يستلهم كثير من الشعراء والأدباء قصائدهم وتخيلتهم من شياطين مختلفة. والمرأة من هذه الشياطين التي توحي لهم بمختلف الغرر والأفكار، ولكن أثرها فيهم يختلف من فرد لآخر كل حسب نوع تأثره بها.
والأخطل من الشعراء الذين أثرت فيهم المرأة، ولكن أثرها كان فيه سلبيا حتى أنه وقف منها موقفا أقرب إلى العداء منه إلى المحاباة والتلطف. فهناك كثير من الشذرات موزعة في أنحاء ديوانه صرح الأخطل فيها بآرائه في خلق المرأة ونفس المرأة وعقل المرأة وموقف المرأة من الشباب والشيب، ولكنها آراء لا ترضي كثيرا من النساء والمتعلمات منهن خاصة. والحق أنه كان متحاملا عليها شديداً في القسوة معها.
لم يكن يرى الاخطل في المرأة إلا ألعوبة يلهو بها كيف شاء ومتى أراد، فعندما تلعب برأسه بنت الحان وعندما تداعب شياطينها وعندما يأخذ السكر منه مأخذه، هناك يتذكرها فيقصدها ليقضي منها وطراً من لذاذة ولعب حيث يقول:
ولقد شربت الخمر في حانوتها ... ولعبت بالقينات كل الملعب
فهو لا يرى في المرأة إلا دمية لحمية يقضي معها لياليه، وإلا وسيلة من وسائل لهوه عندما يكون ناعم البال مرتاح الفكر.
طهوت ليلة ناعم ذي لذة ... كقرير عين أو كناعم بال
ويبدو أن المرة قد أذاقت الأخطل مر الفعال وسقته كاس الأهوال فهو حتى في نومه وأحلامه لا يرى منها غير الويل والثبور إذ يقول:
طرق الكرى بالغانيات وربما ... طرق الكرى منهن بالأهوال
ولا يكتفي بهذا وحسب، بل يصفها بالتلون والتبدل ويشبهها بجنية مروعة تذيق الرجال طعم الأهوال
فتغدّلت لتروعنا جنية ... والغانيات يرينك الأهوال
فهو من أعداء المرأة القدامى حاربها بكل قوة، وكشف عن جانب الشر في نفسها ولم يكن يؤمل منها غير الشر وغير الجنة، وغير اللوعة والهول قريبة وبعيدة، حاظرة وغائبة، حي أو ميته:
فلو كان مبكي ساعة لبكيتها ... ولكن شر الغانيات بديل
وكنت صحيح القلب حتى أصابني ... من اللامعات المبرقات خبول
وأني لأعجب كثيرا من نساء العصر الأموي أن سكتن عن الأخطل وهو يعلن عليهن حرباً عواناً ويهيب بالرجال أن يبتعدوا عنهن وان يكفوا عن وصالهن إذ هن لا يبيتن لهم غير الحيلة والغواية وما هن إلا بلاء أبتلى به الرجال وغول يقض عليهم حياتهم.
وهن على أحبالهن يصدنني ... وهن باليا للرجال وغول
وإن امرءاً لا ينتهي عن غواية ... إذ ما اشتهتها نفسه لجهول)
هذه الحكمة يقدمها الأخطل لأبناء جنسه لا ترضى المرأة في أي عصر من العصور ولا في أي حال من الأحوال، إذ لا شك في أنها لعنة في الصميم من حياتها، فلو كف الرجال عنها وانتهوا لبارت وثقلت على أهليها ولأصبحت حياتها مملة خالية من الأمل لا يمكن أن تطاق. ويكشف لنا الأخطل عن ناحية خفية من نفسية المرأة فكأنه اطلع على خفايا هذه النفس ونفذ إلى قرارها، فعلى الرغم من بعد غور المرأة وكتمانها الشديد لدفائن قلبها لكنه استطاع أن ينفذ ببصيرته القوية إلى أعماقها وأن يستشف من وراء ظل حركة تأتيها معنى بعيداً لا يصل إليه إلا من عرف المرأة معرفة جيدة وإلا من ذاق منها مرارة العذاب والصد، فقوله:
المهديات لمن هوين مسبة ... والمحسنات لمن قلين مقالا
يدل على أنه عرف أساليبها الملتوية، تلك الأساليب التي تستعملها مع من تحب ومع من تكره، ويدل أيضاً على أنه قد درس هذه النفسية التي لا تريد إلا أن تريد أن تبطن غير ما تظهر وتظهر غير ما تبطن.
