لم تحظ الشاعرة السورية الراحلة أمل جراح بما تستحقه من حظوة واهتمام نقديين، رغم أنها جمعت في تجربتها الشعرية بين الانخراط في مغامرة الحداثة الاسلوبية المتمثلة بقصيدة النثر وبين الرهافة الغنائية التي تنتسب إلى تراب اللغة المحلي، كما إلى قوة الحياة وفوراناتها العميقة، وإذا كانت الشاعرة لم تذهب في التجربة حتى نهاياتها على صعيد المغامرة والاكتشاف، فما ذلك بسبب قصور في الموهبة، بل بسبب اصابتها المبكرة بعطل في وظائف القلب لازمها طوال حياتها وأعاق الكثير من قدراتها الابداعية والتعبيرية المتنوعة، وهو ما يفسر في الوقت ذاته تباعد اصداراتها الشعرية بحيث يبلغ معدل الفارق الزمني بين مجموعاتها الخمس يتجاوز السنوات العشر، رغم أن لا علاقة البتة بين التراكم الكمي للكتابة وبين جودتها وقيمتها الفنية، واللافت في هذا السياق هو أن الشاعرة التي عانت من مرضها المزمن ما يفوق كل احتمال لم تسمح لليأس بالتسرب إلى أعماقها فبدت قصائدها منذ “رسائل امرأة دمشقية” و”صاح عندليب في غابة” وحتى “صفصافة تكتب اسمها” “وإمرأة من شمع وشمس وقمر” آهلة بالتفاؤل والنضارة وفرح العيش.
إلا أن مفاجأة أمل جراح الكبرى انتظرت سنوات بعد وفاتها عام 2004 لكي تظهر هذه السنة إلى العلن متمثلة بروايتها الجريئة وغير المتوقعة التي صدرت في بيروت بعنوان “الرواية الملعونة”، لكن ما يجب أن يعرفه القراء بهذا الخصوص هو أن الرواية المذكورة لا تنتمي إلى نتاج الكاتبة المتأخر، بل إلى بواكيرها باعتبار أنها حازت على الجائزة الأولى للرواية في المسابقة التي نظمتها مجلة “الحسناء” اللبنانية عام ،1968 أي قبل صدور المجموعة الشعرية الأولى لأمل عام ،1970 ولم تكن الجائزة بحد ذاتها لتعني الكثير لو لم تكن لجنتها التحكيمية مؤلفة من أسماء كبيرة وذات مصداقية عالية من وزن غادة السمان وجبرا ابراهيم جبرا ويوسف الخال اضافة إلى أنسي الحاج الذي كان رئيساً لتحرير المجلة يومذاك، وينبغي التنويه هنا بأن اللجنة المذكورة قد منحت جائزة الشعر إلى سنية صالح زوجة الشاعر السوري محمد الماغوط، التي تعرضت هي الأخرى لظلم فادح قد يكون أحد أسبابه اقامتها في ظل شاعر كبير من وزن الماغوط من دون أن يعني ذلك تسويغاً للظلم وتبريراً له، فمن يقرأ أعمال صالح الشعرية التي صدرت بدورها بعد وفاة صاحبتها بسنوات يتلمس قدراً عالياً من الموهبة والتفرد والحساسية المرهفة ازاء اللغة والعالم.
لا أجافي الحقيقة بشيء إذا قلت بأنني أقبلت في البداية على قراءة “الرواية الملعونة” لأمل جراح بتردد وحذر بالغين خشية أن يكون نشر الرواية متأنياً من مجرد الشعور بالتعاطف ازاء الكتاب الموتى، أو الرغبة المحضة في تكريمهم لا من القيمة الفعلية للانجاز الأدبي.
رغم أن الكاتب الصديق ياسين رفاعية زوج أمل، كان يشير باستمرار إلى أهمية الرواية المذكورة التي كانت تحمل لدى نيلها الجائزة عنوان “خذني بين ذراعيك”.
