غير بعيد شجرة فى حالة خريف دائم، أوراقها مصفرة الاخضرار، مخضرة الترابية، معلقة بغصنها برباط ما … شجرة كلما هب الريح انتزع منها أكثر من بضع أوراق حتى لتخالها فى نهاية اليوم ستقف جرداء عارية، ولكنها أبداً هكذا لا تنقص أوراقها ولا تزيد. دائمة الخضرة مستمرة الاخضرار المصفر المترب، لا ثمر لا ولا زهر .. ولا اسم .. شجرة .. ومساحة
المشهد صامت ساكن إلا بين كل حين وحين حين تهب الريح هبات متقطعة غير ملموسة لا تعرف كيف تبدأ. إنما شيئاً فشيئاً تسمع الأوراق وهى توشوش فى خفوت ثم وهى تئز ويستطيل الأزيز. وتتطاير بضع أوراق ومن فوق الأرض يثور بعض الغبار حاملاً معه عيداناً مهرأة من قش أرز قديم، ثم يسكن الصوت والحركة إلا من اختلاجة أخيرة لورقة، ثم يئوب كل شىء إلى صمت .. صمت غير داكن ولكنه فى نفس الوقت غير مضىء. صمت هو بالتأكيد كالضوء فى المشهد إذ الشمس غير موجودة والنور غير مباشر وقليل، ولكنه مستمر على نفس الدرجة لا يشتد أو يخف ولا حتى تعتريه هزات الحركة، إنما هو كالشريط الحديدى الطويل سادر فى وجوده وشموله واستمراره، ضوء كضوء عصر ضيق مترب، يومه التالى .. يوم القيامة
وأنا موجود داخل المشهد لا أعرف مكانى على وجه الدقة. ولكنى أرى المشهد بزاوية ما، ومهما غيرت من وقفتى أو اتجاهى فأظل أرى المشهد من نفس الزاوية
إنى فى انتظار القطار القادم مع أن المكان ليس بمحطة، وإحساس طاغ كبير أنى لا أنتظر القطار لأركبه، إنما فقط أنتظره بالضبط. أنتظر اللحظة التى فجأة – تماماً لا بد أن تكون فجأة – تظهر رأس القطار من كرة الأفق، سوداء فلتكن ولكن لابد أن تظهر .. تنبثق فجأة فيدق قلبى هلعاً أو رعباً أو فرحاً، وأوجد وأعيش
أشعر أنى لأول مرة آخذ نفسى .. الشهيق .. وأنى حى … وأنى بدأت أعى بالوجود. غير مهم بعد هذا أن تستحيل النقطة المفاجئة إلى شرطة، والشرطة إلى خط .. والخط إلى جسد القطار الطويل تتوجه سحابة الدخان المتعمدة المتصلة، غير مهم أن يقترب أكثر وأكثر وأن يصبح أمامى .. غير مهم أى شىء. المهم هو ذلك الظهور المفاجىء المروع للنقطة
أنا لا أنتظر، فالإنسان لا ينتظر إلا شيئاً يتوقعه أو واثق من حدوثه أو حتى علم أو أخبره أحد أنه لا محالة واقع. أنا رأيت قبلاً قطاراً يمر ولا البقعة محطة ولا أنا مسافر، ولا شىء على الإطلاق .. على الإطلاق لا علاقة بينى وبين القطار إلا علاقة أنى أرى قضباناً، ومادام هناك قضبان فلابد أن يكون هناك قطار، حتى لو كانت القضبان تلك التى أراها صدئة صدأ سميكاً استحال من طبقة إلى قشرة. ولكن رغم كل الصدأ فمن المؤكد أن قطاراً بل لابد قطارات مرت فوقها. لابد قطارات مرت من هنا. وإلا فيم القضبان؟ …… فلتكن أى شىء فالمشهد مستمر وأنا موجود بداخله
