لم تكن حرية الرأي في أوائل الدولة العباسية مكفولة في كل النواحي الفكرية كما كانت الحال في الدولة الأموية؛ فلم يكن الأمويون يعاقبون، إلا فيما ندر، رجلا بالقتل أو غيره لأنه يرى رأيا يخالف آراءهم في الحكومة أو السياسة أو الدين أو الاجتماع ما دام لا يحاول الانتقاض على الحكومة أو يخل إخلالا عمليا بنظام من نظم الدولة. لم يكن الأمويون يفعلون ذلك إلا نادرا، وإلا فإن عصرهم بل عصر الإمام علي لم يخل من مؤاخذة بعض المخالفين في الرأي واضطهادهم وعقابهم بالقتل أحياناً.
لكن موقف الأمويين من المخالفين وإن شابه إلى حد بعيد موقف العباسيين من مخالفيهم، لا يشابهه إلا في الظاهر، ولكنه يختلف عنه في الحقيقة كل الاختلاف من حيث المبدأ والتنفيذ كما سنبين ذلك في مكانه من هذا البحث.
ولقد حاول العباسيون منذ قامت دولتهم وفي أول قيامها خاصة أن يضعوا للفكر حدودا في بعض النواحي التي يتناولها، ومنعوه من أن يتعداها، وإلا عرض صاحبه للعقاب، كما حاولوا بالترغيب والترهيب أن يصبغوا العلوم على اختلاف أنواعها صبغة خاصة، فنجحوا في بعض محاولاتهم وخابوا في بعض، ونصروا بعض المذاهب الفكرية وحاربوا البعض الآخر مما يوقع الباحث في هذا العصر في كثير من الحيرة والاضطراب.
ورأى مؤسسو الدولة العباسية أنفسهم مكرهين على التزام هذا التدخل بين المذاهب، والحجر على الناس في كثير مما يقولون ويعملون مما لم يكن له نظير قبلهم، ومرجع ذلك إلى أن الدولة الأموية التي قامت دولتهم على أنقاضها ظلت قرابة قرن من الزمان (40 - 132هـ) مسيطرة على العالم الإسلامي فتغلغل سلطانها في جوانبه وألف الناس منها قواعد ونظما خاصة في الحكومة والسياسة والاجتماع وغير ذلك فحاولوا أن يستأصلوا من العالم الإسلامي الذي اعتصبوه كل ما بذر فيه الأمويون من قواعد ونظم، ويستبدلوا بها قواعد ونظما خاصة بدولتهم تحفظ عليها هذا الملك المترامي الأطراف الذي استحوذت عليه بالقوة حينا والدهاء حينا، وكان خلفاؤها - والأولون منهم خاصة - يعرفون أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إلا بعد أن خاضوا إليه أنهارا من الدماء، وعبروا له على جسور الجماجم والأشلاء، بل كانوا يعرفون حق المعرفة أنه لن يستطيعوا الاحتفاظ بدولتهم إلا بالسير على الطريقة التي ساروا عليها حتى صاروا خلائف في الأرض.
كان الأمويون في ملكهم يعتمدون على العرب ويسيئون الظن بالفرس، ويلقونهم بكثير من ألوان المهانة والاضطهاد ما احفظ الفرس عليهم بل على العرب جميعاً لأن هؤلاء العرب فتحوا بلادهم وثلوا عرشهم واتخذوهم موالي يمتهنونهم ويرون أنفسهم اكرم منهم عنصراً وارفع مقاماً. ولقد ظهر حقد الفرس على العرب منذ فتحوا بلادهم في عهد عمر بن الخطاب فالتاريخ يحدثنا أن الهرمزان حين وقع أسيراً في يد أبي موسى الأشعري عند فتح تستر أرسله إلى الخليفة عمر ليحكم فيه حكمه فكان ما كان من إبقاء عمر عليه وإسلامه وحياته في المدينة كما تحيا العامة، وأنه كان، حين تأتيه في المدينة، أخبار فتوح العرب لفارس وهزائم الفرس، يتميز من الغيظ، وإن حقده قد زاد لما كان يراه من وفود أبناء جنسه أسارى إلى المدينة واتخاذ العرب إياهم موالي وخدماً، فلما كان وفود سبي جلولاء كان الهرمزان يمسح برؤوسهم ويقول: (أكل كبدي عمر) مما يدل على أن النعرة الفارسية ظهرت منذ فتح العرب بلاد فارس، وما كان قتل عمر إلا مؤامرة فارسية لكيد العرب نفذها أبو لؤلؤة وظل الفرس ينقضون على الدولة الأموية كلما أمكنتهم الفرصة حتى كانت ثورتهم الكبرى باسم العباسيين تحت قيادة أبي مسلم الخراساني فدكتها دكا.