لا أعرف إذا كان تغيير اسم الرواية الأصلي قد تم لأسباب تسويقية حيث أن عنوان “الرواية الملعونة” يستدرج بحد ذاته فضول القارئ ومع ذلك فإن العنوان الجديد يتناسب مع الموضوع الحساس الذي تقاربه الكاتبة وهو موضوع العلاقة المحرمة بين الأقارب وخاص بين الابنة وأبيها كما يوحي به مناخ الرواية. فأحداث الرواية تتمحور حول ما أطلق عليه فرويد تسمية “عقدة ألكترا” والمتمثلة بتعلق الطفلة منذ صغرها بالأب الذي ترى فيه المثال الأكمل على المستويات الأخلاقية والجسدية والجمالية، مقابل عقدة “أوديب” التي تتمثل بقتل الأب والتعلق بصورة الأم، صحيح أن بطلة أمل جراح لا تقوم بقتل الأم، بل إن هذه الأخيرة تقضي نحبها بسبب مرض داهم، ولكنها تبدو من خلال سياق الرواية وكأنها ما تزال تتعامل مع الأم بوصفها الغريمة الأكثر خطورة التي نافستها على قلب الأب لسنوات طويلة، ورغم أن البطلة حنان ليست وحيدة أبويها، بل هي الأنثى الوحيدة بين شقيقين ذكرين إلا أن زواج شقيقيها المبكر وضعها منفردة ووجهاً لوجه قبالة الشخصية الطاغية للأب الذي ظل يمتلك رغم سنه الخمسيني وسامة ظاهرة دفعت الكثير من الفتيات إلى الوقوع في عشقه، وقد تبدى ذلك من خلال تعلق هيفاء زميلة حنان في الجامعة بالأب الوسيم خلال سهرة عامرة لم تعمد حنان إلى تكرارها إثر شعور داهم بالحنق والغيرة.
كان يصعب على أمل جراح إخراج الرواية من مأزقها الصعب لولا ابتكارها للمخرج المناسب الذي لم يتمثل، خلافاً للمتوقع، بموت الأب الكهل بل تمثل بإصابة الابنة بمرض في القلب بحيث ينسدل الستار على الأحداث أثناء نقل حنان إلى المستشفى لإجراء عملية في القلب لا تخلو من الخطورة، لكن براعة أمل تمثلت بشكل أساسي في إبقاء مشاعر الأب إزاء جرأة ابنته السافرة في خانة الالتباس بحيث ظلت دلالات اللقاءات والملامسات والأحادثية شديدة الإبهام وعصية على التصنيف حتى نهاية الرواية.
وإذا كان ثمة من رأى في شخصية حنان نوعاً من “لوليتا” عربية منقحة فإن الفارق الأساسي يتمثل في تعلق بطلة أمل بأبيها الحقيقي لا بزوج أمها كما هو الحال في رائعة نابوكوف، إضافة بالطبع إلى فوارق أخرى على مستوى المقاربة والأسلوب وسياق الأحداث.
الرواية على جرأتها غير المألوفة زمن كتابتها لم تقع في فخ الابتذال والإسفاف واللعب الفج على الغرائز كما في الكثير من الروايات النسائية الراهنة، بل ظلت جرأتها متوائمة مع الموضوع المعالج من دون تعسف أو إسفاف، ولا يملك المرء أخيراً سوى إبداء الأسف والحيرة إزاء عزوف أمل جراح عن الاستمرار في كتابة المزيد من الروايات حيث كان يمكنها لو فعلت ذلك أن تضيف إلى الرواية العربية حيزاً فائق الأهمية ومكانة لا يشغلها إلا القليلون.
ـــــــــــــ
الملحق الثقافي، دار الخليج
إلا أن مفاجأة أمل جراح الكبرى انتظرت سنوات بعد وفاتها عام 2004 لكي تظهر هذه السنة إلى العلن متمثلة بروايتها الجريئة وغير المتوقعة التي صدرت في بيروت بعنوان “الرواية الملعونة”، لكن ما يجب أن يعرفه القراء بهذا الخصوص هو أن الرواية المذكورة لا تنتمي إلى نتاج الكاتبة المتأخر، بل إلى بواكيرها باعتبار أنها حازت على الجائزة الأولى للرواية في المسابقة التي نظمتها مجلة “الحسناء” اللبنانية عام ،1968 أي قبل صدور المجموعة الشعرية الأولى لأمل عام ،1970 ولم تكن الجائزة بحد ذاتها لتعني الكثير لو لم تكن لجنتها التحكيمية مؤلفة من أسماء كبيرة وذات مصداقية عالية من وزن غادة السمان وجبرا ابراهيم جبرا ويوسف الخال اضافة إلى أنسي الحاج الذي كان رئيساً لتحرير المجلة يومذاك، وينبغي التنويه هنا بأن اللجنة المذكورة قد منحت جائزة الشعر إلى سنية صالح زوجة الشاعر السوري محمد الماغوط، التي تعرضت هي الأخرى لظلم فادح قد يكون أحد أسبابه اقامتها في ظل شاعر كبير من وزن الماغوط من دون أن يعني ذلك تسويغاً للظلم وتبريراً له، فمن يقرأ أعمال صالح الشعرية التي صدرت بدورها بعد وفاة صاحبتها بسنوات يتلمس قدراً عالياً من الموهبة والتفرد والحساسية المرهفة ازاء اللغة والعالم.
