(1)
يجد قارئ الأدب العربي الحديث، في غير قطر، صعوبة في التعرّف إلى أعلام هذا الأدب ونماذجه في الأقطار العربية الأخرى. ويعود ذلك، في أحد أسبابه، إلى مشكلات تعيق انتشار الكتاب. وقد تشير إلى حجم هذه المشكلات وتأثيرها معلومة تفيد أنَّ أي دار نشر عربية لا تطبع من الكتاب، سواء كان دراسة أم إنتاجاً إبداعياً، أكثر من ثلاثة آلاف نسخة لا تنفد خلال سنوات.
ليس من أهداف هذه الدراسة أن تبحث في هذه القضية، وإنما تجد فيها دافعاً إلى إجراء دراسة نصية في ثلاثة نماذج مختارة متخذة النقد أساساً للتعريف بالأدب، في محاولة أولى قد تليها محاولات تسمح بمعرفة أكثر شمولاً وتقصياً.
وهذه النماذج هي:
1-"دراسة في القصة القصيرة عند محمد الشقحاء"(1). للدكتور طلعت صبح السيد.
2-الغريب(2)، مجموعة قصص قصيرة لمحمد الشقحاء.
3-الانحدار(3)، مجموعة قصص قصيرة للقاص نفسه.
والمجموعتان القصصيتان هما آخر مجموعتين قصصيتين صدرتا للقاص محمد الشقحاء.
يشير د.طلعت، قبل أن يشرع في دراسة قصص الشقحاء، إلى واقع القصة القصيرة في المملكة، فيرى الدارسين يكادون يجمعون "على أن القصة الفنية القصيرة، بمفهومها الحالي والمتطور، بأسسها، وتقنياتها الحديثة، وسماتها وخصائصها المميَّزة، وما إلى ذلك بما تختلف فيه تمام الاختلاف عن مفهوم الرواية والمسرحية، لم يكن لها، في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري [قبل الحرب العالمية الثانية] شأن يذكر على الإطلاق"، ويحيل، بغية تأكيد هذا الرأي إلى كتاب د.بكري الشيخ أمين "الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية". ولا يلبث المؤلف أن يضيف: "إن هذا الإجماع يكاد يشمل كل البلدان العربية أيضاً"(4).
ويمكن للمتأمل، في هذين الحكمين، أن يورد ملاحظتين، تتمثل أولاهما في أن الإنتاج القصصي، وبخاصة فن القص القصير منه، متعدد الأشكال، الأمر الذي لا يتيح تحديد مفهوم شامل محدد ذي أسس وتقنيات نهائية. وإن كان من حديث عن فنية هذا القص فليكن عن نماذج محددة تشكل ظاهرة تنتج، إن اطَّردت طوال مرحلة ما، نوعاً قصصياً. وفي سياق هذا الفهم يمكن القول:
إن الحياة الأدبية عرفت، في الفترة المعنية، إنتاج نماذج قصصية قصيرة تنوعت بين فكاهات وأمثال وأساطير وخرافات ونوادر وملح وأحاديث سمر... وكانت هذه الكتابات تنشر في الصحف، وتحظى بإقبال واهتمام كبيرين ويعود ذلك إلى سببين: الأول رصدها وتتبعها، واختيارها من ثم، في كتب التراث وأحاديث الناس ووقائع الحياة. والثاني تقديمها بلغة فنية تنتهي، كما كان يقول كتاب هذه القصص، إلى إيضاح "معاني الحياة على أسلوب يُسلي ويحلّي ويُغذي، فيطرب لها خاصة الناس وعامتهم".
يعدّ هذا الإنتاج القصصي تنويعاً في إطار جنس القص. وهو، وإن كان يختلف عن نماذج القصة القصيرة التي عُرفت في أوروبا حديثاً، وقد تمَّ اتباعها والتنويع عليها في الأقطار العربية، فإنه يتصف بخصائص تميزه وتجعله جديراً بالدراسة والتمييز والتصنيف وبيان الخصائص وتحديد النوع في إطار الفن العام.
يقرر د.طلعت أن النقاد والدارسين أهملوا هذا النوع من القصص "بسبب ما ثبت لديهم من أن ليس لها مدلول إلا أنها طرفة أو حكاية سمر، وما إلى ذلك"(5).
إن هذا الإهمال ينبغي ألا يستمر، وذلك لأن أدباً "يوضح معاني الحياة" و"يطرب له خاصة الناس وعامتهم" لأدب جدير بالدراسة بغية بيان خصائصه التي تحقق وظيفة يرمي إليها كل أدب جيد، فلعل هذه الخصائص تشكل بعض مكونات التجربة الأدبية لدى قصاصينا الذين يبحثون عن مصادر ومنابع، أو يبحثون عن الذات، فتنتج ما يحقق تواصلاً يطور أنواعاً من القص أصيلة في الأدب العربي، وينمِّي اطراداً من الجذور فروعاً يانعة.
نلاحظ، في هذا الصدد، أن د.طلعت يرى أن النوادي الأدبية في المملكة سدَّت فراغاً كبيراً في التخصص الأدبي المنشود وجعلت الدراسة الأدبية موضوعاً مميزاً لديها، هذا ما يجعلنا نقول: حبذا لو تولت هذه النوادي مثل هذه المهمة، وخصوصاً أن قصاصين، من أمثال الشقحاء يتولون إدارة نشاطها.
أما الملاحظة الثانية فتتمثل في أن بعض الأدباء العرب، في عدد من الأقطار العربية، وبخاصة لبنان ومصر، تمكنوا من إنتاج نماذج تستخدم تقنيات حديثة، متأثرين في ذلك، باطلاعهم على نماذج من القص الأوروبي الحديث، ومن هؤلاء، على سبيل المثال فحسب، الأديب ميخائيل نعيمة الذي نشر، في الفترة المعنية، الكثير من القصص في الصحف، ومن هذه القصص، قصة "العاقر"، التي تعد من النماذج الراقية في هذا المضمار. ومن المعروف أن نعيمة جمع نتاجه القصصي، في ما بعد، في مجموعات قصصية عديدة. ويمكن أن نشير إلى أسماء أسهمت في نضج القصة القصيرة الفني، فنذكر محمود طاهر لاشين، وشحاته وعيسى عبيد وخليل تقي الدين وتوفيق يوسف عواد.
قد نكون، في هذه المرحلة من تاريخنا الأدبي، بحاجة إلى دراسات في إنتاج الأسلاف القصصي تسهم في تكوين مرحلة جديدة من مراحل تطور فن القص، تتميز بالإفادة من التراث العربي، إضافة إلى إفادتها من التراث الحديث وصدورها عن التجربة الحياتية المعاشة. فتتميز هذه المرحلة من المراحل السابقة التي مر بها فن القص في الأدب العربي الحديث.
يرى د.طلعت أن تلك المراحل ثلاث هي: مرحلة الارتباط بالترجمات والاقتباس والتقليد، ومرحلة القصة- المقال المتصفة بالخطابية والوعظ والافتقار إلى تقنيات القص الحديث ومرحلة التجارب القصصية الحديثة المتأثرة بالقص العربي والغربي. وقد واكب النقد الأدبي إنتاج المرحلة الأخيرة، بمقالات في الصحف، وبمقدمات تُصدَّر بها المجموعات، كما فعل القاص المصري محمود تيمور عندما كتب مقدمة مجموعة "أنَّات الساقية" للقاص السعودي حسن عبد الله القرشي.
والواقع أن فن القص العربي بعامة، مر بهذه المراحل الفنية. إن كان من اختلاف ففي ميدان السبق الزمني، وتأثير السابق باللاحق. والملاحظ أن هذه المراحل تداخلت وتعايشت، ولا تزال. وغير خفي على متتبع أن بعض القصاصين ينتجون، في هذه الأيام، قصصاً لا ترقى إلى مستوى ما أنتجه الرواد في الربع الأول من هذا القرن.
ويرى د.طلعت أن تجارب المرحلة الأخيرة تطورت إلى إنتاج نماذج تستجيب لدعوة النقاد إلى "قصة سعودية عصرية تعبر عن الواقع الذي يعيشه الكتاب" في قالب قصصي يحتذي النماذج الأوروبية.
ويبدو، كما يرى، أن هذه المرحلة حققت إنجازات يعتد بها. ويعود ذلك إلى عوامل عديدة، يذكر منها: انتشار التعليم والصحافة، والعوامل الحضارية ومشاركة المرأة وطبيعة العصر وعودة المبعوثين من الخارج والانتعاش الاقتصادي والاستقرار السياسي. فتمت، كما يضيف، بتفاعل هذه العوامل، بلورة فن حال عدم التخصص، في فترة البوادر، دون بلورته.
نجد حاجة إلى مزيد من الدقة في تصنيف العوامل وبيان أثرها، فالعوامل الحضارية، على سبيل المثال، تشمل العوامل الأخرى، مثل انتشار التعليم والانتعاش الاقتصادي الخ... وهذه العوامل تشكل طبيعة العصر التي تجعل القصة القصيرة فناً يجسدها، بوصفها طبيعة تُكون تجربة مميزة من التوتر والاضطراب السريعين اللذين يجدان في سياق حدث مختار يؤدى في شريط لغوي قصير، ما يتضمن شحنتهما الراشحة بالدلالة على الرؤية التي أثارتهما. وفي هذا المجال، يُطرح السؤال التالي:
-أي استقرار سياسي وانتعاش اقتصادي كونا مثل هذه التجربة التي تجد في القصة القصيرة تجسيداً لها، وهذه القصة، كما نعلم، وليدة القلق والتوتر والاضطراب السريعين؟
ويصنف د.السيد كُتَّاب هذه المرحلة في اتجاهين عامين هما: الواقعية التحليلية والرومانسية الجديدة: فردية الرؤية. ويرى أن الكاتب، في الاتجاه الثاني، يتمثل الواقع، ويحاول إعادة صياغته وفق تجربته الخاصة.
ونسأل: هل يعني هذا أن الكاتب في الاتجاه الأول يتمثل الواقع ويصوغه وفق رؤية "غير خاصة"، أو من دون أن يضمنه أي رؤية؟
الحقيقة أن أي نص أدبي يتضمن بالضرورة رؤية خاصة إلى عالمه. والاختلاف بين نص أدبي وآخر إنما يكون في نوعية هذه الرؤية وطبيعة أداء النص لها.
ويبدو أن هذا التداخل بين الاتجاهين هو الذي جعل د.السيد لا يستقر على تصنيف الشقحاء في اتجاه منهما، فتارة هو من تيار الرومانسيين الجدد(6) وتارة أخرى هو من الكتاب الذين يعتمدون الواقعية والتحليلية إلى درجة أن تكون سر تعلق القراء به(7). ويبدو أن د.السيد أدرك صعوبة تصنيف الشقحاء في اتجاه من الاتجاهين، فقرر أن اختيار فن القصة القصيرة "لم يكن انقياداً لجماعة أو مدرسة فكرية أو اتجاه معين"(8). وقد عزز رأيه الأخير باقتباس عن مقال نشر في جريدة الشرق الأوسط، يقول: "فقد اعتمد الشقحاء اعتماداً شبه كلي على عدم الانتماء الواضح إلى إحدى المدارس الأدبية التي انتشر تلاميذها في ميدان القصة السعودية..".
وينتهي إلى أن يطلق على مجموعة الشقحاء القصصية "مجموعة اللانتماء المدرسي المعهود"(9). وإنه لمن الصواب القول: إن تصنيف الكتاب في مدارس جاهزة الخصائص يوقع الدارس في إشكالات الإسقاط من الخارج. وفي تقديري أن المنهج المناسب في اعتماد الدراسات النصية التي تحدد الخصائص، وتصنف في هذا الاتجاه، أو ذاك، وفقاً لها، وكثيراً ما نجد حالات تستعصي على الحشر في قالب جاهز، وقد نجد حالات تؤسس لاتجاه جديد.
ونحن، إذ نلاحظ أن القصة القصيرة تعيش، في هذه الأيام، في السعودية "فترة مزدهرة قد لا نبالغ إن قلنا إنها تنافس الشعر، إن لم تتفوق عليه"(10) وإذ نلاحظ أيضاً، أن الشقحاء يجد في هذا الفن ما ينهض بأداء تجربته الشخصية، فيكون عاشقاً له(11) ويصدر سبع مجموعات قصصية، في الفترة الممتدة بين عامي 1396 و1408هـ.
إننا، إذ نلاحظ هاتين الحقيقتين، إضافة إلى ازدهار فن القصة القصيرة في دول الخليج العربي عموماً، نرى أن نمطاً من العيش يشكل تجربة حياتية، ومن ثم أدبية، تجد تجسيداً لها في هذا الفن القصصي المتصف بسرعة التوتر ودقة الالتقاء وقصر الشريط اللغوي وكثافته الخ... وطبيعي أن يكون للنصوص التي تجسد تجربة مميزة خصائص فريدة يمكن أن تُصنّف في اتجاهات أدبية جديدة تقتضي بلورة أسسها إجراء دراسات نصية تسبق التصنيف وتفضي إليه.