وإذا كان الخليفة عمر ومن بعده عثمان وعلي قد أحسنوا السيرة فيهم اتباعاً لأوامر الدين مما خفف عن الفرس ما كان يعتلج في قلوبهم من الحقد والضغينة - فإن الخلفاء الأمويين لم يساووهم بالعرب كما أمر الدين بل كانوا يحتقرونهم وينزلونهم منزلة العبيد بالرغم مما عرفوا لهم في أيام استقلالهم وفي أيام الأمويين أنفسهم من حضارة ورقي في جميع مرافق الحياة والفكر حتى في الدين الإسلامي واللغة العربية.
كان الأمويون برغم كل الاضطرابات التي تكبدوا مشقاتها يثقون بالعرب كل الثقة فبالعرب أقاموا دولتهم، وبهم حافظوا عليها من العرب والفرس جميعاً.
أما العباسيون فلم يظفروا باطمئنان كاطمئنان الأمويين وثقتهم بعنصر يعتمدون عليه إزاء ما يكر بهم من الخطوب في نضالهم عن دولتهم، بل في إقامتها قبل أن تكون.
كان العلويون والعباسيون وهم آل البيت النبوي قد قاسوا ومن الدولة الأموية ألوانا قاسية من الظلم والاضطهاد، وكان نصيب العلويين من ذلك أوفى نصيب، فكانوا يلعنون على المنابر طيلة العهد الأموي إلا نحو عام في عهد عمر بن عبد العزيز الأموي، وكانوا يراقبون في كل حركاتهم وسكناتهم، ويقابلون كلما رفعوا رؤوسهم بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال، مع اعتقادهم أنهم أولى من الأمويين بخلافة النبي عليه السلام، وكان العرب يشهدون هذه الشنع دون أن ينصروهم على هؤلاء المغتصبين بل كانوا يعينون المغتصبين على ظلمهم وقتلهم والتمثيل بهم، وتشريدهم في الآفاق جزاء ما كان الأمويون يبذولنه لهم من العطايا السخية.
ولقد كان كل أولئك مما أحفظ آل البيت على العرب، وأيأسهم منهم، فلما آلت إلى العباسيين قيادة الدعوة السرية لدك الدولة الأموية كانوا يحملون في قلوبهم للعرب كل حقد وضغينة، وليس أدل على يأس العباسيين من العرب مما أوصى به محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أول من آلت إليه قيادة الدعوة السرية من العباسيين، حين وجه دعاته إلى الأمصار، قال لهم: (أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف تقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق نصارى، وأما أهل الشام فليسوا يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتورعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحي وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فأني أتفاءل إلى المشرق، والى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق).
وهذا كلام رجل أقل ما يقال فيه أنه يتكلم عن فهم عميق واستقراء شامل، فهو يائس من نصرة كل الأقطار التي سكانها أو معظمهم من العرب، ولا أمل له إلا في خراسان الفارسية.
وليس أدل على بغض العباسيين للعرب وحقدهم عليهم من أن إبراهيم بن محمد بن علي السابق ذكره - لما آلت إليه القيادة بعد وفاة أبيه محمد بن علي - قال لأبي مسلم الخراساني حين أمره على خراسان: (يا عبد الرحمن، أنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر فانهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت فيه، ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شئ؛ وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله).
وقامت الدولة العباسية ولكن لا بقوة العرب بل برغم أنوف العرب، فزاد ذلك العباسيين حقداً وضغينة عليهم، وأحسوا بما يحسه كل مظلوم نحو من ظلموه بعد أن انتصر عليهم، أحسوا نحو الأميين خاصة والعرب وهم معاونوهم في ظلمهم عامة أنهم أعداؤهم الذين لا يجوز لهم أن يراقبوا في الثأر منهم إلا ولا ذمة، ولا ينبغي أن يرعوا لهم حرمة فأسرفوا في سوء الظن وأسرفوا في القتل وانتهاك الحرمات وإهدار الحقوق، وأحلوا بينهم وبينهم الجفوة محل المودة، والقطيعة محل التواصل.
