم يقابلني أحد، حتى كان صباح اليوم التالي، بينما أنا أوقع في دفتر الحضور قال لي تيسير بنظرة فيها عصبية:
أدخلي للمدير، يريدكِ
- خير يا أستاذ تيسير ؟
بنفس العصبية قال: ستعرفين عندما تدخلين له .
بنظرة قاسية صارمة جمدتني مكاني ، قال لي المدير:
الأستاذ تيسير قدم فيك مذكرة لأنك خرجت بدون إذن، وبتبكيت مرير أكمل : هيّ وكالة من غير بواب حتى تخرجين دون إذن، أنت لا تحترمين رؤساءكِ، اذهبي للشئون القانونية ، ضعي أقوالك .
تلعثمت ثم استجمعت شجاعتي وقلت: لست وحدي التي خرجت يا سعادة المدير.
صاح في وجهي فارتعدت وارتعد جسدي .
- من خرج من زملائك ؟ قولي ...
صمتت، خفت أن أوذي زملائي فأخسرهم .
صاح ثانية : قولي من ؟
لم استطع أن أرد .
تم خصم ثلاثة أيام من راتبي، وظللت على حالي أحافظ على مواعيد الحضور والانصراف، ولكنني بدأت أتابع حالة من حولي فوجدت ليلى موظفة شئون العاملين لا تحضر يومي الخميس والأحد فهي ترافق زوجها الذي يعمل في ميت غمر وبقية الأسبوع هي هنا مع أولادها، وأن الأستاذة نجوى موظفة قسم الخدمات لا تحضر إلا في العاشرة صباحا، وتصعد إلى مكتبها مباشرة دون أن تمر على جحر تيسير، فعندها سوبر ماركت لا تأتي إلا بعد أن تقف فيه الفترة الصباحية، وأن الأستاذة تحية موظفة قسم الحسابات لا تأتي إلا بعد أن تطمئن على أكل طيورها ونظافتها ، وتستوي عندها التاسعة مع العاشرة مع الحادية عشرة، أما الأستاذ صلاح فله يومان أيضا لا يحضر فيهما للمؤسسة ليتابع العمل في مكتبته بعد أن قسم الأسبوع بينه وبين ابنه وزوجته ، وأخبرتني نجية عن رؤساء الأقسام، وطرحت عليّ هذا السؤال:
- هل يصح أن يتساووا بصغار الموظفين ؟
- يصح.. كلنا موظفون لدى الدولة .
ضحِكَت وقالت : هذا ليس عدلا ، العدل أن يأتي كل واحد منهم في الموعد الذي يناسبه ولهم الحق نظرا للمشقة التي يعانون منها، فلهم أن يتغيبوا يومين أو ثلاثة في الأسبوع ، وخطوط السير مفتوحة، والمرور على فروع المؤسسة المنتشرة يحتاج منهم إلى التكثيف والمتابعة ، ثم همست في أذني وقالت : من الآخر لن يتركك تيسير وسيظل خلفك بالمذكرات حتى تدفعين له .
في هذه المرة استمعت لنصيحتها، وفي خلسة ، وقد خلا الجحر إلا مني ومنه ، وضعت الثلاثين جنيها في يده، فضحك لي قائلا:
ربنا يبارك لك يا أستاذة !
واستمتعت بالهدوء والراحة شهرا كاملا، فكنت وأنا في الطريق أتصل به وأخبره أني ربما أتأخر عشر دقائق أو ربع أو نصف ساعة فيرد عليّ بحنوّ: على راحتك يا أمي .. على راحتك .