ويرى د.السيد أن الشقحاء يواصل تطوير أدائه الفني، فيرقى بقصصه من نصوص تتصف بالافتقار إلى الترابط والخيال وبغلبة الوصف الشاعري، وببروز الشخصية أداة نقل الأفكار في المجموعات الأولى، إلى نصوص تتصف بالوعي والنضج، وبخاصة في مجموعتيه الأخيرتين: "قالت إنها قادمة" و"الغريب"(12). وفي كلا المرحلتين يبدو القاص في حالة من الانفعال لا تهدأ إلا بعد الكتابة.
يلاحظ د.السيد هذه الحالة التي تستدر شفقة قارئه(13) ويرى أن ما يكتبه ليس إلا تجاربه الذاتية ونظراته الشخصية، وأنه "لا يُعنى بشيء" قدر عنايته بجعل نفسه الشخصية المحورية في القصة"، وهي شخصية تصطدم بواقعها فتتمنى استبداله بواقع آخر/ حلم، وتبقى ساخطة متمردة.
إن مثل هذه الحالة من الانفعال، تميز تجربة كتابة القصة القصيرة، فتؤتي نصاً أشد توهجاً إن كانت وليدة عيش شخصي ولكن المهم في الأمر هو الرقي بالشخصي إلى مستوى إنساني عام، وإلا لبقي في حدود التعبير، ولم يرق إلى مستوى الفن.
وفي ملاحظة أولى نرى أن القاص يعي هذه المسألة فنراه يعمد في قصة "الغريب"/ مثلاً، إلى تجريب تقني يتمثل باستحضار شخص يرمز إلى الإنسان العربي، ويوجه إليه خطاباً متعدد المرسل، فيرسم شخصيته الأنموذج، لكنه لا يلبث أن يبتر السياق، إذ يعلن موت هذا الشخص، وما كان ممكناً للدلالات أن تكتمل في غياب ردّ هذا الشخص على الخطاب الموجه إليه. ولعل هذا البتر يعود إلى غلبة الانفعال الحاد السريع الذي لا يسمح بتأمل يرى مختلف جوانب الواقع.
إن الاستجابة الحقيقية، بغية كتابة قص يجسد هموم المرحلة، ينبغي أن تكون في الأساس، استجابة للحياة وليس إلى النماذج ونصائح النقاد. فهذه تكون عناصر في تكوين التجربة وليس نفسها. وفرق كبير بين الأمرين.
(2)
تفيد القراءة الأولى لمجموعتي "الغريب" و"الانحدار" أنهما مختلفتان، ففي حين يسود الأولى الانفعال واللغة الشاعرية، ويجد الخطاب الذاتي مكانه الأثير في غير مكان من كل قصة من قصصها، تطغى الموضوعية واللغة الحيادية على الثانية، ويجد الرصد الخارجي فيها المكان الأثير.
إن ملاحظة هذا الاختلاف الواضح لن تسوقنا إلى البحث عن خصائص رومانسية في الأولى وواقعية في الثانية، ذلك أن التصنيفات الجاهزة، وبخاصة المدرسية منها، توقع في إغراء إسقاط الخصائص من الخارج، والبحث في النص عما يؤيدها. ولهذا فإننا سنعمد إلى قراءة قصص كل مجموعة قراءة نصية تسمح بملاحظة خصائص عامة، وتقدم من ثم أنموذجاً من هذه القصص، نتبعه بالقراءة، وبأمثلة من القصص الأخرى تعزز ما نلحظه من خصائص عامة. في قصص مجموعة الغريب يلاحظ أن الانفعال الساخط يكاد يكون العنصر الأساسي المهيمن. وقد رأينا أن نقرأ القصة الأولى: "إبحار في ذاكرة إنسان"، معززين ملاحظاتنا بشواهد من القصص الأخرى، تركيز خصائص عامة تتصف بها هذه المجموعة.
تقدم القصة حدثاً بسيطاً يمكن بسطه كما يلي: مثقف يهرب من مدينته إلى مقهى يقع خارجها، حيث يقرأ ويدخن الشيشة، مسكوناً بفتاة/ حلم يحقق توازنه، في ظل شعارات عن القومية. وفي الموعد المحدد لعودته إلى المنزل يعود، مدفوعاً، أيضاً، بحاجته إلى التبول. ويساق حين يطفئ ضوء سيارته، وهو في طريق العودة، إلى المخفر، حيث يضرب على قدميه، ثم يطلق بعد أن تحفظ أوراقه، لكنه لا يلبث أن يساق من جديد إلى مكان لا يعرفه، وتبقى عربته جاهزة تنتظر من يقودها...
يبقى هذا الحدث، كما قدمناه، حدثاً عادياً. ولا يمكن رصد تحوله إلى قصة فنية إلا بالقراءة، أو على الأقل بتتبع حركة نموه إلى اكتمال يؤدي الدلالة. وهذه ميزة أي نص أدبي تتمثل أدبيته في كيفية أداء دلالته. وهذا ما يجعلنا نعمد إلى تتبع حركة نمو الحدث واستوائه قصة سوية.
وهذه الحركة يمكن تتبعها كما يلي، ملاحظين قبل ذلك أن القاص يستخدم التقطيع المشهدي، كما لو أنه يقدم لقطات تلفازية.
1-قسم من رسالة غير محددة المرسل والمرسل إليه، تشير إلى ما ينبغي أن تتصف به الحياة الطبيعية في المجتمع الإنساني: شوق في حالة الفراق ومحبة في حالة اللقاء. وقد تبدو هذه الرسالة، للقراءة الأولى، زائدة. لكن التأمل في بناء القصة يظهر أنها موظفة في بيان أن مثل هذه الحياة المنشودة مفقودة في مجتمعه، وفي المقارنة بين نمطين من العيش: المنشود والواقع. وهذا ما يدفعه إلى الهرب من واقعه. وإن تكن هذه المقدمة، المؤداة بلغة شاعرية، جيدة التوظيف، في هذه القصة، فإن مقدمات أخرى تبدو مقحمة في قصص أخرى، كما في قصة "الدوار"(15) على سبيل المثال.
2-يهرب في غفلة من الأصوات الرتيبة التي لا لون لها ولا حياة إلى مقهى معتاد، مع أوراق الصحف التي استطاع الحصول عليها. ويبدو أن هذا الهرب تجربة شخصية، إذ يتكرر حضور الصحف والكتب في القصص الأخرى(16). ويبدو أن هذا الهرب يتم من مدينة رتيبة حياتها، كما في هذه القصة، وتتصف بصفات عديدة مؤذية، كما نلحظ في قصص أخرى. ومن هذه الصفات: "مدينة الأشباح والضياع... حيث تجد في كل زاوية شبحاً يتلفح بالطو... وحيث يرتفع نقيق الضفادع التي تتجول بسيارات مختلفة الأشكال والموديلات، الأمر الذي يجعل "كل الطرق تؤدي إلى خارج المدينة"(17).
نجد، في هذا الهرب من المجتمع/ المدينة، خصيصة من خصائص الرومانسية. لكن القاص لا يهرب إلى الطبيعة بوصفها، بما تمثله، بديلاً مقابلاً للواقع، وإنما إلى مقهى يقدم ثلاث وسائل/ نوافذ هي:
أ-شيشة تركّز الهرب.
ب-فسحة لقراءات تستحضر الحلم بفتاة اسمها فداء... ولا يخفى ما في هذا الاستحضار من إيحاءات مصدرها المرأة الحبيبة ودلالات اسمها...
ج-شعارات قومية.
3-في المقهى يقرأ. تطل الفتاة/ الحلم بوصفها عاملاً بديلاً من عوامل الرتابة والأشباح والضفادع. وهنا نلحظ فرقاً آخر بين اتجاه القاص والرومانسيين. فليست الطبيعة هي البديل، وإنما مجتمع تحكي عنه الكتب التي بدأ بها الكاتب قصته.
4-ينتهي من قراءة المجموعة القصصية التي وصلته مجتازة جميع الأسوار. وهذه القراءات أقوى من فعل الشيشة، فيرى زيف الشعارات المرفوعة، ويرفض الشيشة الثالثة، وهذا يعني دلالة على صراع بين الوسائل النوافذ التي يقدمها المقهى. ويشير القاص إلى نتيجة هذا الصراع بتفصيل ذي دلالة، وهو إحساس الشخص بالحاجة إلى التبول، وهذه الحاجة تنشأ بفعل اضطراب نفسي شديد، ويكرر الكاتب هذه الإشارة في قصص أخرى، كما في قصة "العزاء"(18)، الأمر الذي يدل على أنه يقصد استخدامها في هذا السياق. وتكون نتيجة الصراع الخفي انتصار الوعي المتعلق بالحلم على الاستسلام للشيشة أو الشعارات المزيفة. وهذا يعني قدرة على توظيف الأحاسيس ومظاهر تجليها والإشارة إليها ببراعة.
5-يعود من المقهى بدافعين: حلول موعد عودته (العادة) والحاجة إلى التبول، وكان ممكناً أن يقضي حاجته في المقهى لو كانت طبيعية فحسب، ولعله يعي ذلك، وبهذا تكون استجابته لإلحاحها استجابة لاضطراب يولده صراعه الداخلي الخفي بين الاستسلام للشيشة أو للفتاة/الحلم الذي تولده القراءات.
6-يجلس للتبول، ويتذكر أنه مختلف، وفي هذا التذكر يتجلى حضور الفتاة/ الحلم وغياب أي نافذة ضوء أخرى.
7-يرى، وهو في حالة العيش في عالمه البديل، أن الفتاة تنتظر في الشارع. يطفئ ضوء السيارة فلعلها تلوح له. ولكن ما يحدث يكون مفارقة كبرى، إذ إن الشرطة تمسكه لأن دخوله المدينة، وهو مطفئ أضواء سيارته، مريب. فكأن هذه إشارة إلى مطاردة للحياة الطبيعية الخالية من الأضواء، وللحلم النابت من هذه الحياة. أو كأنها إشارة، أيضاً إلى حاجة الشرطة إلى هذه الأضواء لترى ما يفعله الناس. فيكون أي عمل، مثل قضاء الحاجة الطبيعية والحلم، مريباً إن تم خارج سلطة هذه الأضواء.
8-في المخفر يتداخل العالمان، وكأنهما في صراع. يساق إلى المخفر يتابع سعادته مع فداء، يُضرب حتى ينبت الورم في قدميه، تلعق فداء الورم... ويؤدي التعبير عن هذا المشهد/ الصراع بجمل تشير ولا تصرِّح:
-"ثم تطلعت إلى قدمي الحافيتين فانحنت تلعقهما. كان الورم بادياً في أصابعي ومؤخرة قدمي"(19).
في كلمة الورم إشارة ذات دلالة على الضرب المبرح الذي تعرض له. ولكن لم لعق القدمين؟ ولعله لعق الورم الذي يسببه قمع العالم المرفوض. وهذا يعني استمرار الصراع بين العالمين، وتكون المرأة/ الحلم، النابتة من القراءات العالم البديل.
ويبدو أن القاص يعيش، في معظم قصصه، هاجس القمع الدائم. وما يعانيه حتى تبرز الفتاة مخلصاً، وهذا ما يجعل الغرائبية وليدة الحالة، لكن الإغراق فيها وافتعالها يفسد دلالتها أحياناً.
فحنان، مثلاً هي الكائن الوحيد في تلك الناحية(20) وفارس "أحاديث..." يرحل رحلة مستحيلة ليتمكن من الفوز بقلب أجمل الفتيات، وهذه تبقى نجوماً تتلألأ "ونافذة واحدة مضاءة"(21) وحمامة بيضاء(22).
لكن هذا شيء وواقع المرأة شيء آخر، فالمرأة في الواقع "ذات عيون تراقب الفراغ"، لأنها إما زوجة مهجورة تخلى الأب عنها وعن أبنائه فجأة، أو زوجة عجوز، تقيم علاقات سرية، فيرمز إليها الوصف التالي:
يد تودع العشيق ويد أخرى تشير إليه بأن يختفي فيما يكون الزوج العجوز يدير مفتاح الباب ليدخل بيتاً تتابع العيون ما يحدث فيه.
إن العيون التي تتابع ما يحدث على مداخل المدينة.
9-يخرج من المخفر. لا يتذكر داره. وكان ما يدور في لاوعيه يرفض العودة. يسأل شحاذاً يرتدي بالطو. تكبر الريبة. تأتي عربات مجهولة الألوان وتقوده إلى حيث لا يدري. وتبقى عربته دائرة المحرك مضاءة، ولكن من يقودها وليس من إنسان في الميدان؟!. وهذا هو السؤال الكبير الذي قد تتضح لنا أهميته أكثر إن تذكرنا الرسالة التي بدأ بها الكاتب قصته، فأي فرق بين مجتمع إنساني تشير إليه- البنت فداء- وبين هذا المجتمع الذي يختفي فيه الإنسان، وتبقى العربة منتظرة من يقودها؟
إن محمد المنصور الشقحاء ينمي حدثاً عادياً إلى أن يكتمل قصة قصيرة تجسد التجربة التي صدرت عنها، وتكشف الواقع وترى إليه طارحة السؤال الأهم في الأدب الإنساني، وهو: ما قيمة الأشياء، مهما غلت، إن لم تكن في خدمة حرية الإنسان وسعادته؟
(3)
يقدم محمد الشقحاء لمجموعته القصصية: "الانحدار" باقتباسات ترى إلى الصلة بالآخر: صديقاً وحبيباً ورفيق تعب. وتبدو هذه الاقتباسات، وهي تسمو بتلك الصلة إلى مستوى إنساني راقٍ، وكأنها إضاءات تكشف ملامح عالم مختلف عن العالم الذي تحكي المجموعة نماذج من قصصه.