ولقد يروق لبعض المؤرخين أن ينسبوا إلى العباسيين أنهم إنما اعتمدوا على الفرس بعد نجاحهم ثقة بهم أو مثوبة لهم على معونتهم، وليس هذا من الصدق في شئ فما كان اعتماد العباسيين على الفرس قبل قيام دولتهم إلا تجنبا للعرب بعد أن يئسوا منهم كما يظهر من كلام محمد بن علي الذي نقلناه آنفا، وإلا خوفا منهم وريبة فيهم كما يظهر من وصية ابنه إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني، وما اعتمد العباسيون على الفرس بعد نجاح الدعوة ثقة منهم بهم أو مثوبة لهم بل خوفا من العرب وريبة فيهم أيضاً، وهذا ما أدى إلى ضياع العرب في الدولة الجديدة، وما وثق العباسيون بالفرس ولا أرادوا مثوبتهم حين قربوهم في دولتهم بل كانوا يحذرونهم كما يحذرون العرب ويرقبون الشرور منهم كما يرقبونها من العرب، وإن كانوا لا يطيقون إبعاد الفرس كما أطاقوا تنحية العرب. واعتقد أن هذا لم يكن يخفى بحال على مؤسس الدولة العباسية فما كان أبو مسلم الخراساني - كما يظهر من حوادثه - بالرجل الزاهد في السلطان، وإعادة دولة الفرس متى أتيح له ذلك، وما تكبد للعباسيين ما تكبد حبا فيهم ولا إيمانا بوجوب نصرتهم، ولا ابتغاء وجه الله ورضا محمد عليه السلام، فلم يكن العباسيون كما لم يكن الأمويون عند أبي مسلم بأحق بالخلافة من العلويين ما دام الأمر أمر قرابة من النبي، وإنما نصر العباسيين دون العلويين لأن هدم أولئك أيسر من هدم هؤلاء. والحجة التي أمكنه أن يتذرع بها لخلب الباب الجيوش حتى هدم الدولة الأموية حجة لا تزال ناهضة تجاه العباسيين ومن اليسير أن يتذرع بها لهدمهم. تلك الحجة هي أن العلويين أمس رحما بالنبي من العباسيين، فالعباسيون والأمويون جميعهم غاصبون.
وأعمال أبي مسلم تدل على انه كان تواقا إلى الملك، فالتاريخ يروي أنه خطب أمينة بنت علي عمة السفاح والمنصور فردعها وأنه كان في رسائله يقدم اسمه على اسم الخليفة على غير ما جرت به العادة في التراسل بين الخلفاء وغيرهم، وأنه لما أراد القدوم من مرو إلى السفاح كتب إليه يستأذنه في الحج أميرا على الناس سنة 136هـ فاعتذر إليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميرا على الناس سنة 136 هـ فأعتذر أليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميراً على الحجيج، وأمر السفاح أبا جعفر بأن يطلب ذلك فطلبه فوافقه عليه مما أثار اشمئزاز أبي مسلم حتى رووا أنه قال لبعض خاصته: (أنا وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا؟). ودلت سيرته في ذهابه وإيابه من الحج على كثير من مطامعه من وراء ابتغاء كسب القلوب في إظهار القوة والكرم بالأموال، والتقدم في الطريق على أبي جعفر.
ولقد أدى ذلك وغيره إلى حسد أبي جعفر لأبي مسلم وتوجس من مطامعه حتى طلب من السفاح أخيه أن يغتاله وألح في الطلب حتى كاد السفاح ينفذه لولا أنه خاف من جيوش خراسان التي تأتمر بأمر أبي مسلم وتتعصب له فاضطر مرغما إلى الأناة والمهادنة.
وما إن صار المنصور خليفة وفرغ من عمه عبد الله بن علي حين خرج عليه حتى قتل أبا مسلم، وأرسل إلى قواده جوائز فاخرة، وأعطى الجند حتى أمنهم من أن يثوروا للأخذ بثأره.
