يقول نيتشه على لسان زرادشت «أكتب بدمك وسترى أن الدم عقل». أنْ يكتب الكاتب بالدم يعني أنه مسؤول تماما عما يقوله أمام التاريخ والجغرافيا. لأن الدم وحده هو المداد الحقيقي القادر على مواجهة الحقيقة. فثمة نداءات آتية من كل جهات هذا الوجود.
واقع الحال يقول – على الأقل بالنسبة لمن اختار الكتابة باعتبارها مشروعا وجوديا في الحياة، به وله يحيا- بأن الإبحار بالقلم في غياهب المعرفة مسؤولية عظمى وليست مجرد سياحة أو نزهة، كما يعتقد أو يتوهم البعض ممن ولجوا الكتابة من النافذة. المسؤولية، هنا، بما هي فناء الذات الكاتبة في ما تذهب إليه أو تسعى – جاهدة – إليه. جسدٌ يلج مثواه/الكتابة مثلما يلج الليل في النهار والنهار في الليل.
مخطئ من ينظر إلى الكتابة بوصفها ترفا زائدا أو مجرد متنفس في الحياة ومكملة لها، أو باعتبارها متعة فقط نلجأ إليها من أجل إظهار المهارات الخاصة في الصياغة والتفوق والقدرة على مخاتلة العيوب والنواقص، شكلا ومظهرا لا روحا وجوهرا. لا يعرف الكتابة إلا من وجد نفسه في مائها الذي لا قرار له، وهو بين أمواجها العاتية، يصارع المجهول. هي مغامرة غير مضمونة النتائج والعواقب. منسوبُ الخسارة وجواراتها فيها مرتفع جدا، وهامش الربح يكاد يكون منعدما. الكتابة معاناة ومكابدة ومسؤولية قبل كل شيء. إنها جحيم يلفح كل من قاده قدره لامتهان هذه الحرفة، بدون أن تأخذها ـ الكتابة- به شفقة ولا رحمة. ومع ذلك نجد الكاتب يعاود المحاولة/الكتابة في كل مرة، أو على الأقل يحاول ذلك، خصوصا عندما يحس بهذا العالم وهو يهوي به إلى حيث لا يعلم، أو عندما يرى الجهل يأخذنا إلى الجهل كأعمى يقود بصيرا.
النظريات الفكرية والفلسفية لما بعد الحداثة، تذهب إلى ما ذهبنا إليه منذ قليل، بخصوص الكتابة، لكن بطريقة أكثر تفلسفا وعمقا. لنأخذ مثلا المفكر إدمون جابيس الذي يرى أن الكتابة إجهاد للنفس من أجل التعبير عنها، ضد الموت والغياب. ولأن الغياب، في غالب الأحيان، هو وجهة الكلمات، فإن الكتابة بذلك هي «علامة الضياع». في هذا المنعطف، تماما، يلتقي موريس بلانشو مع إدمون جابيس، إذ يعتبران الكتابة سردا « للغياب والفقدان»، واللغة جسرا للعبور من «الحضور إلى الغياب والعكس صحيح».
إن محنة الكتابة عند إدمون جابيس ناجمة في الأساس عن تموقع اليد الكاتبة – بما هي جسد أيضا- في منطقة البين- بين. بين المعنى واللامعنى، بين الحضور والغياب. هي منطقة «أنطولوجية غير مطمئنة»، الشيء الذي يجعلها مصدر اغتراب عميق تحس به الذات الكاتبة/ المنكتبة. لحظة الاغتراب هذه، تجعل الكاتب، كذلك، سجين منطقة الجذب بين الأنا والآخر، سعيا وراء الاختلاف عن الأنا بوصفه صميما ثقافيا، بالقدر الذي تسعى فيه هذه الأنا، في الوقت نفسه، إلى تحصيل أناها الأنطولوجي. أي الأنا في انتقالها من الوجود المزيف، بتعبير هايدغر، إلى الوجود الأصيل الممتلئ بالحرية والخلق، ذاك الذي يصطدم لا محالة بالموت.