ولعل القاص أراد أن يقيم علاقة تظهر المفارقة بين عالمين: عالم منشود وواقع مترد يتم كشف مساوئه ونقده. وهو، إذ يفعل ذلك، إنما ينشئ علاقة بنائية تؤدي دلالة على رؤيته إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الإنسانية في مجتمع متحضر. ولعلنا ما زلنا نتذكر تلك الرسالة التي قدّم بها لقصة "إبحار في ذاكرة إنسان" التي قدمنا قراءة لها في الفقرة السابقة. الأمر الذي يتيح الإشارة إلى خصيصة تتمثل في الإفادة من الخطاب الخارجي في أداء الدلالة الكلية للنص القصصي.
لا يجد قارئ قصص مجموعة "الانحدار" صعوبة في التعرف إلى العالم الذي كون تجربة القاص، فعلاماته تتكرر في النصوص جميعها، مشكلة ظاهرة تفرض شكل تجسيدها اللغوي- السردي. وهذا ما سوف نثبته في قراءة نصية تتبع نمو سياق قصة "النهر" إلى اكتمال فعاليتها الفنية من نحو أول، وترصد خصائص عامة للقصص جميعها من نحوٍ ثانٍ.
يختار القاص مادة قصة "النهر" من الواقع العربي العام، وليس من تجربة شخصية. ويدور الحدث في حيز يتحرك فيه الإنسان العربي لتحقيق الذات الناهضة إلى مواجهة مشكلاتها الأساسية.
يؤدي المادة راوٍ من الخارج حيادي، فيروي أن طالب أدب يترك جامعة "وارسو"، ويلتحق بمعسكر تدريب. يعيش في المعسكر جواً مريباً، فيقرر أن ينفذ عملية في الداخل وحيداً، باعتبار ذلك بديلاً من نهاية يتوقعها. وعندما يخرج يتعرض لمحاولة اغتيال ينجو منها، ويسرع إلى مقهى حيث تساعده امرأة تنبت فجأة في اجتياز حدود بلد عربي. وعندما يصل إلى النهر المفترض أن يجتازه لينفذ عمليته، يحس بالأمان. لكن طلقاً نارياً يرديه، فيرتمي على الرمل باسماً.
إن الاختيار مقصود، إذ إنه يقدم لنا عينة من حركة الحياة العربية، ذات دلالة على طبيعة هذه الحركة في سعيها إلى تحقيق أهدافها. ولما كانت القصة القصيرة تقتضي اختيار اللحظة المهمة ذات الدلالة، فإن القاص يبدأ أداء الحدث في اللحظة التي يتخذ فيها الطالب/ الفدائي قرار تنفيذ العملية، ويكشف المعوقات التي تحول دون هذا التنفيذ، وهي معوقات حدس بها متخذ القرار. وكانت المحفز إلى اتخاذه بديلاً من نهاية، فكأن القاص يريد أن يقول لنا: هذه هي أسباب التردي في مواجهة قضايانا وأبرزها قضية الاحتلال، ولكن من دون أن يلجأ إلى الخطاب، وإنما إلى إقامة بنية سردية تفصح عن ذلك، مستقلة عن مرجعها ومنشئها، فهل نجح القاص في ذلك؟
تقتضي الإجابة عن هذا السؤال تتبع نمو حركة سياق القص إلى اكتمال الدلالة. وهذا ما سوف نفعله في ما يلي:
1-تبدأ القصة بحوار يدور داخل شخص/ حالة عامة، من دون اسم أو ملامح محددة، ويبدو أن هذا الحوار قديم، إذ إن القاص يبدأ بجملة معطوفة على ما سبق، ويذكر نهايته المتمثلة باتخاذ قرار في مسألة مقلقة. فالشخص يبحث عن بديل من نهاية يتوقعها، ولا يصرِّح بها، وإنما يترك أمر كشفها إلى تطور الأحداث، وهكذا يبدأ عنصر التشويق، في تتبع سعي شخص يهرب من نهاية ما، ويقرر القيام بعمل خوفاً من خسارة ما أيضاً، الحوار الداخلي موحٍ ومشوقٍ، ويبدو أن تنضيده جعله يختلط بالجمل التالية له.
2-يشكل هذا الحوار الداخلي حافز فعل، فيتخذ الشخص قراره، ويقفز. يتدخل القاص مفسراً فيقول: "حتى لا يكون التردد موقف حسم ينهي التطلع..."(23) ويبدو هذا التدخل مقحماً، إذ إن الحوار كان كافياً لتنمية الفعل. يقفز الشخص إلى إحدى صالات معسكر التدريب، يصف القاص المشهد وصفاً موضوعياً تشير مفرداته إلى دلالات مثل "إحدى صالات..." التي نفهم منها أن المعسكر متعدد الصالات، ومثل الإشارة إلى المدرب بـ"الرجل" في تجريد يسلبه أي صفة أخرى، فتكون استجابته العملية مسوغة، فهو يكتفي بتحديد ما ينبغي عمله، فالعلاقة السائدة بعيدة عن الحميمية والعواطف. ويبدو أن اتخاذ القرار أنهى الحوار القديم الذي كان يفاعل داخل الشخص، منذ بدء "الدرس الجديد" على الأقل، كما يسميه القاص، وفي هذه التسمية المجردة أيضاً تتأكد العلاقة الباردة والعملية السائدة داخل المعسكر.
3-يواصل الرجل (المدرب) شرحه، ويتحدث عن اجتياز "النهر". ونلحظ هنا تكرر التسميات العامة المجردة من علاقاتها، فيعود الحوار الداخلي ليتساءل عن طبيعة عملية يكون اجتياز النهر أصعب مراحلها، وليس الأسلاك العدوة. وهذا يعني واجهة معوقات عربية.
ينشط الحوار الداخلي، ويعيده إلى موقفه السابق، القلق، ويرجأ نمو الحدث يجري الشخص معادلة حسابية بين الخوف والانتصار، ويسترجع من الذاكرة ماضيه: طالب أدب يدرس في جامعة وارسو ملاحم تحكي قصصاً عن الربح والخسارة.
4-ينمو الحدث الخارجي في موازاة الحدث الداخلي، تنتهي المحاضرة، وهنا تتكرر التسميات المجردة، بتأمل الشخص الجمع الخارجي، غير أن الحدث الداخلي ينمو بفعل محفزات الحدث الخارجي، ويتجلى نموه في واقعة غرائبية إذ يتصور الشخص أن أحدهم يضغط على عنق المحاضر، فيخرج هذا لسانه، ويمتد اللسان نحو الشخص، ثم يتقلص... تبدو هذه الواقعة وليدة الجو المريب والإحساس بالخوف وفقد الثقة بين الشخصية والمدرب، وتأتي أيضاً لتلبي الرغبة في الإفلات من النهاية التي كان الشخص يتوقعها، ويبدو أن للمدرب يداً فيها، ولهذا تجلت رغبته في القضاء على المدرب، ولو من طريق التصور.
5-يغادر الشخص المكان. لا يلاحظ من يتعقبه، ثم يرى شهاباً نارياً يمر من أمامه، لم يسمع الصوت، هل يتوهم؟ لا نعرف ذلك لكنه يسعى إلى الإفلات من محاولة اغتيال كما يعتقد، فينمو الجو المريب، وتبرز حالة العداء، ولكن من يحاول اغتياله، وهو في طريقه إلى تنفيذ عملية جريئة في الداخل؟ وهل هذه هي النهاية التي كان يخاف منها، وقرر أن ينفذ العملية وحيداً من أجل أن يتلافاها؟
6-يصل إلى مقهى، يجد المحاضر وثلاثة من رفاقه. ينمو الإحساس بالخوف، إلى إحساس بالموت، وهنا يتأكد موقفه من الحاضر (المدرب، ومسؤوله). يتصرف، يسرع إلى المرحاض، يرى رجلاً وامرأة، يجبر الرجل الذي يشبهه على تبادل الملابس معه.
ولم الشبه؟ هل هو إقحام يسوغ إتمام المبادلة. يغادر مع المرأة في سيارة تقودها. تطلق النار، ويرى رفاقه يقفون فوق جثة الرجل الذي تبادل معه الملابس. وهنا تطرح أسئلة عديدة: من هو الرجل؟ ولم كان شبيهاً به؟ من المقصود بالقتل؟ من هي المرأة؟ هل هي أداة لاصطياد الرجل الآخر الذي يشبهه لتسهيل اجتيازه الحدود؟ ولم تم قتل ذلك الرجل؟ أما كان يكفي احتجازه إلى حين إتمام عملية الاجتياز طالما أنهم أخذوا ثيابه وأوراقه وأمواله؟
ليس من إجابات، ويبدو المناخ تآمرياً وغامضاً، ويحتاج إلى إجابات، ولكن هذا لا يحدث، فيُحث القارئ على التفكير وبذل الجهد في إنشاء الاحتمالات.
7-يفتش جيوب الرجل. يجد هويته وجواز سفره وحافظة نقوده الملأى بالليرات والدنانير والدولارات. تعرّفنا هذه المعلومات بأن الرجل البديل غني ورجل علاقات عامة في الدول التي يقتني عملاتها، ولعله سمسار. ثم تتكشف وظيفة المرأة حين تكشف عن صدرها لتسهيل مروره. توصله إلى المكان المطلوب، وتعطيه خريطة. هل كانت تعرفه أو أن الإشارات المتبادلة عرفت أحدهما بالآخر؟ وهل هي التي اصطادت الرجل الآخر لتكون هويته جواز اجتياز الحدود إلى النهر؟
8-ترسم الخريطة طريق وصوله إلى النهر. أما بعد ذلك فغير مذكور فيها، فهل هذا إشارة إلى عدم معرفة الداخل؟ وهل هو دليل اهتمام بالمعوقات العربية فحسب؟ ولكن ماذا بعد النهر.؟ إن هذا السؤال لا تطرحه الخريطة فكيف بالإجابة عنه!؟
9-يشعر بالجوع، يتناول طعامه في مطعم. النادل يذهل لوفرة ما يحمله من نقود يشعر بالأمان. لماذا؟ هل لأنه غادر معسكر التدريب وفارق رفاقه هناك؟
10-يشعر بخدر لذيذ على ضفة النهر، ولكن طلقاً نارياً يرديه. لا يبقى ضوء، ويتعفر وجهه الباسم بالتراب. تنتهي القصة بإثارة الأسئلة أيضاً، من أطلق النار وقتله؟ هل هذه هي النهاية التي هرب منها؟ هل قتله آخرون يحرسون النهر؟ ومن أي جهة أتى الطلق الناري؟ وهل هذا يعني أن النهر حاجز لا يمكن اجتيازه فعلاً، وإن تم اتخاذ القرار، وتجاوز مشكلات عديدة؟
11-ينمو سياق النص بعمومية أسمائه، وافتقاره إلى تفاصيل دالة وخطاب، وبموضوعية السرد وحياديته إضافة إلى الجو المريب، والخوف، والمفاجآت الغامضة... ينمو إلى كشف واقع تآمري متردد يهرب منه الإنسان خوفاً من نهاية فظيعة، ولكنه يبقى كالمتخبط في الشبكة، ولا يدري من أي الجهات تأتيه الطلقة القاتلة التي تمنعه من عبور النهر الذي يحمل صفة الرمز، فضلاً عن كونه واقعاً موضوعاً ذا دلالة مباشرة.
يلاحظ القارئ خصائص تتصف بها هذه القصة التي قرأنا، ويرى، إن تابع قراءة القصص الأخرى، أن هذه الخصائص بارزة فيها. ولهذا لا يجد صعوبة في تركيز أهمها كما يلي: 1-الشخصية الرئيسية في القصة من دون اسم أو ملامح محددة، فهي تمثل حالة عامة، وكذلك الشخصيات الثانوية. تعيش هذه الشخصية أزمة ما، فتبقى متوترة قلقة، ويظللها مناخ مريب، فتشعر بالمطاردة، وتختلط الرؤى لديها، وتركض هاربة، كما في قصة "المعاق"(24). وتلمح ما يريب في كل مظهر(25) الأمر الذي يجعلها تحس بالغربة والحصار(26) والخوف والقلق اللذين يفقدانها كيانها ويمنعانها من تحقيق ذاتها(27). لا تجد هذه الشخصية سوى الهرب مخرجاً إلى المقهى على سبيل المثال(28)، أو إلى الكتابة، ولكن هذه الوسيلة تصادر أو تصبح من دون جدوى(29). ويسود الشعور بالاضطهاد عالمها، ويلاحظ أن هذا الشعور يبدأ منذ الطفولة، ويستمر طوال العمر، فتكون بين عصا المدرس وعقب البندقية، وضحية من ضحايا التميز(30). ويصل بها الأمر إلى الشعور بالسحل، سحل ما تبقى من كيانها، وسحل كتابتها، أو بالانحدار نحو الهاوية وحيدة، أو بالنهاية والقتل المجاني...