قامت الدولة العباسية على القوة والدهاء، وكان ديدن رجالها المؤسسين الحذر المفرط من العرب والفرس جميعاً. وضرب هؤلاء بهؤلاء للتمكن من السيطرة على الفريقين، وهذا ما جعل المنصور حين رأى رجاحة الخراسانيين على العرب يصطنع كثيراً من رجال العرب لقيادة الجيوش وولاية الأقطار، ومن هؤلاء عيسى بن موسى ومعن بن زائدة وعمر بن العلاء والهيثم بم معاوية ويزيد بن حاتم ومحمد بن سليمان بن علي وغيرهم.
وكان شعارهم كلمة إبراهيم الإمام لأبي مسلم (أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله) فكانوا عاملين على توطيد ملكهم بكل الوسائل المحللة والمحرمة.
من أجل ذلك كله حاول العباسيون أن يعظموا الخلافة في قلوب الناس وعيونهم، وقتلوا بالشبهة كل من ظنوا أنه خروجاً على الدولة، أو توهموا أن في وجوده خطراً عليها، فأمر السفاح أبا مسلم بقتل أول وزرائه أبي حفص سلم الخلال الذي كان يلقب وزير آل محمد، وقتل أبو جعفر قائده ومؤسس ملكه أبا مسلم الخراساني، ولما قتل أبو حفص سلمة الخلال استوزر السفاح خالد بن برمك، فكان يكره أن يسمى وزيرا تطيرا من قتل أبي حفص، ثم أعفاه المنصور في خلافته وولى أبا أيوب سليمان ابن مخلد المورياني فكان إذا دعاه المنصور خشيه حتى يشحب لونه وترتعد فرائصه، ثم قتله، وفي رثائه يقول أحد شعراء ذلك العهد:
قد وجدنا الملوك تحسد من اع ... طته طوعا أزمة التدبير
فإذا ما رأوا له النهي والأم ... ر أتوه من بأسهم بنكير
شرب الكأس بعد حفص سليما ... ن ودارت عليه كف المدير
ونجا خالد بن برمكَ منها ... إذ دعوه من بعدها بالأمير
أسوأ العالمين حالا لديهم ... من تسمى بكاتب أو وزير
ولما قتله المنصور بعد تعذيبه وأستصفاء أمواله حبس أخاه وبني أخيه سعيداً ومسعوداً ومخلداً ومحمداً، فكانت وزارته نكبة ماحقة عليه وعلى أهله. ولما جاء المهدي استوزر يعقوب بن داود 161هـ، ثم نكبه وحبسه سنة 166هـ، فظل في السجن حتى أخرجه الرشيد.
وقد ادعت الدولة العباسية لنفسها حقاً لم تدعه الدولة الأموية إذ أقامت الخلافة على أصل من الدين - كما زعم كثير من الملوك لملكيتهم ذلك في العصور الوسطى الأوربية، فالخليفة مصدر السلطات وأرادته في الأرض ظل إرادة الله في السماء، فهو حامي حمى الدين وله بذلك أن يقضي فيما يشاء ومن يشاء كما يشاء. فحرموا على الناس أن يتناولوا أعمالهم بالنقد أو التجريح كما حرم المنصور الطعن في الخلافة، وطلب من الناس، إذا رأوه يضيق عليهم في الرزق، أن يدعوا الله أن يوسع المنصور عليهم لأنه هو مفتاح أرزاقهم.
ومن الحق أن المنصور برغم تشدده في سياسة الدولة وتضييقه على أفكار الناس فيما يتعلق بأمور الحكومة ونظمها حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم، ويعاجل بالقتل كل خارج عليه بل كل من كان وجوده خطراً عليه ولو لم يكن يستحق القتل، وكان فضله على الدولة عظيماً - بالرغم من كل ذلك كان جشعا للمعرفة إلى حد كبير فكان يحتضن الأطباء والمنجمين ويرعى ما ينقلون من الكتب العلمية والحكمية، ومن أجل ذلك كان مؤسس حركة الترجمة عن اللغات السريانية والفارسية واليونانية، كما كان يرعى إلى حد ما بعض العلوم الأخرى. كان توطيد الدولة همه فلم يكن يبلى في هذا السبيل بل في بعض شؤونه الخاصة عهداً قطعه ولا يبال أمور الدين وما جرت عليه العرب قبله في أخلاقها وتقاليدها.