والأخطل لا يتحرج من وصف المرأة بالمكر والخديعة إذ يظهر أنها قد لعبت به كل ملعب وأذاقته من أحابيلها وحيلها ما جعله يفرغ ثورته المكبوتة ضدها بقوله:
ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى ... فينا ولا كحبالهن حبالا
كما إنه لا يتحرج من وصفها بالجهل، ولكن أي جهل هذا الذي يصفها به، انه جهل أشد من العلم والذكاء فعلا وأقوى من المكر والثقافة تأثيراً، إنه جهل يرمي أقوى الرجال تحت أقدامها صريعا مجندلا بسهامها النارية مفكراً بإيماءاتها الخفية:
يمددن من هفواتهن إلى الصبي ... سبباً يصدن به الغواة طوالا
ويذهب الأخطل إلى أبعد من ذلك في إظهار معايب المرأة الخلقية فيصفها بالمماطلة في العهود، وبعدم الوفاء بالوعود، فهي مشهورة بالخلف، معروفة بالمطل فيقول:
وإذا وعدتك نائلا اخلفنه ... ووجدت عند عداتهن مطالا
وأروع من هذا المعنى في وصفه لهذا النوع من خلف بعض النساء قوله:
إذا مطل الدين الغريب فأنها ... على كل أحيان تحل ديوانها
والأخطل لا يني عن التهجم على المرأة ونعتها بسرعة التبدل وكثرة التحول فهو يقول:
يرعين عهدك ما رأينك شاهداً ... وإذا مذلت يصرن عنك مِذالا
فما دمت بقربها تقدم لها فروض الحب والطاعة، وما دمت حاضراً بين يديها تطري جمالها وتصفها بكل ما في قاموس الجمال من أوصاف، فهي تحبك وهي باقية على عهدك وإلا فنصيبك النسيان إن قصرت في ذلك أو نأيت قليلا عنها.
ويلتفت الأخطل التفاته أخرى تدلنا على ما في نفسه من نقمة على المرأة وحقد عليها فهو يصف غرابة تصرفها مع الرجل وشذوذ سلوكها معه، فهي تتخاذل أمام من يظهر لها الضغينة، وتتفانى في حب من يمتنع عليها ويظهر لها الجفوة، ولعل هذا يعزي لضعفها الطبيعي من جهة ولروحها الخيالية من جهة أخرى، فالرجل الذي لا يظهر لها ضعفاً ولا يبدو أمامها متخاذلا لا شك يشعرها بقوته وسلطته، كما أنه إذا ما ابتعد عنها ولم يتقرب كثيراً منها ستبقى تنسج حول شخصيته أخيلتها وتتصور فيه فتى أحلامها فيزداد حبها له ويكثر تعلقها به. والأخطل يصور لنا ذلك بقوله:
اذا احتثها الركبان كان ألذها ... إلى ذي الصبي ذو ضغنها وحزونها
أما رأي الأخطل في عقل المرأة فرأي يكاد يغضب كل النساء، والمتعلمات منهن كما قلت خاصة، فهو لا يرى فيها غير ضعف العقل وخطل الرأي وقلة التفكير، فالمرأة في نظره لا تصلح للحياة العقلية ولا تصلح لإبداء الرأي السديد ولكنها حاذقة في تسديد السهام إلى القلوب، ماهرة في اللعب في العقول عن طريق العيون:
يبرقن بالقوم حتى يختبلنهم ... ورأيهن ضعيف حين يختبر وأكثر من هذا سخرية بعقل المرأة وحطاً من قيمته ذلك الكيل العجيب الجائر الذي يزن به الأخطل عقل المرأة فهو يقول:
وإذا وزنت حلومهن إلى الصبي ... رجح الصبي بحلومهن فمالا
يوضح لنا الأخطل ناحية أخرى من نواحي نفسية المرأة، تلك هي موقفها من الشيب والشباب فيصور لنا فرار الغواني من هؤلاء المساكين الذين بلغوا من العمر عتيا والذين استنزف كر السنين منهم ماء الحياة وسطر مر الأعوام في وجوههم تجاعيد الكوارث والأحداث فهو يقول:
يا قاتل الله الغانيات وصل الغانيات إذا ... أيقن انك ممن قدزها الكبر
أعرضن لما حنا قوسي موترها ... وابيض بعد سواد اللمة الشعر
لا يرعوين إلى داع لحاجته ... ولا لهن إلى ذي شيبة وطر
يظهر أن الأخطل كان تبع نساء ولكنه ليس موفقا كعمر ابن أبي ربيعة، فهو لم يقعد عن متابعتهن وعن مضايقتهن حتى في أيام شيخوخته حتى اضطررن آخر الأمر إلى طرده بقسوة واستهزاء فهو يخبرنا عن ذلك بقوله:
يقلن لا أنت بعل يستقاد له ... ولا الشباب الذي قد فات مردود
وقول الأخطل:
هل الشباب الذي قد فات مردود ... أم هل دواء يرد الشيب موجود
يحمل المرء على الرثاء لحال هذا الشيخ الذي يبكي صباه ويحن لأيام شبابه ويفتش عن ذلك الدواء الذي أعيا العلماء والأطباء إيجاده، ويجد المرء نفسه اكثر من هذا عطفا على الأخطل حينما يسمع قوله:
اعرضن فن شمط في الرأس لاح به=فهن منه إذا أبصرنه حيد
قد كن يعهدن مني مضحكا حسنا ... ومفرقا حسرت عنه العناقيد
فهن يشدون مني بعض معرفة ... وهن بالود لا بخل ولا جود
فقوله: (وهن بالود لا بخل ولا جود) مما يبعث في النفس الرثاء لحال ذلك المسكين الذي تقف الغواني منه هذا الموقف الحيادي، فهو من قلة الأهمية ومن التفاهة بحيث لا يثير في نفوسهن حباً ولا بغضاً كما لا يثير في قلوبهن العواطف المضطربة والأحاسيس المتباينة ورجل كهذا حري بالرثاء والعطف.
ويصف لنا الأخطل منظرا لا يخلو من ظرف ودعابة مع ما فيه من مرارة، منظر تلكم النسوة اللواتي اجتمعن يهمهمن ويهسهسن وقد علت وجوههن الكدرة وأصبن بالهم والحزن لدخول الأخطل عليهن وهو في حالة شيخوخة وتضمر وهزال فيقول:
ورأين أني قد علتني كبرة ... فالوجه فيه تضمر وسهوم
وطوين ثوب بشاشة أبلينه ... فلهن منك هساهس وهموم
وأخيرا بعد أن يئس الأخطل من وصل المرأة، وبعد أن عجز في هذا الميدان لا يريد إلا أن يبث الدعاية السيئة، ويأبى إلا أن يحرض الرجال في الابتعاد والكف عنها فيقول:
فدع الغواني والنشيد بذكرها ... واصرف لذكر مكارم ومقال
ولكني متأكد أنه لم يقل ذلك إلا بعد أن عجز عن جلب ودها إليه وإلا بعد أن خابت سياسته معها.