2-يخلق هذا الانفصام الحاد، في داخل الشخصية، حواراً داخلياً دائماً يحسب الخسارة والربح، ويدفع إلى سعي يتجاوز النهاية المتوقعة، فيكن محفز بدء سياق هذا السعي المتمثل في شريط لغوي قصير، ومحفز نموه أيضاً فكأنه- الحوار الداخلي المترقب الراصد يتوتر..- محرك الحدث القصصي، كما رأينا في قصة "النهر" مثلاً، عندما قفز الشخص معلناً: "أقوم بهذه المهمة وحيداً"(31). وكما نرى في قصص أخرى، كما في قصة "الانحدار"، حيث نقرأ "أخذت أفكر بقسوة في الانتصاب العدواني الذي مارسه شيء من داخلي..."، "شعرت أن قوة تتعامل في داخلي"، وكما في قصة "الرقية"؛ حيث نقرأ: "هاجس في داخله يدعوه إلى تحريكها بشكل آلي"، وكما في قصة "القطار"؛ حيث نقرأ: "منذ زمن طويل تسرب قرف لا أدري مصدره إلى داخلي معلناً رفض الكتابة عن كل شيء، حتى عن انسحاقي وسحل ما تبقى من كياني.."، وكما في قصة "العيد"، حيث نقرأ: "دعني أشاركك الملل. صوت خافت ينبثق من داخلي، وأنا أتلفت حولي..." و"سطعت في داخلي شرارات لم أستطع كبتها"، وكما في قصة "مي": حيث نقرأ: "إحساس الغربة هذه المرة تصاعد..." الخ(32)..
3-يتجلى تأثير الحالة الداخلية في اتخاذ القرار، وفي تنمية الوضعية إلى إحساس بالسحل أو التقلص، ولكن ما نلاحظه على مستوى فنية القص هو بروز وقائع غرائبية في السياق. تبدو هذه الوقائع، للوهلة الأولى، فانتازيا مقحمة، ولكنها في الحقيقة وليدة تلك الحالة الداخلية التي تتجلى أحياناً في وقائع غرائبية طبيعية النشوء وجيدة التوظيف، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي: "يتنامى الخوف من المحاضر، في قصة النهر/ فيرى الشخص ما يلي: "... يتدلى لسان المحاضر، يمتد إلى الأرض، يزحف باتجاهه". إن هذه الصورة تحقق رغبة الشخص في التخلص من المحاضر الذي يخافه، ومن الأمثلة أيضاً رؤية المنديل ملطخاً بالدماء في قصة "البكاء" ومسوغ ذلك الإحساس بالإصابة، وإن لم تحدث، لفرط إحساسه بالاضطهاد والمطاردة، ومن ذلك، تكون البساط السحري في قصة "العشاء" بفعل المشاعر الداخلية الخ(33)..
إن هذه الوقائع التي تبدو وكأنها من خارج السياق، وليدة طبيعية للحالة الداخلية التي تعيشها الشخصية، وهي ليست ميزة فنية بحد ذاتها، وإنما تأخذ قيمتها من جودة توظيفها بوصفها عنصراً يسهم في تنمية السياق إلى فعاليته الكلية، وهذا ما بدا واضحاً في الأمثلة التي استشهدنا بها.
4-وتتجلى الحالة الداخلية، أيضاً، في حدث واقعي، في حضوره وفعله، وإن كان غير وقائعي ومتوهماً، كأن يأتي صوت من الخارج متوهم، لكنه حاضر داخل الذات وفاعل في تشكيل موقفها، كما في قصة "الانحدار"، حيث يهتف صوت: "حامد... حامد..." يواصل هتافه ويجري حواراً مع الشخصية. وفي الحقيقة هو صوت وليد الحالة الداخلية، ولكن الشخصية تشعر بحضوره وفعله، فيشعل الحاضر بنار الماضي كما حدث لحامد في فرح ابنته عندما أتاه صوت حبيبته الأولى التي تزوجت من سواه، وكانا قد اتفقا على تسمية ابنتهما الأولى "سماح"(34).
5-تحفز الحالة الداخلية الحدث: تنشئه وتنميه، وكأنها وقوده، ولعل هذه الخصيصة ما يجعل إيقاع السرد سريعاً، قصير الجمل الفعلية التي تلاحق نمو الحدث الذي ينمو بوتيرة عجلة، فيلاحقها الفعل الماضي بتتالٍ موقع، يحتاج إلى علامات ترقيم دقيقة، وهذا ما لم يفعله المنضد. ولعل هذه الخصيصة، أيضاً، جعلت السرد غالباً، وإن التقينا جملاً طويلة تجر أثقالها ببطء، فإن ذلك يكون لأداء التأمل/ الخطاب(35). ويبدو أن مقدمة قصة "الانحدار" التأملية تثقل القص، وكان ممكناً التخلي عنها، من دون أن يؤثر ذلك على نشوء حركة القص ونموها.
6-يقتصد القاص في الوصف ويؤديه بموضوعية وحيادية، صارمة في أغلب الأحيان، سواء في ذلك وصف الشخصيات والأماكن، وكأنه يريد الإيحاء بأنه يكتب عن واقع عام. غير أن الوصف الذي يرد أحياناً، للضرورة الفنية، موظف جيداً، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في نهاية قصة "النهر": "لم يعد هناك ضوء. الرمل يشرب الدم المنساب.. يتعفر وجهه الباسم بالتراب.."(36)، إن في اختفاء الضوء إشارة إلى واقع يخلو من الأمل، وعلى الرغم من ذلك يبتسم الوجه المعفر بالتراب في إشارة إلى إحساس الشخص بالتخلص من هذا الواقع، إن في هذه العلاقة الضدية كشف للعالمين الداخلي والخارجي وعلاقاتهما، ومن الأمثلة أيضاً ذلك التناغم بين الداخل والخارج الذي نلخصه في قصة الانحدار، حيث نقرأ: "الأضواء تملأ الشارع كما أنها تضيء داخلي بقوة..." وذلك عائد إلى إحساسه بالفرح، ولكن ما إن يغيب هذا الإحساس، بفعل حضور الماضي، حتى تنعكس الحالة الداخلية، فنقرأ: "والزغاريد ترتفع في الداخل، وظل طويل يغادر المكان يحجب الضوء الوالج في كل مكان" ما عدا داخله(37).
7-يختار القاص مادة القصة من الواقع، ويلتقط اللحظة الهامة، ليبدأ منها سرده الحدث، بعد أن يعزله عن متعلقاته، يؤدي السرد راوٍ من خارج الحدث غالباً، ومشكلة مثل هذا الراوي تتمثل في تسويغ معرفة كل شيء، يحل القاص هذه المشكلة باستخدام وسائط، كالحوار الداخلي والثنائي، والصوت الآتي من الخارج الخ.. والملاحظ أن هذه الوسائط قصيرة، وخالية من الحرارة. وفي بعض القصص يؤدي السرد راوٍ من الداخل، الشخصية الرئيسية التي يتيح لها موقعها بث ما في الداخل بسهولة.
يتعمد الراوي الاقتصاد في الوصف وحذف الروابط والإضاءات، ويقدم المفاجآت، وينمي الحدث في سياق خيطي، يمتد في الحاضر، متبعاً ما يحدث، ويُرجى نمو هذا السياق بحوار أو بوصف، ثم يستأنف إلى النهاية، تكثر أحداث الخارج المفاجئة، ويخلق هذا كله مناخاً من الغموض، وكثيراً من الأسئلة، وكأن القاص يحث القارئ على المشاركة في عملية القص، وفي اكتناه الدلالة، وخصوصاً أنه لا يوصله إلى نهاية حاسمة، أو إلى قول قاطع بشأن كثير من التفاصيل. غير أن المبالغة في هذا المنحى تؤدي إلى تشتت التركيز الذي يحتاج إلى جهد كبير للملمته وتكوين التصور الكامل، وفي شأن مثل هذه الصعوبة يرد غير كاتب فيقول:
"إن من واجب القارئ أن يبذل جهداً، فقارئ الكلمات المتقاطعة يبذل مثل هذا الجهد!".
لكن المشكلة تبقى، إذ إن القارئ في هذه الأيام، غير مستعد لتقديم مثل هذا الجهد، وهذه مشكلة أساسية لدى كتاب الأدب: شعراً ونثراً.
8-يسود القصص مناخ عام من الخوف والترقب والحذر الخ.. ينتهي، في قصص عديدة، نهايات غير سعيدة، وفي بعضٍ منها إلى مواجهة تفضي إلى القتل. الأمر الذي يشير إلى خلل في البنية الاجتماعية وعلاقات عناصرها.
(4)
يسعى القاص إلى رصد هذا الخلل وكشفه وبيان آثاره، بغية معرفته وتجاوزه، وإقامة علاقات إنسانية سوية، فيتأكد بهذا ما ذهبنا إليه، في بداية حديثنا من وجود علاقة بنائية بين رؤية الكاتب إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الإنسانية السوية (المتمثلة في الرسالة، في قصة "إبحار في ذاكرة إنسان" وفي الاقتباسات في مقدمة الانحدار) وبين الواقع الذي يعيشه. وإن هذه العلاقة البنائية/ التضاد تبرز المفارقة بين مثال منشود وواقع معيش، منشود وواقع معيش، الانحدار) وبين الواقع الذي يعيشه. وإن هذه العلاقة البنائية/ التضاد تبرز المفارقة بين مثال منشود وواقع معيش، وتحث على تجاوز هذا الواقع وتحقيق المثال في سعي تجسد قصص المجموعة حركته إلى هدفه.
ولكن هذا السعي، سواء على مستوى التجربة الشخصية أم على مستوى التجربة العامة، يخفق على أثر مواجهته للقوى التي تحرس تلك البنية الاجتماعية خالقة الحالة المتوترة، وهذا ما تجسده قصص الشقحاء في أشكال تختلف باختلاف التجربة: شخصية وعامة، وإن كانت تصدر عن رؤية ناقدة للواقع رائية إلى بديل من نهاية متوقعة، قد تكون شبيهة بنهاية شخصية قصة "النهر" أو قصة "إبحار في ذاكرة إنسان"، فالنهايتان مأساويتان ينبغي أن يقدم المجتمع العربي لإنسانه بديلاً منهما. وهذا ما يرى إليه كثير من كتابه.
الهوامش:
(1)-د.طلعت صبح السيد، دراسة في القصة القصيرة، عند محمد الشقحاء، الطائف: دار الحارثي، الطبعة الأولى.
(2)-محمد الشقحاء، الغريب، سوريا- دمشق- منشوات مجلة الثقافة.
(3)-محمد الشقحاء، الانحدار، الطائف، مطبوعات نادي الطائف الأدبي/ الطبعة الأولى، 1413هـ-1993م.
(4)-د.طلعت السيد، مصدر سابق، ص 11 و12.
(5)-المصدر نفسه.
(6)- المصدر نفسه، ص 33 و113.
(7)- المصدر نفسه، ص 35.
(8)- المصدر نفسه، ص 38.
(9)- المصدر نفسه، ص 40.
(10)- المصدر نفسه.
(11)- المصدر نفسه، ص 11.
(12)- المصدر نفسه، ص 106 و108 و109 و116 و120 و153.
(13)- المصدر نفسه، ص 79.
(14)- المصدر نفسه، ص 99 و100.
(15)-الغريب، ص 19.
(16)-راجع المصدر نفسه، ص 14 و15 و18، على سبيل المثال.
(17)- المصدر نفسه، ص 17.
(18)-راجع المصدر نفسه، ص 56، و57، على سبيل المثال.
(19)- المصدر نفسه، ص 9.
(20)- المصدر نفسه، ص 37.
(21)- المصدر نفسه، ص 48.
(22)- المصدر نفسه، ص 50.
(23)-الانحدار، مصدر سابق، ص 9.
(24)- المصدر نفسه، ص 48 و49.
(25)- المصدر نفسه، ص 19 و20.
(26)- المصدر نفسه، ص 67.
(27)- المصدر نفسه، ص 31 و22.
(28)- المصدر نفسه، ص 60.
(29)- المصدر نفسه، ص 33.
(30)- المصدر نفسه، ص 31 و32 و50 و51.
(31)- المصدر نفسه، ص 9.
(32)- المصدر نفسه، ص 22 و26 و30 و33 و49 و54 و57 و61 و67.
(33)- المصدر نفسه، ص 11 و18 و21 و44 و56.
(34)- المصدر نفسه، ص 23 و24.
(35)-راجع، مثلاً، المصدر نفسه، ص 22، حيث تبدأ الجملة الأولى بـ"اتضح" وتنتهي بعد أربعة أسطر، وحيث تبدأ جملة أخرى بـ"أخذت أفكر" وتنتهي بعد عدة أسطر أيضاً.
(36)-المصدر نفسه، ص 15 و16.
(37)- المصدر نفسه، ص 23 و24.