فلما جاء ابنه المهدي سنة 158هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة. لكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة. إذا كانت الزندقة طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها أن صدقاً وإن كذباً، جاداً في البحث عن اتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستندا للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً حليماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله.
محمد خليفة التونسي
مجلة الرسالة - العدد 637
بتاريخ: 17 - 09 - 1945
لكن موقف الأمويين من المخالفين وإن شابه إلى حد بعيد موقف العباسيين من مخالفيهم، لا يشابهه إلا في الظاهر، ولكنه يختلف عنه في الحقيقة كل الاختلاف من حيث المبدأ والتنفيذ كما سنبين ذلك في مكانه من هذا البحث.
ولقد حاول العباسيون منذ قامت دولتهم وفي أول قيامها خاصة أن يضعوا للفكر حدودا في بعض النواحي التي يتناولها، ومنعوه من أن يتعداها، وإلا عرض صاحبه للعقاب، كما حاولوا بالترغيب والترهيب أن يصبغوا العلوم على اختلاف أنواعها صبغة خاصة، فنجحوا في بعض محاولاتهم وخابوا في بعض، ونصروا بعض المذاهب الفكرية وحاربوا البعض الآخر مما يوقع الباحث في هذا العصر في كثير من الحيرة والاضطراب.
ورأى مؤسسو الدولة العباسية أنفسهم مكرهين على التزام هذا التدخل بين المذاهب، والحجر على الناس في كثير مما يقولون ويعملون مما لم يكن له نظير قبلهم، ومرجع ذلك إلى أن الدولة الأموية التي قامت دولتهم على أنقاضها ظلت قرابة قرن من الزمان (40 - 132هـ) مسيطرة على العالم الإسلامي فتغلغل سلطانها في جوانبه وألف الناس منها قواعد ونظما خاصة في الحكومة والسياسة والاجتماع وغير ذلك فحاولوا أن يستأصلوا من العالم الإسلامي الذي اعتصبوه كل ما بذر فيه الأمويون من قواعد ونظم، ويستبدلوا بها قواعد ونظما خاصة بدولتهم تحفظ عليها هذا الملك المترامي الأطراف الذي استحوذت عليه بالقوة حينا والدهاء حينا، وكان خلفاؤها - والأولون منهم خاصة - يعرفون أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إلا بعد أن خاضوا إليه أنهارا من الدماء، وعبروا له على جسور الجماجم والأشلاء، بل كانوا يعرفون حق المعرفة أنه لن يستطيعوا الاحتفاظ بدولتهم إلا بالسير على الطريقة التي ساروا عليها حتى صاروا خلائف في الأرض.
كان الأمويون في ملكهم يعتمدون على العرب ويسيئون الظن بالفرس، ويلقونهم بكثير من ألوان المهانة والاضطهاد ما احفظ الفرس عليهم بل على العرب جميعاً لأن هؤلاء العرب فتحوا بلادهم وثلوا عرشهم واتخذوهم موالي يمتهنونهم ويرون أنفسهم اكرم منهم عنصراً وارفع مقاماً. ولقد ظهر حقد الفرس على العرب منذ فتحوا بلادهم في عهد عمر بن الخطاب فالتاريخ يحدثنا أن الهرمزان حين وقع أسيراً في يد أبي موسى الأشعري عند فتح تستر أرسله إلى الخليفة عمر ليحكم فيه حكمه فكان ما كان من إبقاء عمر عليه وإسلامه وحياته في المدينة كما تحيا العامة، وأنه كان، حين تأتيه في المدينة، أخبار فتوح العرب لفارس وهزائم الفرس، يتميز من الغيظ، وإن حقده قد زاد لما كان يراه من وفود أبناء جنسه أسارى إلى المدينة واتخاذ العرب إياهم موالي وخدماً، فلما كان وفود سبي جلولاء كان الهرمزان يمسح برؤوسهم ويقول: (أكل كبدي عمر) مما يدل على أن النعرة الفارسية ظهرت منذ فتح العرب بلاد فارس، وما كان قتل عمر إلا مؤامرة فارسية لكيد العرب نفذها أبو لؤلؤة وظل الفرس ينقضون على الدولة الأموية كلما أمكنتهم الفرصة حتى كانت ثورتهم الكبرى باسم العباسيين تحت قيادة أبي مسلم الخراساني فدكتها دكا.