أرى مهمات سرت أو غيرت موضعى بزاوية، والنور غير مباشر وداكن، والشريط طويل محنى بجلال، طويل … والشجرة قائمة خريفية كأنها نبتت من بذرة خريف، وبين كل حين وحين وبلا بداية أو نهاية محسوسة تهب قبضة الهواء فتحرك الورق فى الشجر، وقش الأرز المترب فى الأرض، ثم الاختلاجة الأخيرة لورقة شجرة أو عود قش، ثم الصمت المستمر الساكن
المشهد .. مستمر، والأشياء فيه تتعاقب باستمرار، وحتى كم الحزن الموضوع بطريقة ما فى صدرى لا يتغير هو الآخر حجمه، ولا تشتد أو تخفت وطأته. حزن لابد جاء من المشهد إذ تحس لابد أنه مشهد نهاية ما، نهاية العالم، نهاية الحياة على الأرض، نهاية الفرح أو الأمل، ربما حتى نهاية الأحزان. ولكنه بالتأكيد نهاية، نهاية حقيقية كنهايات العلم حيث لا نهاية، إنما النهاية خيط متصل من الشيء ذاته، من السكون ذاته، من الشريط ذاته، من الضوء ذاته، من الخريف المشجر ذاته، من هبات الهواء ذاتها .. من الترقب ذاته
المشهد … دائم ومستمر، وإحساسى به دائم ومستمر، وحزن النهاية – ولو كانت نهاية الحزن – دائم ومستمر. لا أذكر كيف بدأ ولا أين أو متى؟ وجدت فيه لكأنى وعيت أو حتى ولدت داخله، وسأظل فيه إلى أن تنتهى حياته. كل شىء فيه هو هو لا يتغير أبداً، لا يزيد، لا ينقص، لا ينتهى، لا يبدأ. بل حتى تلك النبضة المتباعدة التى بين النبضة فيها والنبضة التالية مسافة أو زمن كأنه ألف عام، حتى لو كانت تتم فى ثانية فهى ثانية طولها ألف عام، نبضة ضعيفة واهنة كالاختلاجة الأولى لجنين القلب داخل قلب الجنين حين دق لأول مرة، خافتة واهنة تدق على استحياء شديد وبغرابة زائدة. دق مذعور يكاد الذعر يسكت نبضه ودق قلبه. نبضة خاطر، إذ فجأة تنبثق النقطة بادئة هناك من لا نهاية الشريط، فجأة أحدق وأجدها، وغير مهم أبداً ما يحدث بعد هذا أو يكون
المشهد والإحساس والحزن وحتى النبضة مستمرة الحدوث، وأنا فيما عدا هذا غير حزين أو خجلان أو نائم أو مستيقظ، أنا أنا، هكذا أيضاً .. باستمرار طويل لا ملل فيه ولا تبرم ولا تغير مطلقاً فى الزمان أو المكان أو درجة الوعى. كل ما فى الأمر أنى لدى كل نبضة خاطر، قبلها بقليل وكأنما قبل الحدث الكونى الهائل .. وأثناءها .. وبعدها أحس بقلبى أنا .. قلبى الحقيقى يدق فى انفعال حى، انفعال خافت مبهور وكأنه حقيقى وملموس. بالضبط قبل وأثناء وبعد الخاطر يكاد جسدى كله يرتعش، وتكاد صرخة تنطلق منى هاتفة : أنا حى. وكأنها اكتشاف، ومع أنها هى الأخرى مستمرة ودائمة ولا تتغير إلا إن فرحتى بها لم تفقد أبداً، حتى لو كان المشهد قد بدأ مع بداية الخليقة واستمر إلى نهايتها لم تفقد أبداً طعمها، بل هى لحظتها فقط، تلك اللحظة المتباعدة التى كان بينها وبين التالية أو اللاحقة لها ألف عام لحظتها فقط .. هى كل ما يربطنى بالحياة
أجل .. أحدق فجأة فألمح، هكذا بمعجزة .. النقطة
وغير مهم بعد هذا أن تصبح النقطة شرطة، والشرطة خطاً طويلاً لا نهاية لطوله
أبداً غير مهم