لا أجافي الحقيقة بشيء إذا قلت بأنني أقبلت في البداية على قراءة “الرواية الملعونة” لأمل جراح بتردد وحذر بالغين خشية أن يكون نشر الرواية متأنياً من مجرد الشعور بالتعاطف ازاء الكتاب الموتى، أو الرغبة المحضة في تكريمهم لا من القيمة الفعلية للانجاز الأدبي.
رغم أن الكاتب الصديق ياسين رفاعية زوج أمل، كان يشير باستمرار إلى أهمية الرواية المذكورة التي كانت تحمل لدى نيلها الجائزة عنوان “خذني بين ذراعيك”.
لا أعرف إذا كان تغيير اسم الرواية الأصلي قد تم لأسباب تسويقية حيث أن عنوان “الرواية الملعونة” يستدرج بحد ذاته فضول القارئ ومع ذلك فإن العنوان الجديد يتناسب مع الموضوع الحساس الذي تقاربه الكاتبة وهو موضوع العلاقة المحرمة بين الأقارب وخاص بين الابنة وأبيها كما يوحي به مناخ الرواية. فأحداث الرواية تتمحور حول ما أطلق عليه فرويد تسمية “عقدة ألكترا” والمتمثلة بتعلق الطفلة منذ صغرها بالأب الذي ترى فيه المثال الأكمل على المستويات الأخلاقية والجسدية والجمالية، مقابل عقدة “أوديب” التي تتمثل بقتل الأب والتعلق بصورة الأم، صحيح أن بطلة أمل جراح لا تقوم بقتل الأم، بل إن هذه الأخيرة تقضي نحبها بسبب مرض داهم، ولكنها تبدو من خلال سياق الرواية وكأنها ما تزال تتعامل مع الأم بوصفها الغريمة الأكثر خطورة التي نافستها على قلب الأب لسنوات طويلة، ورغم أن البطلة حنان ليست وحيدة أبويها، بل هي الأنثى الوحيدة بين شقيقين ذكرين إلا أن زواج شقيقيها المبكر وضعها منفردة ووجهاً لوجه قبالة الشخصية الطاغية للأب الذي ظل يمتلك رغم سنه الخمسيني وسامة ظاهرة دفعت الكثير من الفتيات إلى الوقوع في عشقه، وقد تبدى ذلك من خلال تعلق هيفاء زميلة حنان في الجامعة بالأب الوسيم خلال سهرة عامرة لم تعمد حنان إلى تكرارها إثر شعور داهم بالحنق والغيرة.
كان يصعب على أمل جراح إخراج الرواية من مأزقها الصعب لولا ابتكارها للمخرج المناسب الذي لم يتمثل، خلافاً للمتوقع، بموت الأب الكهل بل تمثل بإصابة الابنة بمرض في القلب بحيث ينسدل الستار على الأحداث أثناء نقل حنان إلى المستشفى لإجراء عملية في القلب لا تخلو من الخطورة، لكن براعة أمل تمثلت بشكل أساسي في إبقاء مشاعر الأب إزاء جرأة ابنته السافرة في خانة الالتباس بحيث ظلت دلالات اللقاءات والملامسات والأحادثية شديدة الإبهام وعصية على التصنيف حتى نهاية الرواية.
وإذا كان ثمة من رأى في شخصية حنان نوعاً من “لوليتا” عربية منقحة فإن الفارق الأساسي يتمثل في تعلق بطلة أمل بأبيها الحقيقي لا بزوج أمها كما هو الحال في رائعة نابوكوف، إضافة بالطبع إلى فوارق أخرى على مستوى المقاربة والأسلوب وسياق الأحداث.
الرواية على جرأتها غير المألوفة زمن كتابتها لم تقع في فخ الابتذال والإسفاف واللعب الفج على الغرائز كما في الكثير من الروايات النسائية الراهنة، بل ظلت جرأتها متوائمة مع الموضوع المعالج من دون تعسف أو إسفاف، ولا يملك المرء أخيراً سوى إبداء الأسف والحيرة إزاء عزوف أمل جراح عن الاستمرار في كتابة المزيد من الروايات حيث كان يمكنها لو فعلت ذلك أن تضيف إلى الرواية العربية حيزاً فائق الأهمية ومكانة لا يشغلها إلا القليلون.
ـــــــــــــ
الملحق الثقافي، دار الخليج