وإذا كان الخليفة عمر ومن بعده عثمان وعلي قد أحسنوا السيرة فيهم اتباعاً لأوامر الدين مما خفف عن الفرس ما كان يعتلج في قلوبهم من الحقد والضغينة - فإن الخلفاء الأمويين لم يساووهم بالعرب كما أمر الدين بل كانوا يحتقرونهم وينزلونهم منزلة العبيد بالرغم مما عرفوا لهم في أيام استقلالهم وفي أيام الأمويين أنفسهم من حضارة ورقي في جميع مرافق الحياة والفكر حتى في الدين الإسلامي واللغة العربية.
كان الأمويون برغم كل الاضطرابات التي تكبدوا مشقاتها يثقون بالعرب كل الثقة فبالعرب أقاموا دولتهم، وبهم حافظوا عليها من العرب والفرس جميعاً.
أما العباسيون فلم يظفروا باطمئنان كاطمئنان الأمويين وثقتهم بعنصر يعتمدون عليه إزاء ما يكر بهم من الخطوب في نضالهم عن دولتهم، بل في إقامتها قبل أن تكون.
كان العلويون والعباسيون وهم آل البيت النبوي قد قاسوا ومن الدولة الأموية ألوانا قاسية من الظلم والاضطهاد، وكان نصيب العلويين من ذلك أوفى نصيب، فكانوا يلعنون على المنابر طيلة العهد الأموي إلا نحو عام في عهد عمر بن عبد العزيز الأموي، وكانوا يراقبون في كل حركاتهم وسكناتهم، ويقابلون كلما رفعوا رؤوسهم بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال، مع اعتقادهم أنهم أولى من الأمويين بخلافة النبي عليه السلام، وكان العرب يشهدون هذه الشنع دون أن ينصروهم على هؤلاء المغتصبين بل كانوا يعينون المغتصبين على ظلمهم وقتلهم والتمثيل بهم، وتشريدهم في الآفاق جزاء ما كان الأمويون يبذولنه لهم من العطايا السخية.
ولقد كان كل أولئك مما أحفظ آل البيت على العرب، وأيأسهم منهم، فلما آلت إلى العباسيين قيادة الدعوة السرية لدك الدولة الأموية كانوا يحملون في قلوبهم للعرب كل حقد وضغينة، وليس أدل على يأس العباسيين من العرب مما أوصى به محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أول من آلت إليه قيادة الدعوة السرية من العباسيين، حين وجه دعاته إلى الأمصار، قال لهم: (أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف تقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق نصارى، وأما أهل الشام فليسوا يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتورعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحي وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فأني أتفاءل إلى المشرق، والى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق).
وهذا كلام رجل أقل ما يقال فيه أنه يتكلم عن فهم عميق واستقراء شامل، فهو يائس من نصرة كل الأقطار التي سكانها أو معظمهم من العرب، ولا أمل له إلا في خراسان الفارسية.
وليس أدل على بغض العباسيين للعرب وحقدهم عليهم من أن إبراهيم بن محمد بن علي السابق ذكره - لما آلت إليه القيادة بعد وفاة أبيه محمد بن علي - قال لأبي مسلم الخراساني حين أمره على خراسان: (يا عبد الرحمن، أنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر فانهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت فيه، ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شئ؛ وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله).
وقامت الدولة العباسية ولكن لا بقوة العرب بل برغم أنوف العرب، فزاد ذلك العباسيين حقداً وضغينة عليهم، وأحسوا بما يحسه كل مظلوم نحو من ظلموه بعد أن انتصر عليهم، أحسوا نحو الأميين خاصة والعرب وهم معاونوهم في ظلمهم عامة أنهم أعداؤهم الذين لا يجوز لهم أن يراقبوا في الثأر منهم إلا ولا ذمة، ولا ينبغي أن يرعوا لهم حرمة فأسرفوا في سوء الظن وأسرفوا في القتل وانتهاك الحرمات وإهدار الحقوق، وأحلوا بينهم وبينهم الجفوة محل المودة، والقطيعة محل التواصل.