أحيل مدير المؤسسة للتقاعد وجاء مدير آخر لم يسمع عن تيسير بعد، وكان لابد من تقديم قربان ليثبت به نزاهته وقد توافق أن حل موعد زواج ابنة تيسير وأعلن عن هذا الزواج في المؤسسة، وبعد أن وقّعتُ في الدفتر مددت يدي بالمبلغ الشهري له فرده لي قائلا لي بصوت هامس:
- أستاذة مها .. هل أطمع منك في سلفة ألفي جنيه كي ألبي بعض احتياجات العرس
- فكرت بعض الوقت ثم قلت له: ليس معي الآن هذا المبلغ
- هز رأسه وقال: شكرا .. شكرا
انصرفت من أمامه وأنا أقول في نفسي أعطيه ما يريد الآن ثم يسوَدّ وجهي في طلب حقي؟
وبينما أنا في مكتبي أمارس عملي أشار لي تيسير فذهبت إليه فأخذني إلى مكتب مدير الإدارة، وسمعت ما لم أكن أتوقع
- قال مخاطبا المدير: هل يرضيك يا سعادة المدير أن تفتح الأستاذة مها حقيبتها وتخرج لي نقودا وتدسها في يدي حتى أغمض عيني عن حضورها وانصرافها ؟ لكني رفضت بإصرار
- لم يحدث يا سيادة المدير
- انبرى تيسير واعظا وقال إلا الكذب .. لا أقبله ، ألم يحدث أن وضعتي في يدي نقودا ورددتها عليك وقلت لك رجعي نقودك حقيبتك يا أستاذة؟
- تلجلجت وبدا عليّ الاضطراب
- قال المدير بنبرة مهددة هل تتحملين نتائج هذا الاتهام؟
- بخوف قلت: أعتذر يا سيادة المدير.. لن تتكرر مرة أخرى
- وهنا أكمل تيسير موعظته قائلا : عشت عمري شريفا، لا أقبل الحرام على أولادي ولكني أردت أن أعرفك يا سعادة المدير من هو تيسير
- رد المدير قائلا: معلوم .. معلوم يا تيسير .. مها سأسامحك هذه المرة لكن حذارِ أن تتكرر مرة أخرى واستمعت لنصيحته ولم أكررها مرة أخرى
تيسير سر أسرار هذه المؤسسة أكثر من عشرين عاما وهو متشبث بهذا الجحر، وبدفاتر الحضور والانصراف التي جعلت منه المدير العام الفعلي لهذه المؤسسة . يعرف جيدا كيف يغير جلده مع كل مدير جديد، يتقن الوسوسة في أذن كل من يجلس على هذا المقعد. لم تقع عليه أي جزاءات ، ودائما ما يخرج من التحقيقات كما تنسل الشعرة من العجين، يحفظ اللوائح ويستخدمها بدقة حين يريد.
يومان متتابعان أعود إلى بيتي بعد أن قطعت مسافة ثلاثين كيلومترا لتأخري عن الحضور .دقيقتان أو ثلاثة ، مما جعل زميلتي ترق لحالي وتهمس في أذني:
- مها .. سأقول لك شيئا لا تخبري به أحدا .
- لا عليك لن أخبر أحدا مهما كان .
- ثلاثون جنيها تجعل تيسير يغمض طرفه عنكِ ، ويوقع لكِ حتى ولو لم تأتِ
فلما وجدتني أفتح فمي من الدهشة ظنت أني أستكثرها قالت:
- وممكن أيضا أن تضيفي ساندويتش إلى ساندويتشاتك وتعطيها له .
- أو يكفيه ذلك ؟
- التفتت حولها وقالت: يوه ، وكيسان سكر، أو باكو شاي كبير، أو برطمان مربى ، كله مقبول .
- هل يعرف أحد هذا ؟
بضحكة ساخرة قالت: كلهم يعرف إلا أنتِ ، وكلهم يصمتون لأنهم يستفيدون .
لم أتقبل هذه النصيحة ، ولم أعمل بها . اجتهدت أن أحضر مبكرا وظللت مواظبة على الحضور في موعدي ، ولكنني لاحظت أن المؤسسة تكاد تخلو من الموظفين قبل موعد الانصراف بساعة ، حتى أن القسم الذي أعمل به لا يغلقه يوميا إلا أنا ، بعد تسلل زملائي الثلاثة واحدا تلو الآخر .
وفي يوم أردت أن أفعل مثلهم، وقبل موعد الانصراف بنصف ساعة وضعت الأوراق التي أمامي في الدرج وحملت حقيبتي ومضيت، وخرجت من البوابة ولم يقابلني أحد، حتى كان صباح اليوم التالي، بينما أنا أوقع في دفتر الحضور قال لي تيسير بنظرة فيها عصبية:
أدخلي للمدير، يريدكِ
- خير يا أستاذ تيسير ؟
بنفس العصبية قال: ستعرفين عندما تدخلين له .
بنظرة قاسية صارمة جمدتني مكاني ، قال لي المدير:
الأستاذ تيسير قدم فيك مذكرة لأنك خرجت بدون إذن، وبتبكيت مرير أكمل : هيّ وكالة من غير بواب حتى تخرجين دون إذن، أنت لا تحترمين رؤساءكِ، اذهبي للشئون القانونية ، ضعي أقوالك .
تلعثمت ثم استجمعت شجاعتي وقلت: لست وحدي التي خرجت يا سعادة المدير.
صاح في وجهي فارتعدت وارتعد جسدي .
- من خرج من زملائك ؟ قولي ...
صمتت، خفت أن أوذي زملائي فأخسرهم .
صاح ثانية : قولي من ؟
لم استطع أن أرد .