حاولت أن أجد الأسباب المبررة لهذا الموقف العدائي الذي يقفه الأخطل من المرأة فلم أجد سوى خبرين قد يمكن أن نستشف من ورائهما شيئاً عن ذلك العداء، أحدهما خبره أو قصته المشهورة مع زوجة أبيه تلك التي يقول فيها:
ألم على عتبات العجوز ... وشكوتها من غياث لمم
فظلت تنادي ألا ويلها ... وتلعن واللعن منها أمم
وقد كانت زوجة أبيه تناصبه العداء وتسئ معاملته وتؤثر أبناءها بالعطف والحب كما تؤثرهم بأطايب الطعام والشراب وتحرمه هو من كل ذلك؛ فلا شك أن هذه القسوة في المعاملة من زوجة أبيه قد أثرت في نفسه تأثيراً بالغاً وتركت في قلبه جروحاً لم تندمل فنقم على المرأة متمثلة في زوجة أبيه فأراد أن ينتقم منها فصور لنا ما رأيناه فيها من مساوئ ومعايب.
والخبر الثاني الذي يفسر لنا ثورة الأخطل على المرأة هو ما رواه صاحب الأغاني في الجزء السابع من كتابه قال: (طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل، وكان الأخطل قد طلق امرأته قبل ذلك، فبينما هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست فقال الأخطل:
كلانا على هم يبيت كأنما ... بجنبيه من مس الفراش قروح على زوجها الماضي تنوح وإنني ... على زوجتي الأخرى كذلك أنوح
من هذا الخبر يمكننا أن نستنتج أن الأخطل لم يكن موفقاً في حياته الزوجية، فهو لم يسعد مع زوجته الأولى ولم ينجح في حياته معها فاضطر إلى تطليقها، كما إنه لم يستطع أن يرضي الثانية أو يجلب ودها وحبها فينسيها زوجها الأول فهي تعيش معه بجسمها ولكنها تعيش مع مطلقها بروحها وقلبها، ولا شك أن هذا يدلنا على أن الأخطل كان فاشلا مع المرأة، لم يحذق ذلك الفن الصعب (فن سياسة المرأة) وربما يكون هذا الفشل الواضح في حياته الزوجية مما جعله ينقم على المرأة نقمته المرة التي رأيناها في شذراته السابقة والتي لا نوافقه في أكثر آرائه فيها.
(العراق)
مهدي السامرائي
مجلة الرسالة - العدد 724
بتاريخ: 19 - 05 - 1947
والأخطل من الشعراء الذين أثرت فيهم المرأة، ولكن أثرها كان فيه سلبيا حتى أنه وقف منها موقفا أقرب إلى العداء منه إلى المحاباة والتلطف. فهناك كثير من الشذرات موزعة في أنحاء ديوانه صرح الأخطل فيها بآرائه في خلق المرأة ونفس المرأة وعقل المرأة وموقف المرأة من الشباب والشيب، ولكنها آراء لا ترضي كثيرا من النساء والمتعلمات منهن خاصة. والحق أنه كان متحاملا عليها شديداً في القسوة معها.
لم يكن يرى الاخطل في المرأة إلا ألعوبة يلهو بها كيف شاء ومتى أراد، فعندما تلعب برأسه بنت الحان وعندما تداعب شياطينها وعندما يأخذ السكر منه مأخذه، هناك يتذكرها فيقصدها ليقضي منها وطراً من لذاذة ولعب حيث يقول:
ولقد شربت الخمر في حانوتها ... ولعبت بالقينات كل الملعب
فهو لا يرى في المرأة إلا دمية لحمية يقضي معها لياليه، وإلا وسيلة من وسائل لهوه عندما يكون ناعم البال مرتاح الفكر.