ولقد يروق لبعض المؤرخين أن ينسبوا إلى العباسيين أنهم إنما اعتمدوا على الفرس بعد نجاحهم ثقة بهم أو مثوبة لهم على معونتهم، وليس هذا من الصدق في شئ فما كان اعتماد العباسيين على الفرس قبل قيام دولتهم إلا تجنبا للعرب بعد أن يئسوا منهم كما يظهر من كلام محمد بن علي الذي نقلناه آنفا، وإلا خوفا منهم وريبة فيهم كما يظهر من وصية ابنه إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني، وما اعتمد العباسيون على الفرس بعد نجاح الدعوة ثقة منهم بهم أو مثوبة لهم بل خوفا من العرب وريبة فيهم أيضاً، وهذا ما أدى إلى ضياع العرب في الدولة الجديدة، وما وثق العباسيون بالفرس ولا أرادوا مثوبتهم حين قربوهم في دولتهم بل كانوا يحذرونهم كما يحذرون العرب ويرقبون الشرور منهم كما يرقبونها من العرب، وإن كانوا لا يطيقون إبعاد الفرس كما أطاقوا تنحية العرب. واعتقد أن هذا لم يكن يخفى بحال على مؤسس الدولة العباسية فما كان أبو مسلم الخراساني - كما يظهر من حوادثه - بالرجل الزاهد في السلطان، وإعادة دولة الفرس متى أتيح له ذلك، وما تكبد للعباسيين ما تكبد حبا فيهم ولا إيمانا بوجوب نصرتهم، ولا ابتغاء وجه الله ورضا محمد عليه السلام، فلم يكن العباسيون كما لم يكن الأمويون عند أبي مسلم بأحق بالخلافة من العلويين ما دام الأمر أمر قرابة من النبي، وإنما نصر العباسيين دون العلويين لأن هدم أولئك أيسر من هدم هؤلاء. والحجة التي أمكنه أن يتذرع بها لخلب الباب الجيوش حتى هدم الدولة الأموية حجة لا تزال ناهضة تجاه العباسيين ومن اليسير أن يتذرع بها لهدمهم. تلك الحجة هي أن العلويين أمس رحما بالنبي من العباسيين، فالعباسيون والأمويون جميعهم غاصبون.
وأعمال أبي مسلم تدل على انه كان تواقا إلى الملك، فالتاريخ يروي أنه خطب أمينة بنت علي عمة السفاح والمنصور فردعها وأنه كان في رسائله يقدم اسمه على اسم الخليفة على غير ما جرت به العادة في التراسل بين الخلفاء وغيرهم، وأنه لما أراد القدوم من مرو إلى السفاح كتب إليه يستأذنه في الحج أميرا على الناس سنة 136هـ فاعتذر إليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميرا على الناس سنة 136 هـ فأعتذر أليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميراً على الحجيج، وأمر السفاح أبا جعفر بأن يطلب ذلك فطلبه فوافقه عليه مما أثار اشمئزاز أبي مسلم حتى رووا أنه قال لبعض خاصته: (أنا وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا؟). ودلت سيرته في ذهابه وإيابه من الحج على كثير من مطامعه من وراء ابتغاء كسب القلوب في إظهار القوة والكرم بالأموال، والتقدم في الطريق على أبي جعفر.
ولقد أدى ذلك وغيره إلى حسد أبي جعفر لأبي مسلم وتوجس من مطامعه حتى طلب من السفاح أخيه أن يغتاله وألح في الطلب حتى كاد السفاح ينفذه لولا أنه خاف من جيوش خراسان التي تأتمر بأمر أبي مسلم وتتعصب له فاضطر مرغما إلى الأناة والمهادنة.
وما إن صار المنصور خليفة وفرغ من عمه عبد الله بن علي حين خرج عليه حتى قتل أبا مسلم، وأرسل إلى قواده جوائز فاخرة، وأعطى الجند حتى أمنهم من أن يثوروا للأخذ بثأره.
قامت الدولة العباسية على القوة والدهاء، وكان ديدن رجالها المؤسسين الحذر المفرط من العرب والفرس جميعاً. وضرب هؤلاء بهؤلاء للتمكن من السيطرة على الفريقين، وهذا ما جعل المنصور حين رأى رجاحة الخراسانيين على العرب يصطنع كثيراً من رجال العرب لقيادة الجيوش وولاية الأقطار، ومن هؤلاء عيسى بن موسى ومعن بن زائدة وعمر بن العلاء والهيثم بم معاوية ويزيد بن حاتم ومحمد بن سليمان بن علي وغيرهم.