يجد قارئ الأدب العربي الحديث، في غير قطر، صعوبة في التعرّف إلى أعلام هذا الأدب ونماذجه في الأقطار العربية الأخرى. ويعود ذلك، في أحد أسبابه، إلى مشكلات تعيق انتشار الكتاب. وقد تشير إلى حجم هذه المشكلات وتأثيرها معلومة تفيد أنَّ أي دار نشر عربية لا تطبع من الكتاب، سواء كان دراسة أم إنتاجاً إبداعياً، أكثر من ثلاثة آلاف نسخة لا تنفد خلال سنوات.
ليس من أهداف هذه الدراسة أن تبحث في هذه القضية، وإنما تجد فيها دافعاً إلى إجراء دراسة نصية في ثلاثة نماذج مختارة متخذة النقد أساساً للتعريف بالأدب، في محاولة أولى قد تليها محاولات تسمح بمعرفة أكثر شمولاً وتقصياً.
وهذه النماذج هي:
1-"دراسة في القصة القصيرة عند محمد الشقحاء"(1). للدكتور طلعت صبح السيد.
2-الغريب(2)، مجموعة قصص قصيرة لمحمد الشقحاء.
3-الانحدار(3)، مجموعة قصص قصيرة للقاص نفسه.
والمجموعتان القصصيتان هما آخر مجموعتين قصصيتين صدرتا للقاص محمد الشقحاء.
يشير د.طلعت، قبل أن يشرع في دراسة قصص الشقحاء، إلى واقع القصة القصيرة في المملكة، فيرى الدارسين يكادون يجمعون "على أن القصة الفنية القصيرة، بمفهومها الحالي والمتطور، بأسسها، وتقنياتها الحديثة، وسماتها وخصائصها المميَّزة، وما إلى ذلك بما تختلف فيه تمام الاختلاف عن مفهوم الرواية والمسرحية، لم يكن لها، في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري [قبل الحرب العالمية الثانية] شأن يذكر على الإطلاق"، ويحيل، بغية تأكيد هذا الرأي إلى كتاب د.بكري الشيخ أمين "الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية". ولا يلبث المؤلف أن يضيف: "إن هذا الإجماع يكاد يشمل كل البلدان العربية أيضاً"(4).
ويمكن للمتأمل، في هذين الحكمين، أن يورد ملاحظتين، تتمثل أولاهما في أن الإنتاج القصصي، وبخاصة فن القص القصير منه، متعدد الأشكال، الأمر الذي لا يتيح تحديد مفهوم شامل محدد ذي أسس وتقنيات نهائية. وإن كان من حديث عن فنية هذا القص فليكن عن نماذج محددة تشكل ظاهرة تنتج، إن اطَّردت طوال مرحلة ما، نوعاً قصصياً. وفي سياق هذا الفهم يمكن القول:
إن الحياة الأدبية عرفت، في الفترة المعنية، إنتاج نماذج قصصية قصيرة تنوعت بين فكاهات وأمثال وأساطير وخرافات ونوادر وملح وأحاديث سمر... وكانت هذه الكتابات تنشر في الصحف، وتحظى بإقبال واهتمام كبيرين ويعود ذلك إلى سببين: الأول رصدها وتتبعها، واختيارها من ثم، في كتب التراث وأحاديث الناس ووقائع الحياة. والثاني تقديمها بلغة فنية تنتهي، كما كان يقول كتاب هذه القصص، إلى إيضاح "معاني الحياة على أسلوب يُسلي ويحلّي ويُغذي، فيطرب لها خاصة الناس وعامتهم".
يعدّ هذا الإنتاج القصصي تنويعاً في إطار جنس القص. وهو، وإن كان يختلف عن نماذج القصة القصيرة التي عُرفت في أوروبا حديثاً، وقد تمَّ اتباعها والتنويع عليها في الأقطار العربية، فإنه يتصف بخصائص تميزه وتجعله جديراً بالدراسة والتمييز والتصنيف وبيان الخصائص وتحديد النوع في إطار الفن العام.
يقرر د.طلعت أن النقاد والدارسين أهملوا هذا النوع من القصص "بسبب ما ثبت لديهم من أن ليس لها مدلول إلا أنها طرفة أو حكاية سمر، وما إلى ذلك"(5).
إن هذا الإهمال ينبغي ألا يستمر، وذلك لأن أدباً "يوضح معاني الحياة" و"يطرب له خاصة الناس وعامتهم" لأدب جدير بالدراسة بغية بيان خصائصه التي تحقق وظيفة يرمي إليها كل أدب جيد، فلعل هذه الخصائص تشكل بعض مكونات التجربة الأدبية لدى قصاصينا الذين يبحثون عن مصادر ومنابع، أو يبحثون عن الذات، فتنتج ما يحقق تواصلاً يطور أنواعاً من القص أصيلة في الأدب العربي، وينمِّي اطراداً من الجذور فروعاً يانعة.
نلاحظ، في هذا الصدد، أن د.طلعت يرى أن النوادي الأدبية في المملكة سدَّت فراغاً كبيراً في التخصص الأدبي المنشود وجعلت الدراسة الأدبية موضوعاً مميزاً لديها، هذا ما يجعلنا نقول: حبذا لو تولت هذه النوادي مثل هذه المهمة، وخصوصاً أن قصاصين، من أمثال الشقحاء يتولون إدارة نشاطها.
أما الملاحظة الثانية فتتمثل في أن بعض الأدباء العرب، في عدد من الأقطار العربية، وبخاصة لبنان ومصر، تمكنوا من إنتاج نماذج تستخدم تقنيات حديثة، متأثرين في ذلك، باطلاعهم على نماذج من القص الأوروبي الحديث، ومن هؤلاء، على سبيل المثال فحسب، الأديب ميخائيل نعيمة الذي نشر، في الفترة المعنية، الكثير من القصص في الصحف، ومن هذه القصص، قصة "العاقر"، التي تعد من النماذج الراقية في هذا المضمار. ومن المعروف أن نعيمة جمع نتاجه القصصي، في ما بعد، في مجموعات قصصية عديدة. ويمكن أن نشير إلى أسماء أسهمت في نضج القصة القصيرة الفني، فنذكر محمود طاهر لاشين، وشحاته وعيسى عبيد وخليل تقي الدين وتوفيق يوسف عواد.
قد نكون، في هذه المرحلة من تاريخنا الأدبي، بحاجة إلى دراسات في إنتاج الأسلاف القصصي تسهم في تكوين مرحلة جديدة من مراحل تطور فن القص، تتميز بالإفادة من التراث العربي، إضافة إلى إفادتها من التراث الحديث وصدورها عن التجربة الحياتية المعاشة. فتتميز هذه المرحلة من المراحل السابقة التي مر بها فن القص في الأدب العربي الحديث.
يرى د.طلعت أن تلك المراحل ثلاث هي: مرحلة الارتباط بالترجمات والاقتباس والتقليد، ومرحلة القصة- المقال المتصفة بالخطابية والوعظ والافتقار إلى تقنيات القص الحديث ومرحلة التجارب القصصية الحديثة المتأثرة بالقص العربي والغربي. وقد واكب النقد الأدبي إنتاج المرحلة الأخيرة، بمقالات في الصحف، وبمقدمات تُصدَّر بها المجموعات، كما فعل القاص المصري محمود تيمور عندما كتب مقدمة مجموعة "أنَّات الساقية" للقاص السعودي حسن عبد الله القرشي.
والواقع أن فن القص العربي بعامة، مر بهذه المراحل الفنية. إن كان من اختلاف ففي ميدان السبق الزمني، وتأثير السابق باللاحق. والملاحظ أن هذه المراحل تداخلت وتعايشت، ولا تزال. وغير خفي على متتبع أن بعض القصاصين ينتجون، في هذه الأيام، قصصاً لا ترقى إلى مستوى ما أنتجه الرواد في الربع الأول من هذا القرن.
ويرى د.طلعت أن تجارب المرحلة الأخيرة تطورت إلى إنتاج نماذج تستجيب لدعوة النقاد إلى "قصة سعودية عصرية تعبر عن الواقع الذي يعيشه الكتاب" في قالب قصصي يحتذي النماذج الأوروبية.
ويبدو، كما يرى، أن هذه المرحلة حققت إنجازات يعتد بها. ويعود ذلك إلى عوامل عديدة، يذكر منها: انتشار التعليم والصحافة، والعوامل الحضارية ومشاركة المرأة وطبيعة العصر وعودة المبعوثين من الخارج والانتعاش الاقتصادي والاستقرار السياسي. فتمت، كما يضيف، بتفاعل هذه العوامل، بلورة فن حال عدم التخصص، في فترة البوادر، دون بلورته.
نجد حاجة إلى مزيد من الدقة في تصنيف العوامل وبيان أثرها، فالعوامل الحضارية، على سبيل المثال، تشمل العوامل الأخرى، مثل انتشار التعليم والانتعاش الاقتصادي الخ... وهذه العوامل تشكل طبيعة العصر التي تجعل القصة القصيرة فناً يجسدها، بوصفها طبيعة تُكون تجربة مميزة من التوتر والاضطراب السريعين اللذين يجدان في سياق حدث مختار يؤدى في شريط لغوي قصير، ما يتضمن شحنتهما الراشحة بالدلالة على الرؤية التي أثارتهما. وفي هذا المجال، يُطرح السؤال التالي:
-أي استقرار سياسي وانتعاش اقتصادي كونا مثل هذه التجربة التي تجد في القصة القصيرة تجسيداً لها، وهذه القصة، كما نعلم، وليدة القلق والتوتر والاضطراب السريعين؟
ويصنف د.السيد كُتَّاب هذه المرحلة في اتجاهين عامين هما: الواقعية التحليلية والرومانسية الجديدة: فردية الرؤية. ويرى أن الكاتب، في الاتجاه الثاني، يتمثل الواقع، ويحاول إعادة صياغته وفق تجربته الخاصة.
ونسأل: هل يعني هذا أن الكاتب في الاتجاه الأول يتمثل الواقع ويصوغه وفق رؤية "غير خاصة"، أو من دون أن يضمنه أي رؤية؟
الحقيقة أن أي نص أدبي يتضمن بالضرورة رؤية خاصة إلى عالمه. والاختلاف بين نص أدبي وآخر إنما يكون في نوعية هذه الرؤية وطبيعة أداء النص لها.
ويبدو أن هذا التداخل بين الاتجاهين هو الذي جعل د.السيد لا يستقر على تصنيف الشقحاء في اتجاه منهما، فتارة هو من تيار الرومانسيين الجدد(6) وتارة أخرى هو من الكتاب الذين يعتمدون الواقعية والتحليلية إلى درجة أن تكون سر تعلق القراء به(7). ويبدو أن د.السيد أدرك صعوبة تصنيف الشقحاء في اتجاه من الاتجاهين، فقرر أن اختيار فن القصة القصيرة "لم يكن انقياداً لجماعة أو مدرسة فكرية أو اتجاه معين"(8). وقد عزز رأيه الأخير باقتباس عن مقال نشر في جريدة الشرق الأوسط، يقول: "فقد اعتمد الشقحاء اعتماداً شبه كلي على عدم الانتماء الواضح إلى إحدى المدارس الأدبية التي انتشر تلاميذها في ميدان القصة السعودية..".
وينتهي إلى أن يطلق على مجموعة الشقحاء القصصية "مجموعة اللانتماء المدرسي المعهود"(9). وإنه لمن الصواب القول: إن تصنيف الكتاب في مدارس جاهزة الخصائص يوقع الدارس في إشكالات الإسقاط من الخارج. وفي تقديري أن المنهج المناسب في اعتماد الدراسات النصية التي تحدد الخصائص، وتصنف في هذا الاتجاه، أو ذاك، وفقاً لها، وكثيراً ما نجد حالات تستعصي على الحشر في قالب جاهز، وقد نجد حالات تؤسس لاتجاه جديد.
ونحن، إذ نلاحظ أن القصة القصيرة تعيش، في هذه الأيام، في السعودية "فترة مزدهرة قد لا نبالغ إن قلنا إنها تنافس الشعر، إن لم تتفوق عليه"(10) وإذ نلاحظ أيضاً، أن الشقحاء يجد في هذا الفن ما ينهض بأداء تجربته الشخصية، فيكون عاشقاً له(11) ويصدر سبع مجموعات قصصية، في الفترة الممتدة بين عامي 1396 و1408هـ.
إننا، إذ نلاحظ هاتين الحقيقتين، إضافة إلى ازدهار فن القصة القصيرة في دول الخليج العربي عموماً، نرى أن نمطاً من العيش يشكل تجربة حياتية، ومن ثم أدبية، تجد تجسيداً لها في هذا الفن القصصي المتصف بسرعة التوتر ودقة الالتقاء وقصر الشريط اللغوي وكثافته الخ... وطبيعي أن يكون للنصوص التي تجسد تجربة مميزة خصائص فريدة يمكن أن تُصنّف في اتجاهات أدبية جديدة تقتضي بلورة أسسها إجراء دراسات نصية تسبق التصنيف وتفضي إليه.