طهوت ليلة ناعم ذي لذة ... كقرير عين أو كناعم بال
ويبدو أن المرة قد أذاقت الأخطل مر الفعال وسقته كاس الأهوال فهو حتى في نومه وأحلامه لا يرى منها غير الويل والثبور إذ يقول:
طرق الكرى بالغانيات وربما ... طرق الكرى منهن بالأهوال
ولا يكتفي بهذا وحسب، بل يصفها بالتلون والتبدل ويشبهها بجنية مروعة تذيق الرجال طعم الأهوال
فتغدّلت لتروعنا جنية ... والغانيات يرينك الأهوال
فهو من أعداء المرأة القدامى حاربها بكل قوة، وكشف عن جانب الشر في نفسها ولم يكن يؤمل منها غير الشر وغير الجنة، وغير اللوعة والهول قريبة وبعيدة، حاظرة وغائبة، حي أو ميته:
فلو كان مبكي ساعة لبكيتها ... ولكن شر الغانيات بديل
وكنت صحيح القلب حتى أصابني ... من اللامعات المبرقات خبول
وأني لأعجب كثيرا من نساء العصر الأموي أن سكتن عن الأخطل وهو يعلن عليهن حرباً عواناً ويهيب بالرجال أن يبتعدوا عنهن وان يكفوا عن وصالهن إذ هن لا يبيتن لهم غير الحيلة والغواية وما هن إلا بلاء أبتلى به الرجال وغول يقض عليهم حياتهم.
وهن على أحبالهن يصدنني ... وهن باليا للرجال وغول
وإن امرءاً لا ينتهي عن غواية ... إذ ما اشتهتها نفسه لجهول)
هذه الحكمة يقدمها الأخطل لأبناء جنسه لا ترضى المرأة في أي عصر من العصور ولا في أي حال من الأحوال، إذ لا شك في أنها لعنة في الصميم من حياتها، فلو كف الرجال عنها وانتهوا لبارت وثقلت على أهليها ولأصبحت حياتها مملة خالية من الأمل لا يمكن أن تطاق. ويكشف لنا الأخطل عن ناحية خفية من نفسية المرأة فكأنه اطلع على خفايا هذه النفس ونفذ إلى قرارها، فعلى الرغم من بعد غور المرأة وكتمانها الشديد لدفائن قلبها لكنه استطاع أن ينفذ ببصيرته القوية إلى أعماقها وأن يستشف من وراء ظل حركة تأتيها معنى بعيداً لا يصل إليه إلا من عرف المرأة معرفة جيدة وإلا من ذاق منها مرارة العذاب والصد، فقوله:
المهديات لمن هوين مسبة ... والمحسنات لمن قلين مقالا
يدل على أنه عرف أساليبها الملتوية، تلك الأساليب التي تستعملها مع من تحب ومع من تكره، ويدل أيضاً على أنه قد درس هذه النفسية التي لا تريد إلا أن تريد أن تبطن غير ما تظهر وتظهر غير ما تبطن.
والأخطل لا يتحرج من وصف المرأة بالمكر والخديعة إذ يظهر أنها قد لعبت به كل ملعب وأذاقته من أحابيلها وحيلها ما جعله يفرغ ثورته المكبوتة ضدها بقوله:
ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى ... فينا ولا كحبالهن حبالا
كما إنه لا يتحرج من وصفها بالجهل، ولكن أي جهل هذا الذي يصفها به، انه جهل أشد من العلم والذكاء فعلا وأقوى من المكر والثقافة تأثيراً، إنه جهل يرمي أقوى الرجال تحت أقدامها صريعا مجندلا بسهامها النارية مفكراً بإيماءاتها الخفية:
يمددن من هفواتهن إلى الصبي ... سبباً يصدن به الغواة طوالا
ويذهب الأخطل إلى أبعد من ذلك في إظهار معايب المرأة الخلقية فيصفها بالمماطلة في العهود، وبعدم الوفاء بالوعود، فهي مشهورة بالخلف، معروفة بالمطل فيقول:
وإذا وعدتك نائلا اخلفنه ... ووجدت عند عداتهن مطالا
وأروع من هذا المعنى في وصفه لهذا النوع من خلف بعض النساء قوله:
إذا مطل الدين الغريب فأنها ... على كل أحيان تحل ديوانها
والأخطل لا يني عن التهجم على المرأة ونعتها بسرعة التبدل وكثرة التحول فهو يقول:
يرعين عهدك ما رأينك شاهداً ... وإذا مذلت يصرن عنك مِذالا
فما دمت بقربها تقدم لها فروض الحب والطاعة، وما دمت حاضراً بين يديها تطري جمالها وتصفها بكل ما في قاموس الجمال من أوصاف، فهي تحبك وهي باقية على عهدك وإلا فنصيبك النسيان إن قصرت في ذلك أو نأيت قليلا عنها.