تم خصم ثلاثة أيام من راتبي، وظللت على حالي أحافظ على مواعيد الحضور والانصراف، ولكنني بدأت أتابع حالة من حولي فوجدت ليلى موظفة شئون العاملين لا تحضر يومي الخميس والأحد فهي ترافق زوجها الذي يعمل في ميت غمر وبقية الأسبوع هي هنا مع أولادها، وأن الأستاذة نجوى موظفة قسم الخدمات لا تحضر إلا في العاشرة صباحا، وتصعد إلى مكتبها مباشرة دون أن تمر على جحر تيسير، فعندها سوبر ماركت لا تأتي إلا بعد أن تقف فيه الفترة الصباحية، وأن الأستاذة تحية موظفة قسم الحسابات لا تأتي إلا بعد أن تطمئن على أكل طيورها ونظافتها ، وتستوي عندها التاسعة مع العاشرة مع الحادية عشرة، أما الأستاذ صلاح فله يومان أيضا لا يحضر فيهما للمؤسسة ليتابع العمل في مكتبته بعد أن قسم الأسبوع بينه وبين ابنه وزوجته ، وأخبرتني نجية عن رؤساء الأقسام، وطرحت عليّ هذا السؤال:
- هل يصح أن يتساووا بصغار الموظفين ؟
- يصح.. كلنا موظفون لدى الدولة .
ضحِكَت وقالت : هذا ليس عدلا ، العدل أن يأتي كل واحد منهم في الموعد الذي يناسبه ولهم الحق نظرا للمشقة التي يعانون منها، فلهم أن يتغيبوا يومين أو ثلاثة في الأسبوع ، وخطوط السير مفتوحة، والمرور على فروع المؤسسة المنتشرة يحتاج منهم إلى التكثيف والمتابعة ، ثم همست في أذني وقالت : من الآخر لن يتركك تيسير وسيظل خلفك بالمذكرات حتى تدفعين له .
في هذه المرة استمعت لنصيحتها، وفي خلسة ، وقد خلا الجحر إلا مني ومنه ، وضعت الثلاثين جنيها في يده، فضحك لي قائلا:
ربنا يبارك لك يا أستاذة !
واستمتعت بالهدوء والراحة شهرا كاملا، فكنت وأنا في الطريق أتصل به وأخبره أني ربما أتأخر عشر دقائق أو ربع أو نصف ساعة فيرد عليّ بحنوّ: على راحتك يا أمي .. على راحتك .
أحيل مدير المؤسسة للتقاعد وجاء مدير آخر لم يسمع عن تيسير بعد، وكان لابد من تقديم قربان ليثبت به نزاهته وقد توافق أن حل موعد زواج ابنة تيسير وأعلن عن هذا الزواج في المؤسسة، وبعد أن وقّعتُ في الدفتر مددت يدي بالمبلغ الشهري له فرده لي قائلا لي بصوت هامس:
- أستاذة مها .. هل أطمع منك في سلفة ألفي جنيه كي ألبي بعض احتياجات العرس
- فكرت بعض الوقت ثم قلت له: ليس معي الآن هذا المبلغ
- هز رأسه وقال: شكرا .. شكرا
انصرفت من أمامه وأنا أقول في نفسي أعطيه ما يريد الآن ثم يسوَدّ وجهي في طلب حقي؟
وبينما أنا في مكتبي أمارس عملي أشار لي تيسير فذهبت إليه فأخذني إلى مكتب مدير الإدارة، وسمعت ما لم أكن أتوقع
- قال مخاطبا المدير: هل يرضيك يا سعادة المدير أن تفتح الأستاذة مها حقيبتها وتخرج لي نقودا وتدسها في يدي حتى أغمض عيني عن حضورها وانصرافها ؟ لكني رفضت بإصرار
- لم يحدث يا سيادة المدير
- انبرى تيسير واعظا وقال إلا الكذب .. لا أقبله ، ألم يحدث أن وضعتي في يدي نقودا ورددتها عليك وقلت لك رجعي نقودك حقيبتك يا أستاذة؟
- تلجلجت وبدا عليّ الاضطراب
- قال المدير بنبرة مهددة هل تتحملين نتائج هذا الاتهام؟
- بخوف قلت: أعتذر يا سيادة المدير.. لن تتكرر مرة أخرى
- وهنا أكمل تيسير موعظته قائلا : عشت عمري شريفا، لا أقبل الحرام على أولادي ولكني أردت أن أعرفك يا سعادة المدير من هو تيسير
- رد المدير قائلا: معلوم .. معلوم يا تيسير .. مها سأسامحك هذه المرة لكن حذارِ أن تتكرر مرة أخرى واستمعت لنصيحته ولم أكررها مرة أخرى