وكان شعارهم كلمة إبراهيم الإمام لأبي مسلم (أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله) فكانوا عاملين على توطيد ملكهم بكل الوسائل المحللة والمحرمة.
من أجل ذلك كله حاول العباسيون أن يعظموا الخلافة في قلوب الناس وعيونهم، وقتلوا بالشبهة كل من ظنوا أنه خروجاً على الدولة، أو توهموا أن في وجوده خطراً عليها، فأمر السفاح أبا مسلم بقتل أول وزرائه أبي حفص سلم الخلال الذي كان يلقب وزير آل محمد، وقتل أبو جعفر قائده ومؤسس ملكه أبا مسلم الخراساني، ولما قتل أبو حفص سلمة الخلال استوزر السفاح خالد بن برمك، فكان يكره أن يسمى وزيرا تطيرا من قتل أبي حفص، ثم أعفاه المنصور في خلافته وولى أبا أيوب سليمان ابن مخلد المورياني فكان إذا دعاه المنصور خشيه حتى يشحب لونه وترتعد فرائصه، ثم قتله، وفي رثائه يقول أحد شعراء ذلك العهد:
قد وجدنا الملوك تحسد من اع ... طته طوعا أزمة التدبير
فإذا ما رأوا له النهي والأم ... ر أتوه من بأسهم بنكير
شرب الكأس بعد حفص سليما ... ن ودارت عليه كف المدير
ونجا خالد بن برمكَ منها ... إذ دعوه من بعدها بالأمير
أسوأ العالمين حالا لديهم ... من تسمى بكاتب أو وزير
ولما قتله المنصور بعد تعذيبه وأستصفاء أمواله حبس أخاه وبني أخيه سعيداً ومسعوداً ومخلداً ومحمداً، فكانت وزارته نكبة ماحقة عليه وعلى أهله. ولما جاء المهدي استوزر يعقوب بن داود 161هـ، ثم نكبه وحبسه سنة 166هـ، فظل في السجن حتى أخرجه الرشيد.
وقد ادعت الدولة العباسية لنفسها حقاً لم تدعه الدولة الأموية إذ أقامت الخلافة على أصل من الدين - كما زعم كثير من الملوك لملكيتهم ذلك في العصور الوسطى الأوربية، فالخليفة مصدر السلطات وأرادته في الأرض ظل إرادة الله في السماء، فهو حامي حمى الدين وله بذلك أن يقضي فيما يشاء ومن يشاء كما يشاء. فحرموا على الناس أن يتناولوا أعمالهم بالنقد أو التجريح كما حرم المنصور الطعن في الخلافة، وطلب من الناس، إذا رأوه يضيق عليهم في الرزق، أن يدعوا الله أن يوسع المنصور عليهم لأنه هو مفتاح أرزاقهم.
ومن الحق أن المنصور برغم تشدده في سياسة الدولة وتضييقه على أفكار الناس فيما يتعلق بأمور الحكومة ونظمها حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم، ويعاجل بالقتل كل خارج عليه بل كل من كان وجوده خطراً عليه ولو لم يكن يستحق القتل، وكان فضله على الدولة عظيماً - بالرغم من كل ذلك كان جشعا للمعرفة إلى حد كبير فكان يحتضن الأطباء والمنجمين ويرعى ما ينقلون من الكتب العلمية والحكمية، ومن أجل ذلك كان مؤسس حركة الترجمة عن اللغات السريانية والفارسية واليونانية، كما كان يرعى إلى حد ما بعض العلوم الأخرى. كان توطيد الدولة همه فلم يكن يبلى في هذا السبيل بل في بعض شؤونه الخاصة عهداً قطعه ولا يبال أمور الدين وما جرت عليه العرب قبله في أخلاقها وتقاليدها.
فلما جاء ابنه المهدي سنة 158هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة. لكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة. إذا كانت الزندقة طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها أن صدقاً وإن كذباً، جاداً في البحث عن اتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستندا للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً حليماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله.
محمد خليفة التونسي
مجلة الرسالة - العدد 637
بتاريخ: 17 - 09 - 1945