ويلتفت الأخطل التفاته أخرى تدلنا على ما في نفسه من نقمة على المرأة وحقد عليها فهو يصف غرابة تصرفها مع الرجل وشذوذ سلوكها معه، فهي تتخاذل أمام من يظهر لها الضغينة، وتتفانى في حب من يمتنع عليها ويظهر لها الجفوة، ولعل هذا يعزي لضعفها الطبيعي من جهة ولروحها الخيالية من جهة أخرى، فالرجل الذي لا يظهر لها ضعفاً ولا يبدو أمامها متخاذلا لا شك يشعرها بقوته وسلطته، كما أنه إذا ما ابتعد عنها ولم يتقرب كثيراً منها ستبقى تنسج حول شخصيته أخيلتها وتتصور فيه فتى أحلامها فيزداد حبها له ويكثر تعلقها به. والأخطل يصور لنا ذلك بقوله:
اذا احتثها الركبان كان ألذها ... إلى ذي الصبي ذو ضغنها وحزونها
أما رأي الأخطل في عقل المرأة فرأي يكاد يغضب كل النساء، والمتعلمات منهن كما قلت خاصة، فهو لا يرى فيها غير ضعف العقل وخطل الرأي وقلة التفكير، فالمرأة في نظره لا تصلح للحياة العقلية ولا تصلح لإبداء الرأي السديد ولكنها حاذقة في تسديد السهام إلى القلوب، ماهرة في اللعب في العقول عن طريق العيون:
يبرقن بالقوم حتى يختبلنهم ... ورأيهن ضعيف حين يختبر وأكثر من هذا سخرية بعقل المرأة وحطاً من قيمته ذلك الكيل العجيب الجائر الذي يزن به الأخطل عقل المرأة فهو يقول:
وإذا وزنت حلومهن إلى الصبي ... رجح الصبي بحلومهن فمالا
يوضح لنا الأخطل ناحية أخرى من نواحي نفسية المرأة، تلك هي موقفها من الشيب والشباب فيصور لنا فرار الغواني من هؤلاء المساكين الذين بلغوا من العمر عتيا والذين استنزف كر السنين منهم ماء الحياة وسطر مر الأعوام في وجوههم تجاعيد الكوارث والأحداث فهو يقول:
يا قاتل الله الغانيات وصل الغانيات إذا ... أيقن انك ممن قدزها الكبر
أعرضن لما حنا قوسي موترها ... وابيض بعد سواد اللمة الشعر
لا يرعوين إلى داع لحاجته ... ولا لهن إلى ذي شيبة وطر
يظهر أن الأخطل كان تبع نساء ولكنه ليس موفقا كعمر ابن أبي ربيعة، فهو لم يقعد عن متابعتهن وعن مضايقتهن حتى في أيام شيخوخته حتى اضطررن آخر الأمر إلى طرده بقسوة واستهزاء فهو يخبرنا عن ذلك بقوله:
يقلن لا أنت بعل يستقاد له ... ولا الشباب الذي قد فات مردود
وقول الأخطل:
هل الشباب الذي قد فات مردود ... أم هل دواء يرد الشيب موجود
يحمل المرء على الرثاء لحال هذا الشيخ الذي يبكي صباه ويحن لأيام شبابه ويفتش عن ذلك الدواء الذي أعيا العلماء والأطباء إيجاده، ويجد المرء نفسه اكثر من هذا عطفا على الأخطل حينما يسمع قوله:
اعرضن فن شمط في الرأس لاح به=فهن منه إذا أبصرنه حيد
قد كن يعهدن مني مضحكا حسنا ... ومفرقا حسرت عنه العناقيد
فهن يشدون مني بعض معرفة ... وهن بالود لا بخل ولا جود
فقوله: (وهن بالود لا بخل ولا جود) مما يبعث في النفس الرثاء لحال ذلك المسكين الذي تقف الغواني منه هذا الموقف الحيادي، فهو من قلة الأهمية ومن التفاهة بحيث لا يثير في نفوسهن حباً ولا بغضاً كما لا يثير في قلوبهن العواطف المضطربة والأحاسيس المتباينة ورجل كهذا حري بالرثاء والعطف.