ويرى د.السيد أن الشقحاء يواصل تطوير أدائه الفني، فيرقى بقصصه من نصوص تتصف بالافتقار إلى الترابط والخيال وبغلبة الوصف الشاعري، وببروز الشخصية أداة نقل الأفكار في المجموعات الأولى، إلى نصوص تتصف بالوعي والنضج، وبخاصة في مجموعتيه الأخيرتين: "قالت إنها قادمة" و"الغريب"(12). وفي كلا المرحلتين يبدو القاص في حالة من الانفعال لا تهدأ إلا بعد الكتابة.
يلاحظ د.السيد هذه الحالة التي تستدر شفقة قارئه(13) ويرى أن ما يكتبه ليس إلا تجاربه الذاتية ونظراته الشخصية، وأنه "لا يُعنى بشيء" قدر عنايته بجعل نفسه الشخصية المحورية في القصة"، وهي شخصية تصطدم بواقعها فتتمنى استبداله بواقع آخر/ حلم، وتبقى ساخطة متمردة.
إن مثل هذه الحالة من الانفعال، تميز تجربة كتابة القصة القصيرة، فتؤتي نصاً أشد توهجاً إن كانت وليدة عيش شخصي ولكن المهم في الأمر هو الرقي بالشخصي إلى مستوى إنساني عام، وإلا لبقي في حدود التعبير، ولم يرق إلى مستوى الفن.
وفي ملاحظة أولى نرى أن القاص يعي هذه المسألة فنراه يعمد في قصة "الغريب"/ مثلاً، إلى تجريب تقني يتمثل باستحضار شخص يرمز إلى الإنسان العربي، ويوجه إليه خطاباً متعدد المرسل، فيرسم شخصيته الأنموذج، لكنه لا يلبث أن يبتر السياق، إذ يعلن موت هذا الشخص، وما كان ممكناً للدلالات أن تكتمل في غياب ردّ هذا الشخص على الخطاب الموجه إليه. ولعل هذا البتر يعود إلى غلبة الانفعال الحاد السريع الذي لا يسمح بتأمل يرى مختلف جوانب الواقع.
إن الاستجابة الحقيقية، بغية كتابة قص يجسد هموم المرحلة، ينبغي أن تكون في الأساس، استجابة للحياة وليس إلى النماذج ونصائح النقاد. فهذه تكون عناصر في تكوين التجربة وليس نفسها. وفرق كبير بين الأمرين.
(2)
تفيد القراءة الأولى لمجموعتي "الغريب" و"الانحدار" أنهما مختلفتان، ففي حين يسود الأولى الانفعال واللغة الشاعرية، ويجد الخطاب الذاتي مكانه الأثير في غير مكان من كل قصة من قصصها، تطغى الموضوعية واللغة الحيادية على الثانية، ويجد الرصد الخارجي فيها المكان الأثير.
إن ملاحظة هذا الاختلاف الواضح لن تسوقنا إلى البحث عن خصائص رومانسية في الأولى وواقعية في الثانية، ذلك أن التصنيفات الجاهزة، وبخاصة المدرسية منها، توقع في إغراء إسقاط الخصائص من الخارج، والبحث في النص عما يؤيدها. ولهذا فإننا سنعمد إلى قراءة قصص كل مجموعة قراءة نصية تسمح بملاحظة خصائص عامة، وتقدم من ثم أنموذجاً من هذه القصص، نتبعه بالقراءة، وبأمثلة من القصص الأخرى تعزز ما نلحظه من خصائص عامة. في قصص مجموعة الغريب يلاحظ أن الانفعال الساخط يكاد يكون العنصر الأساسي المهيمن. وقد رأينا أن نقرأ القصة الأولى: "إبحار في ذاكرة إنسان"، معززين ملاحظاتنا بشواهد من القصص الأخرى، تركيز خصائص عامة تتصف بها هذه المجموعة.
تقدم القصة حدثاً بسيطاً يمكن بسطه كما يلي: مثقف يهرب من مدينته إلى مقهى يقع خارجها، حيث يقرأ ويدخن الشيشة، مسكوناً بفتاة/ حلم يحقق توازنه، في ظل شعارات عن القومية. وفي الموعد المحدد لعودته إلى المنزل يعود، مدفوعاً، أيضاً، بحاجته إلى التبول. ويساق حين يطفئ ضوء سيارته، وهو في طريق العودة، إلى المخفر، حيث يضرب على قدميه، ثم يطلق بعد أن تحفظ أوراقه، لكنه لا يلبث أن يساق من جديد إلى مكان لا يعرفه، وتبقى عربته جاهزة تنتظر من يقودها...
يبقى هذا الحدث، كما قدمناه، حدثاً عادياً. ولا يمكن رصد تحوله إلى قصة فنية إلا بالقراءة، أو على الأقل بتتبع حركة نموه إلى اكتمال يؤدي الدلالة. وهذه ميزة أي نص أدبي تتمثل أدبيته في كيفية أداء دلالته. وهذا ما يجعلنا نعمد إلى تتبع حركة نمو الحدث واستوائه قصة سوية.
وهذه الحركة يمكن تتبعها كما يلي، ملاحظين قبل ذلك أن القاص يستخدم التقطيع المشهدي، كما لو أنه يقدم لقطات تلفازية.
1-قسم من رسالة غير محددة المرسل والمرسل إليه، تشير إلى ما ينبغي أن تتصف به الحياة الطبيعية في المجتمع الإنساني: شوق في حالة الفراق ومحبة في حالة اللقاء. وقد تبدو هذه الرسالة، للقراءة الأولى، زائدة. لكن التأمل في بناء القصة يظهر أنها موظفة في بيان أن مثل هذه الحياة المنشودة مفقودة في مجتمعه، وفي المقارنة بين نمطين من العيش: المنشود والواقع. وهذا ما يدفعه إلى الهرب من واقعه. وإن تكن هذه المقدمة، المؤداة بلغة شاعرية، جيدة التوظيف، في هذه القصة، فإن مقدمات أخرى تبدو مقحمة في قصص أخرى، كما في قصة "الدوار"(15) على سبيل المثال.
2-يهرب في غفلة من الأصوات الرتيبة التي لا لون لها ولا حياة إلى مقهى معتاد، مع أوراق الصحف التي استطاع الحصول عليها. ويبدو أن هذا الهرب تجربة شخصية، إذ يتكرر حضور الصحف والكتب في القصص الأخرى(16). ويبدو أن هذا الهرب يتم من مدينة رتيبة حياتها، كما في هذه القصة، وتتصف بصفات عديدة مؤذية، كما نلحظ في قصص أخرى. ومن هذه الصفات: "مدينة الأشباح والضياع... حيث تجد في كل زاوية شبحاً يتلفح بالطو... وحيث يرتفع نقيق الضفادع التي تتجول بسيارات مختلفة الأشكال والموديلات، الأمر الذي يجعل "كل الطرق تؤدي إلى خارج المدينة"(17).
نجد، في هذا الهرب من المجتمع/ المدينة، خصيصة من خصائص الرومانسية. لكن القاص لا يهرب إلى الطبيعة بوصفها، بما تمثله، بديلاً مقابلاً للواقع، وإنما إلى مقهى يقدم ثلاث وسائل/ نوافذ هي:
أ-شيشة تركّز الهرب.
ب-فسحة لقراءات تستحضر الحلم بفتاة اسمها فداء... ولا يخفى ما في هذا الاستحضار من إيحاءات مصدرها المرأة الحبيبة ودلالات اسمها...
ج-شعارات قومية.
3-في المقهى يقرأ. تطل الفتاة/ الحلم بوصفها عاملاً بديلاً من عوامل الرتابة والأشباح والضفادع. وهنا نلحظ فرقاً آخر بين اتجاه القاص والرومانسيين. فليست الطبيعة هي البديل، وإنما مجتمع تحكي عنه الكتب التي بدأ بها الكاتب قصته.
4-ينتهي من قراءة المجموعة القصصية التي وصلته مجتازة جميع الأسوار. وهذه القراءات أقوى من فعل الشيشة، فيرى زيف الشعارات المرفوعة، ويرفض الشيشة الثالثة، وهذا يعني دلالة على صراع بين الوسائل النوافذ التي يقدمها المقهى. ويشير القاص إلى نتيجة هذا الصراع بتفصيل ذي دلالة، وهو إحساس الشخص بالحاجة إلى التبول، وهذه الحاجة تنشأ بفعل اضطراب نفسي شديد، ويكرر الكاتب هذه الإشارة في قصص أخرى، كما في قصة "العزاء"(18)، الأمر الذي يدل على أنه يقصد استخدامها في هذا السياق. وتكون نتيجة الصراع الخفي انتصار الوعي المتعلق بالحلم على الاستسلام للشيشة أو الشعارات المزيفة. وهذا يعني قدرة على توظيف الأحاسيس ومظاهر تجليها والإشارة إليها ببراعة.
5-يعود من المقهى بدافعين: حلول موعد عودته (العادة) والحاجة إلى التبول، وكان ممكناً أن يقضي حاجته في المقهى لو كانت طبيعية فحسب، ولعله يعي ذلك، وبهذا تكون استجابته لإلحاحها استجابة لاضطراب يولده صراعه الداخلي الخفي بين الاستسلام للشيشة أو للفتاة/الحلم الذي تولده القراءات.
6-يجلس للتبول، ويتذكر أنه مختلف، وفي هذا التذكر يتجلى حضور الفتاة/ الحلم وغياب أي نافذة ضوء أخرى.
7-يرى، وهو في حالة العيش في عالمه البديل، أن الفتاة تنتظر في الشارع. يطفئ ضوء السيارة فلعلها تلوح له. ولكن ما يحدث يكون مفارقة كبرى، إذ إن الشرطة تمسكه لأن دخوله المدينة، وهو مطفئ أضواء سيارته، مريب. فكأن هذه إشارة إلى مطاردة للحياة الطبيعية الخالية من الأضواء، وللحلم النابت من هذه الحياة. أو كأنها إشارة، أيضاً إلى حاجة الشرطة إلى هذه الأضواء لترى ما يفعله الناس. فيكون أي عمل، مثل قضاء الحاجة الطبيعية والحلم، مريباً إن تم خارج سلطة هذه الأضواء.
8-في المخفر يتداخل العالمان، وكأنهما في صراع. يساق إلى المخفر يتابع سعادته مع فداء، يُضرب حتى ينبت الورم في قدميه، تلعق فداء الورم... ويؤدي التعبير عن هذا المشهد/ الصراع بجمل تشير ولا تصرِّح:
-"ثم تطلعت إلى قدمي الحافيتين فانحنت تلعقهما. كان الورم بادياً في أصابعي ومؤخرة قدمي"(19).
في كلمة الورم إشارة ذات دلالة على الضرب المبرح الذي تعرض له. ولكن لم لعق القدمين؟ ولعله لعق الورم الذي يسببه قمع العالم المرفوض. وهذا يعني استمرار الصراع بين العالمين، وتكون المرأة/ الحلم، النابتة من القراءات العالم البديل.
ويبدو أن القاص يعيش، في معظم قصصه، هاجس القمع الدائم. وما يعانيه حتى تبرز الفتاة مخلصاً، وهذا ما يجعل الغرائبية وليدة الحالة، لكن الإغراق فيها وافتعالها يفسد دلالتها أحياناً.
فحنان، مثلاً هي الكائن الوحيد في تلك الناحية(20) وفارس "أحاديث..." يرحل رحلة مستحيلة ليتمكن من الفوز بقلب أجمل الفتيات، وهذه تبقى نجوماً تتلألأ "ونافذة واحدة مضاءة"(21) وحمامة بيضاء(22).
لكن هذا شيء وواقع المرأة شيء آخر، فالمرأة في الواقع "ذات عيون تراقب الفراغ"، لأنها إما زوجة مهجورة تخلى الأب عنها وعن أبنائه فجأة، أو زوجة عجوز، تقيم علاقات سرية، فيرمز إليها الوصف التالي:
يد تودع العشيق ويد أخرى تشير إليه بأن يختفي فيما يكون الزوج العجوز يدير مفتاح الباب ليدخل بيتاً تتابع العيون ما يحدث فيه.
إن العيون التي تتابع ما يحدث على مداخل المدينة.
9-يخرج من المخفر. لا يتذكر داره. وكان ما يدور في لاوعيه يرفض العودة. يسأل شحاذاً يرتدي بالطو. تكبر الريبة. تأتي عربات مجهولة الألوان وتقوده إلى حيث لا يدري. وتبقى عربته دائرة المحرك مضاءة، ولكن من يقودها وليس من إنسان في الميدان؟!. وهذا هو السؤال الكبير الذي قد تتضح لنا أهميته أكثر إن تذكرنا الرسالة التي بدأ بها الكاتب قصته، فأي فرق بين مجتمع إنساني تشير إليه- البنت فداء- وبين هذا المجتمع الذي يختفي فيه الإنسان، وتبقى العربة منتظرة من يقودها؟
إن محمد المنصور الشقحاء ينمي حدثاً عادياً إلى أن يكتمل قصة قصيرة تجسد التجربة التي صدرت عنها، وتكشف الواقع وترى إليه طارحة السؤال الأهم في الأدب الإنساني، وهو: ما قيمة الأشياء، مهما غلت، إن لم تكن في خدمة حرية الإنسان وسعادته؟
(3)
يقدم محمد الشقحاء لمجموعته القصصية: "الانحدار" باقتباسات ترى إلى الصلة بالآخر: صديقاً وحبيباً ورفيق تعب. وتبدو هذه الاقتباسات، وهي تسمو بتلك الصلة إلى مستوى إنساني راقٍ، وكأنها إضاءات تكشف ملامح عالم مختلف عن العالم الذي تحكي المجموعة نماذج من قصصه.