ويصف لنا الأخطل منظرا لا يخلو من ظرف ودعابة مع ما فيه من مرارة، منظر تلكم النسوة اللواتي اجتمعن يهمهمن ويهسهسن وقد علت وجوههن الكدرة وأصبن بالهم والحزن لدخول الأخطل عليهن وهو في حالة شيخوخة وتضمر وهزال فيقول:
ورأين أني قد علتني كبرة ... فالوجه فيه تضمر وسهوم
وطوين ثوب بشاشة أبلينه ... فلهن منك هساهس وهموم
وأخيرا بعد أن يئس الأخطل من وصل المرأة، وبعد أن عجز في هذا الميدان لا يريد إلا أن يبث الدعاية السيئة، ويأبى إلا أن يحرض الرجال في الابتعاد والكف عنها فيقول:
فدع الغواني والنشيد بذكرها ... واصرف لذكر مكارم ومقال
ولكني متأكد أنه لم يقل ذلك إلا بعد أن عجز عن جلب ودها إليه وإلا بعد أن خابت سياسته معها.
حاولت أن أجد الأسباب المبررة لهذا الموقف العدائي الذي يقفه الأخطل من المرأة فلم أجد سوى خبرين قد يمكن أن نستشف من ورائهما شيئاً عن ذلك العداء، أحدهما خبره أو قصته المشهورة مع زوجة أبيه تلك التي يقول فيها:
ألم على عتبات العجوز ... وشكوتها من غياث لمم
فظلت تنادي ألا ويلها ... وتلعن واللعن منها أمم
وقد كانت زوجة أبيه تناصبه العداء وتسئ معاملته وتؤثر أبناءها بالعطف والحب كما تؤثرهم بأطايب الطعام والشراب وتحرمه هو من كل ذلك؛ فلا شك أن هذه القسوة في المعاملة من زوجة أبيه قد أثرت في نفسه تأثيراً بالغاً وتركت في قلبه جروحاً لم تندمل فنقم على المرأة متمثلة في زوجة أبيه فأراد أن ينتقم منها فصور لنا ما رأيناه فيها من مساوئ ومعايب.
والخبر الثاني الذي يفسر لنا ثورة الأخطل على المرأة هو ما رواه صاحب الأغاني في الجزء السابع من كتابه قال: (طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل، وكان الأخطل قد طلق امرأته قبل ذلك، فبينما هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست فقال الأخطل:
كلانا على هم يبيت كأنما ... بجنبيه من مس الفراش قروح على زوجها الماضي تنوح وإنني ... على زوجتي الأخرى كذلك أنوح
من هذا الخبر يمكننا أن نستنتج أن الأخطل لم يكن موفقاً في حياته الزوجية، فهو لم يسعد مع زوجته الأولى ولم ينجح في حياته معها فاضطر إلى تطليقها، كما إنه لم يستطع أن يرضي الثانية أو يجلب ودها وحبها فينسيها زوجها الأول فهي تعيش معه بجسمها ولكنها تعيش مع مطلقها بروحها وقلبها، ولا شك أن هذا يدلنا على أن الأخطل كان فاشلا مع المرأة، لم يحذق ذلك الفن الصعب (فن سياسة المرأة) وربما يكون هذا الفشل الواضح في حياته الزوجية مما جعله ينقم على المرأة نقمته المرة التي رأيناها في شذراته السابقة والتي لا نوافقه في أكثر آرائه فيها.
(العراق)
مهدي السامرائي
مجلة الرسالة - العدد 724
بتاريخ: 19 - 05 - 1947