ولعل القاص أراد أن يقيم علاقة تظهر المفارقة بين عالمين: عالم منشود وواقع مترد يتم كشف مساوئه ونقده. وهو، إذ يفعل ذلك، إنما ينشئ علاقة بنائية تؤدي دلالة على رؤيته إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الإنسانية في مجتمع متحضر. ولعلنا ما زلنا نتذكر تلك الرسالة التي قدّم بها لقصة "إبحار في ذاكرة إنسان" التي قدمنا قراءة لها في الفقرة السابقة. الأمر الذي يتيح الإشارة إلى خصيصة تتمثل في الإفادة من الخطاب الخارجي في أداء الدلالة الكلية للنص القصصي.
لا يجد قارئ قصص مجموعة "الانحدار" صعوبة في التعرف إلى العالم الذي كون تجربة القاص، فعلاماته تتكرر في النصوص جميعها، مشكلة ظاهرة تفرض شكل تجسيدها اللغوي- السردي. وهذا ما سوف نثبته في قراءة نصية تتبع نمو سياق قصة "النهر" إلى اكتمال فعاليتها الفنية من نحو أول، وترصد خصائص عامة للقصص جميعها من نحوٍ ثانٍ.
يختار القاص مادة قصة "النهر" من الواقع العربي العام، وليس من تجربة شخصية. ويدور الحدث في حيز يتحرك فيه الإنسان العربي لتحقيق الذات الناهضة إلى مواجهة مشكلاتها الأساسية.
يؤدي المادة راوٍ من الخارج حيادي، فيروي أن طالب أدب يترك جامعة "وارسو"، ويلتحق بمعسكر تدريب. يعيش في المعسكر جواً مريباً، فيقرر أن ينفذ عملية في الداخل وحيداً، باعتبار ذلك بديلاً من نهاية يتوقعها. وعندما يخرج يتعرض لمحاولة اغتيال ينجو منها، ويسرع إلى مقهى حيث تساعده امرأة تنبت فجأة في اجتياز حدود بلد عربي. وعندما يصل إلى النهر المفترض أن يجتازه لينفذ عمليته، يحس بالأمان. لكن طلقاً نارياً يرديه، فيرتمي على الرمل باسماً.
إن الاختيار مقصود، إذ إنه يقدم لنا عينة من حركة الحياة العربية، ذات دلالة على طبيعة هذه الحركة في سعيها إلى تحقيق أهدافها. ولما كانت القصة القصيرة تقتضي اختيار اللحظة المهمة ذات الدلالة، فإن القاص يبدأ أداء الحدث في اللحظة التي يتخذ فيها الطالب/ الفدائي قرار تنفيذ العملية، ويكشف المعوقات التي تحول دون هذا التنفيذ، وهي معوقات حدس بها متخذ القرار. وكانت المحفز إلى اتخاذه بديلاً من نهاية، فكأن القاص يريد أن يقول لنا: هذه هي أسباب التردي في مواجهة قضايانا وأبرزها قضية الاحتلال، ولكن من دون أن يلجأ إلى الخطاب، وإنما إلى إقامة بنية سردية تفصح عن ذلك، مستقلة عن مرجعها ومنشئها، فهل نجح القاص في ذلك؟
تقتضي الإجابة عن هذا السؤال تتبع نمو حركة سياق القص إلى اكتمال الدلالة. وهذا ما سوف نفعله في ما يلي:
1-تبدأ القصة بحوار يدور داخل شخص/ حالة عامة، من دون اسم أو ملامح محددة، ويبدو أن هذا الحوار قديم، إذ إن القاص يبدأ بجملة معطوفة على ما سبق، ويذكر نهايته المتمثلة باتخاذ قرار في مسألة مقلقة. فالشخص يبحث عن بديل من نهاية يتوقعها، ولا يصرِّح بها، وإنما يترك أمر كشفها إلى تطور الأحداث، وهكذا يبدأ عنصر التشويق، في تتبع سعي شخص يهرب من نهاية ما، ويقرر القيام بعمل خوفاً من خسارة ما أيضاً، الحوار الداخلي موحٍ ومشوقٍ، ويبدو أن تنضيده جعله يختلط بالجمل التالية له.
2-يشكل هذا الحوار الداخلي حافز فعل، فيتخذ الشخص قراره، ويقفز. يتدخل القاص مفسراً فيقول: "حتى لا يكون التردد موقف حسم ينهي التطلع..."(23) ويبدو هذا التدخل مقحماً، إذ إن الحوار كان كافياً لتنمية الفعل. يقفز الشخص إلى إحدى صالات معسكر التدريب، يصف القاص المشهد وصفاً موضوعياً تشير مفرداته إلى دلالات مثل "إحدى صالات..." التي نفهم منها أن المعسكر متعدد الصالات، ومثل الإشارة إلى المدرب بـ"الرجل" في تجريد يسلبه أي صفة أخرى، فتكون استجابته العملية مسوغة، فهو يكتفي بتحديد ما ينبغي عمله، فالعلاقة السائدة بعيدة عن الحميمية والعواطف. ويبدو أن اتخاذ القرار أنهى الحوار القديم الذي كان يفاعل داخل الشخص، منذ بدء "الدرس الجديد" على الأقل، كما يسميه القاص، وفي هذه التسمية المجردة أيضاً تتأكد العلاقة الباردة والعملية السائدة داخل المعسكر.
3-يواصل الرجل (المدرب) شرحه، ويتحدث عن اجتياز "النهر". ونلحظ هنا تكرر التسميات العامة المجردة من علاقاتها، فيعود الحوار الداخلي ليتساءل عن طبيعة عملية يكون اجتياز النهر أصعب مراحلها، وليس الأسلاك العدوة. وهذا يعني واجهة معوقات عربية.
ينشط الحوار الداخلي، ويعيده إلى موقفه السابق، القلق، ويرجأ نمو الحدث يجري الشخص معادلة حسابية بين الخوف والانتصار، ويسترجع من الذاكرة ماضيه: طالب أدب يدرس في جامعة وارسو ملاحم تحكي قصصاً عن الربح والخسارة.
4-ينمو الحدث الخارجي في موازاة الحدث الداخلي، تنتهي المحاضرة، وهنا تتكرر التسميات المجردة، بتأمل الشخص الجمع الخارجي، غير أن الحدث الداخلي ينمو بفعل محفزات الحدث الخارجي، ويتجلى نموه في واقعة غرائبية إذ يتصور الشخص أن أحدهم يضغط على عنق المحاضر، فيخرج هذا لسانه، ويمتد اللسان نحو الشخص، ثم يتقلص... تبدو هذه الواقعة وليدة الجو المريب والإحساس بالخوف وفقد الثقة بين الشخصية والمدرب، وتأتي أيضاً لتلبي الرغبة في الإفلات من النهاية التي كان الشخص يتوقعها، ويبدو أن للمدرب يداً فيها، ولهذا تجلت رغبته في القضاء على المدرب، ولو من طريق التصور.
5-يغادر الشخص المكان. لا يلاحظ من يتعقبه، ثم يرى شهاباً نارياً يمر من أمامه، لم يسمع الصوت، هل يتوهم؟ لا نعرف ذلك لكنه يسعى إلى الإفلات من محاولة اغتيال كما يعتقد، فينمو الجو المريب، وتبرز حالة العداء، ولكن من يحاول اغتياله، وهو في طريقه إلى تنفيذ عملية جريئة في الداخل؟ وهل هذه هي النهاية التي كان يخاف منها، وقرر أن ينفذ العملية وحيداً من أجل أن يتلافاها؟
6-يصل إلى مقهى، يجد المحاضر وثلاثة من رفاقه. ينمو الإحساس بالخوف، إلى إحساس بالموت، وهنا يتأكد موقفه من الحاضر (المدرب، ومسؤوله). يتصرف، يسرع إلى المرحاض، يرى رجلاً وامرأة، يجبر الرجل الذي يشبهه على تبادل الملابس معه.
ولم الشبه؟ هل هو إقحام يسوغ إتمام المبادلة. يغادر مع المرأة في سيارة تقودها. تطلق النار، ويرى رفاقه يقفون فوق جثة الرجل الذي تبادل معه الملابس. وهنا تطرح أسئلة عديدة: من هو الرجل؟ ولم كان شبيهاً به؟ من المقصود بالقتل؟ من هي المرأة؟ هل هي أداة لاصطياد الرجل الآخر الذي يشبهه لتسهيل اجتيازه الحدود؟ ولم تم قتل ذلك الرجل؟ أما كان يكفي احتجازه إلى حين إتمام عملية الاجتياز طالما أنهم أخذوا ثيابه وأوراقه وأمواله؟
ليس من إجابات، ويبدو المناخ تآمرياً وغامضاً، ويحتاج إلى إجابات، ولكن هذا لا يحدث، فيُحث القارئ على التفكير وبذل الجهد في إنشاء الاحتمالات.
7-يفتش جيوب الرجل. يجد هويته وجواز سفره وحافظة نقوده الملأى بالليرات والدنانير والدولارات. تعرّفنا هذه المعلومات بأن الرجل البديل غني ورجل علاقات عامة في الدول التي يقتني عملاتها، ولعله سمسار. ثم تتكشف وظيفة المرأة حين تكشف عن صدرها لتسهيل مروره. توصله إلى المكان المطلوب، وتعطيه خريطة. هل كانت تعرفه أو أن الإشارات المتبادلة عرفت أحدهما بالآخر؟ وهل هي التي اصطادت الرجل الآخر لتكون هويته جواز اجتياز الحدود إلى النهر؟
8-ترسم الخريطة طريق وصوله إلى النهر. أما بعد ذلك فغير مذكور فيها، فهل هذا إشارة إلى عدم معرفة الداخل؟ وهل هو دليل اهتمام بالمعوقات العربية فحسب؟ ولكن ماذا بعد النهر.؟ إن هذا السؤال لا تطرحه الخريطة فكيف بالإجابة عنه!؟
9-يشعر بالجوع، يتناول طعامه في مطعم. النادل يذهل لوفرة ما يحمله من نقود يشعر بالأمان. لماذا؟ هل لأنه غادر معسكر التدريب وفارق رفاقه هناك؟
10-يشعر بخدر لذيذ على ضفة النهر، ولكن طلقاً نارياً يرديه. لا يبقى ضوء، ويتعفر وجهه الباسم بالتراب. تنتهي القصة بإثارة الأسئلة أيضاً، من أطلق النار وقتله؟ هل هذه هي النهاية التي هرب منها؟ هل قتله آخرون يحرسون النهر؟ ومن أي جهة أتى الطلق الناري؟ وهل هذا يعني أن النهر حاجز لا يمكن اجتيازه فعلاً، وإن تم اتخاذ القرار، وتجاوز مشكلات عديدة؟
11-ينمو سياق النص بعمومية أسمائه، وافتقاره إلى تفاصيل دالة وخطاب، وبموضوعية السرد وحياديته إضافة إلى الجو المريب، والخوف، والمفاجآت الغامضة... ينمو إلى كشف واقع تآمري متردد يهرب منه الإنسان خوفاً من نهاية فظيعة، ولكنه يبقى كالمتخبط في الشبكة، ولا يدري من أي الجهات تأتيه الطلقة القاتلة التي تمنعه من عبور النهر الذي يحمل صفة الرمز، فضلاً عن كونه واقعاً موضوعاً ذا دلالة مباشرة.
يلاحظ القارئ خصائص تتصف بها هذه القصة التي قرأنا، ويرى، إن تابع قراءة القصص الأخرى، أن هذه الخصائص بارزة فيها. ولهذا لا يجد صعوبة في تركيز أهمها كما يلي: 1-الشخصية الرئيسية في القصة من دون اسم أو ملامح محددة، فهي تمثل حالة عامة، وكذلك الشخصيات الثانوية. تعيش هذه الشخصية أزمة ما، فتبقى متوترة قلقة، ويظللها مناخ مريب، فتشعر بالمطاردة، وتختلط الرؤى لديها، وتركض هاربة، كما في قصة "المعاق"(24). وتلمح ما يريب في كل مظهر(25) الأمر الذي يجعلها تحس بالغربة والحصار(26) والخوف والقلق اللذين يفقدانها كيانها ويمنعانها من تحقيق ذاتها(27). لا تجد هذه الشخصية سوى الهرب مخرجاً إلى المقهى على سبيل المثال(28)، أو إلى الكتابة، ولكن هذه الوسيلة تصادر أو تصبح من دون جدوى(29). ويسود الشعور بالاضطهاد عالمها، ويلاحظ أن هذا الشعور يبدأ منذ الطفولة، ويستمر طوال العمر، فتكون بين عصا المدرس وعقب البندقية، وضحية من ضحايا التميز(30). ويصل بها الأمر إلى الشعور بالسحل، سحل ما تبقى من كيانها، وسحل كتابتها، أو بالانحدار نحو الهاوية وحيدة، أو بالنهاية والقتل المجاني...
2-يخلق هذا الانفصام الحاد، في داخل الشخصية، حواراً داخلياً دائماً يحسب الخسارة والربح، ويدفع إلى سعي يتجاوز النهاية المتوقعة، فيكن محفز بدء سياق هذا السعي المتمثل في شريط لغوي قصير، ومحفز نموه أيضاً فكأنه- الحوار الداخلي المترقب الراصد يتوتر..- محرك الحدث القصصي، كما رأينا في قصة "النهر" مثلاً، عندما قفز الشخص معلناً: "أقوم بهذه المهمة وحيداً"(31). وكما نرى في قصص أخرى، كما في قصة "الانحدار"، حيث نقرأ "أخذت أفكر بقسوة في الانتصاب العدواني الذي مارسه شيء من داخلي..."، "شعرت أن قوة تتعامل في داخلي"، وكما في قصة "الرقية"؛ حيث نقرأ: "هاجس في داخله يدعوه إلى تحريكها بشكل آلي"، وكما في قصة "القطار"؛ حيث نقرأ: "منذ زمن طويل تسرب قرف لا أدري مصدره إلى داخلي معلناً رفض الكتابة عن كل شيء، حتى عن انسحاقي وسحل ما تبقى من كياني.."، وكما في قصة "العيد"، حيث نقرأ: "دعني أشاركك الملل. صوت خافت ينبثق من داخلي، وأنا أتلفت حولي..." و"سطعت في داخلي شرارات لم أستطع كبتها"، وكما في قصة "مي": حيث نقرأ: "إحساس الغربة هذه المرة تصاعد..." الخ(32)..
3-يتجلى تأثير الحالة الداخلية في اتخاذ القرار، وفي تنمية الوضعية إلى إحساس بالسحل أو التقلص، ولكن ما نلاحظه على مستوى فنية القص هو بروز وقائع غرائبية في السياق. تبدو هذه الوقائع، للوهلة الأولى، فانتازيا مقحمة، ولكنها في الحقيقة وليدة تلك الحالة الداخلية التي تتجلى أحياناً في وقائع غرائبية طبيعية النشوء وجيدة التوظيف، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي: "يتنامى الخوف من المحاضر، في قصة النهر/ فيرى الشخص ما يلي: "... يتدلى لسان المحاضر، يمتد إلى الأرض، يزحف باتجاهه". إن هذه الصورة تحقق رغبة الشخص في التخلص من المحاضر الذي يخافه، ومن الأمثلة أيضاً رؤية المنديل ملطخاً بالدماء في قصة "البكاء" ومسوغ ذلك الإحساس بالإصابة، وإن لم تحدث، لفرط إحساسه بالاضطهاد والمطاردة، ومن ذلك، تكون البساط السحري في قصة "العشاء" بفعل المشاعر الداخلية الخ(33)..
إن هذه الوقائع التي تبدو وكأنها من خارج السياق، وليدة طبيعية للحالة الداخلية التي تعيشها الشخصية، وهي ليست ميزة فنية بحد ذاتها، وإنما تأخذ قيمتها من جودة توظيفها بوصفها عنصراً يسهم في تنمية السياق إلى فعاليته الكلية، وهذا ما بدا واضحاً في الأمثلة التي استشهدنا بها.
4-وتتجلى الحالة الداخلية، أيضاً، في حدث واقعي، في حضوره وفعله، وإن كان غير وقائعي ومتوهماً، كأن يأتي صوت من الخارج متوهم، لكنه حاضر داخل الذات وفاعل في تشكيل موقفها، كما في قصة "الانحدار"، حيث يهتف صوت: "حامد... حامد..." يواصل هتافه ويجري حواراً مع الشخصية. وفي الحقيقة هو صوت وليد الحالة الداخلية، ولكن الشخصية تشعر بحضوره وفعله، فيشعل الحاضر بنار الماضي كما حدث لحامد في فرح ابنته عندما أتاه صوت حبيبته الأولى التي تزوجت من سواه، وكانا قد اتفقا على تسمية ابنتهما الأولى "سماح"(34).
5-تحفز الحالة الداخلية الحدث: تنشئه وتنميه، وكأنها وقوده، ولعل هذه الخصيصة ما يجعل إيقاع السرد سريعاً، قصير الجمل الفعلية التي تلاحق نمو الحدث الذي ينمو بوتيرة عجلة، فيلاحقها الفعل الماضي بتتالٍ موقع، يحتاج إلى علامات ترقيم دقيقة، وهذا ما لم يفعله المنضد. ولعل هذه الخصيصة، أيضاً، جعلت السرد غالباً، وإن التقينا جملاً طويلة تجر أثقالها ببطء، فإن ذلك يكون لأداء التأمل/ الخطاب(35). ويبدو أن مقدمة قصة "الانحدار" التأملية تثقل القص، وكان ممكناً التخلي عنها، من دون أن يؤثر ذلك على نشوء حركة القص ونموها.
6-يقتصد القاص في الوصف ويؤديه بموضوعية وحيادية، صارمة في أغلب الأحيان، سواء في ذلك وصف الشخصيات والأماكن، وكأنه يريد الإيحاء بأنه يكتب عن واقع عام. غير أن الوصف الذي يرد أحياناً، للضرورة الفنية، موظف جيداً، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في نهاية قصة "النهر": "لم يعد هناك ضوء. الرمل يشرب الدم المنساب.. يتعفر وجهه الباسم بالتراب.."(36)، إن في اختفاء الضوء إشارة إلى واقع يخلو من الأمل، وعلى الرغم من ذلك يبتسم الوجه المعفر بالتراب في إشارة إلى إحساس الشخص بالتخلص من هذا الواقع، إن في هذه العلاقة الضدية كشف للعالمين الداخلي والخارجي وعلاقاتهما، ومن الأمثلة أيضاً ذلك التناغم بين الداخل والخارج الذي نلخصه في قصة الانحدار، حيث نقرأ: "الأضواء تملأ الشارع كما أنها تضيء داخلي بقوة..." وذلك عائد إلى إحساسه بالفرح، ولكن ما إن يغيب هذا الإحساس، بفعل حضور الماضي، حتى تنعكس الحالة الداخلية، فنقرأ: "والزغاريد ترتفع في الداخل، وظل طويل يغادر المكان يحجب الضوء الوالج في كل مكان" ما عدا داخله(37).
7-يختار القاص مادة القصة من الواقع، ويلتقط اللحظة الهامة، ليبدأ منها سرده الحدث، بعد أن يعزله عن متعلقاته، يؤدي السرد راوٍ من خارج الحدث غالباً، ومشكلة مثل هذا الراوي تتمثل في تسويغ معرفة كل شيء، يحل القاص هذه المشكلة باستخدام وسائط، كالحوار الداخلي والثنائي، والصوت الآتي من الخارج الخ.. والملاحظ أن هذه الوسائط قصيرة، وخالية من الحرارة. وفي بعض القصص يؤدي السرد راوٍ من الداخل، الشخصية الرئيسية التي يتيح لها موقعها بث ما في الداخل بسهولة.
يتعمد الراوي الاقتصاد في الوصف وحذف الروابط والإضاءات، ويقدم المفاجآت، وينمي الحدث في سياق خيطي، يمتد في الحاضر، متبعاً ما يحدث، ويُرجى نمو هذا السياق بحوار أو بوصف، ثم يستأنف إلى النهاية، تكثر أحداث الخارج المفاجئة، ويخلق هذا كله مناخاً من الغموض، وكثيراً من الأسئلة، وكأن القاص يحث القارئ على المشاركة في عملية القص، وفي اكتناه الدلالة، وخصوصاً أنه لا يوصله إلى نهاية حاسمة، أو إلى قول قاطع بشأن كثير من التفاصيل. غير أن المبالغة في هذا المنحى تؤدي إلى تشتت التركيز الذي يحتاج إلى جهد كبير للملمته وتكوين التصور الكامل، وفي شأن مثل هذه الصعوبة يرد غير كاتب فيقول:
"إن من واجب القارئ أن يبذل جهداً، فقارئ الكلمات المتقاطعة يبذل مثل هذا الجهد!".
لكن المشكلة تبقى، إذ إن القارئ في هذه الأيام، غير مستعد لتقديم مثل هذا الجهد، وهذه مشكلة أساسية لدى كتاب الأدب: شعراً ونثراً.
8-يسود القصص مناخ عام من الخوف والترقب والحذر الخ.. ينتهي، في قصص عديدة، نهايات غير سعيدة، وفي بعضٍ منها إلى مواجهة تفضي إلى القتل. الأمر الذي يشير إلى خلل في البنية الاجتماعية وعلاقات عناصرها.
(4)
يسعى القاص إلى رصد هذا الخلل وكشفه وبيان آثاره، بغية معرفته وتجاوزه، وإقامة علاقات إنسانية سوية، فيتأكد بهذا ما ذهبنا إليه، في بداية حديثنا من وجود علاقة بنائية بين رؤية الكاتب إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الإنسانية السوية (المتمثلة في الرسالة، في قصة "إبحار في ذاكرة إنسان" وفي الاقتباسات في مقدمة الانحدار) وبين الواقع الذي يعيشه. وإن هذه العلاقة البنائية/ التضاد تبرز المفارقة بين مثال منشود وواقع معيش، منشود وواقع معيش، الانحدار) وبين الواقع الذي يعيشه. وإن هذه العلاقة البنائية/ التضاد تبرز المفارقة بين مثال منشود وواقع معيش، وتحث على تجاوز هذا الواقع وتحقيق المثال في سعي تجسد قصص المجموعة حركته إلى هدفه.
ولكن هذا السعي، سواء على مستوى التجربة الشخصية أم على مستوى التجربة العامة، يخفق على أثر مواجهته للقوى التي تحرس تلك البنية الاجتماعية خالقة الحالة المتوترة، وهذا ما تجسده قصص الشقحاء في أشكال تختلف باختلاف التجربة: شخصية وعامة، وإن كانت تصدر عن رؤية ناقدة للواقع رائية إلى بديل من نهاية متوقعة، قد تكون شبيهة بنهاية شخصية قصة "النهر" أو قصة "إبحار في ذاكرة إنسان"، فالنهايتان مأساويتان ينبغي أن يقدم المجتمع العربي لإنسانه بديلاً منهما. وهذا ما يرى إليه كثير من كتابه.
الهوامش:
(1)-د.طلعت صبح السيد، دراسة في القصة القصيرة، عند محمد الشقحاء، الطائف: دار الحارثي، الطبعة الأولى.
(2)-محمد الشقحاء، الغريب، سوريا- دمشق- منشوات مجلة الثقافة.
(3)-محمد الشقحاء، الانحدار، الطائف، مطبوعات نادي الطائف الأدبي/ الطبعة الأولى، 1413هـ-1993م.
(4)-د.طلعت السيد، مصدر سابق، ص 11 و12.
(5)-المصدر نفسه.
(6)- المصدر نفسه، ص 33 و113.
(7)- المصدر نفسه، ص 35.
(8)- المصدر نفسه، ص 38.
(9)- المصدر نفسه، ص 40.
(10)- المصدر نفسه.
(11)- المصدر نفسه، ص 11.
(12)- المصدر نفسه، ص 106 و108 و109 و116 و120 و153.
(13)- المصدر نفسه، ص 79.
(14)- المصدر نفسه، ص 99 و100.
(15)-الغريب، ص 19.
(16)-راجع المصدر نفسه، ص 14 و15 و18، على سبيل المثال.
(17)- المصدر نفسه، ص 17.
(18)-راجع المصدر نفسه، ص 56، و57، على سبيل المثال.
(19)- المصدر نفسه، ص 9.
(20)- المصدر نفسه، ص 37.
(21)- المصدر نفسه، ص 48.
(22)- المصدر نفسه، ص 50.
(23)-الانحدار، مصدر سابق، ص 9.
(24)- المصدر نفسه، ص 48 و49.
(25)- المصدر نفسه، ص 19 و20.
(26)- المصدر نفسه، ص 67.
(27)- المصدر نفسه، ص 31 و22.
(28)- المصدر نفسه، ص 60.
(29)- المصدر نفسه، ص 33.
(30)- المصدر نفسه، ص 31 و32 و50 و51.
(31)- المصدر نفسه، ص 9.
(32)- المصدر نفسه، ص 22 و26 و30 و33 و49 و54 و57 و61 و67.
(33)- المصدر نفسه، ص 11 و18 و21 و44 و56.
(34)- المصدر نفسه، ص 23 و24.
(35)-راجع، مثلاً، المصدر نفسه، ص 22، حيث تبدأ الجملة الأولى بـ"اتضح" وتنتهي بعد أربعة أسطر، وحيث تبدأ جملة أخرى بـ"أخذت أفكر" وتنتهي بعد عدة أسطر أيضاً.
(36)-المصدر نفسه، ص 15 و16.
(37)- المصدر نفسه، ص 23 و24.