والأكيد أن المتصفح لتاريخ الكتابة والكتب منذ أمد طويل، سيجد بأنه تاريخ مرير، ذلك أن محنة الكتابة وخطورتها، قد دفعت بعض من لفحتهم نارها إلى الانتقام منها بعنف شديد، وذلك بحرق هذه الكتب برغبة مازوشية/سيكوباثية خطيرة، سواء أكان المذنب والفاعل هو الكاتب نفسه أو السلطة المركزية بوصفها متضررة من هذا الفعل. ولنا في تاريخ حرق الكتب خير شاهد. وهو باب لا نريد فتحه ولا الخوض فيه لضيق المجال. وسنكتفي بإعطاء مثال واحد من الثقافة العربية الإسلامية وتحديدا من القرن الرابع الهجري، نراه مفيدا جدا في هذا السياق.
يتعلق الأمر بالفيلسوف المتصوف والأديب البارع أبي حيان التوحيدي الذي حرق مجموعة من كتبه التي رأى فيها سببا مباشرا في محنته وشقائه، بعد أن تنكر له الجميع ووجد نفسه غريبا في عالم لم يفهم ما كان يقوله. وقد عبر عن هذا الأمر بوضوح في كتابه الموسوم بـ«الصداقة والصديق» الذي يعتبر مرجعا مهما في وقتنا الراهن لكل باحث في مفهوم الصداقة، إذ يقول فيه :»فلقد فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، ووالله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع من ترى». الأكيد أن ضريبة الكتابة في تجربة هذا الرجل، كانت قاسية جدا، ذلك أن الجميع تخلى عنه حتى أولئك الذين كان يعتبرهم أصدقاء. الأمر الذي جعله يأخذ العزلة والتصوف مسلكا يحفظه من قسوة الغربة ومحنة الكتابة. لقد أضرم أبو حيان التوحيدي النار في العديد من كتبه، بعد أن تجاوز التسعين من العمر، ولم يسلم منها إلا ما نقل قبل عملية الإحراق. فقط لأنه اعتبر الكتابة مسؤولية، ولأن المسؤولية مكلفة جدا.
هذا الأمر يقودنا في خاتمة المطاف، إلى الاعتقاد بأن الكتابة، بقدر ما هي مسؤولية تجاه ما يأتينا من نداءات هذا الوجود، بقدر ما هي جذوة لافحة في يد الكاتب، تأكل منه لكي تظل حارقة دائما وأبدا. وبدون أن يهتم أيٌّ منهما (اليد والكاتب) بمآله ومصيره.
فطوبى لمن لفحته جذوة الكتابة.
* القدس العربي
واقع الحال يقول – على الأقل بالنسبة لمن اختار الكتابة باعتبارها مشروعا وجوديا في الحياة، به وله يحيا- بأن الإبحار بالقلم في غياهب المعرفة مسؤولية عظمى وليست مجرد سياحة أو نزهة، كما يعتقد أو يتوهم البعض ممن ولجوا الكتابة من النافذة. المسؤولية، هنا، بما هي فناء الذات الكاتبة في ما تذهب إليه أو تسعى – جاهدة – إليه. جسدٌ يلج مثواه/الكتابة مثلما يلج الليل في النهار والنهار في الليل.
مخطئ من ينظر إلى الكتابة بوصفها ترفا زائدا أو مجرد متنفس في الحياة ومكملة لها، أو باعتبارها متعة فقط نلجأ إليها من أجل إظهار المهارات الخاصة في الصياغة والتفوق والقدرة على مخاتلة العيوب والنواقص، شكلا ومظهرا لا روحا وجوهرا. لا يعرف الكتابة إلا من وجد نفسه في مائها الذي لا قرار له، وهو بين أمواجها العاتية، يصارع المجهول. هي مغامرة غير مضمونة النتائج والعواقب. منسوبُ الخسارة وجواراتها فيها مرتفع جدا، وهامش الربح يكاد يكون منعدما. الكتابة معاناة ومكابدة ومسؤولية قبل كل شيء. إنها جحيم يلفح كل من قاده قدره لامتهان هذه الحرفة، بدون أن تأخذها ـ الكتابة- به شفقة ولا رحمة. ومع ذلك نجد الكاتب يعاود المحاولة/الكتابة في كل مرة، أو على الأقل يحاول ذلك، خصوصا عندما يحس بهذا العالم وهو يهوي به إلى حيث لا يعلم، أو عندما يرى الجهل يأخذنا إلى الجهل كأعمى يقود بصيرا.
النظريات الفكرية والفلسفية لما بعد الحداثة، تذهب إلى ما ذهبنا إليه منذ قليل، بخصوص الكتابة، لكن بطريقة أكثر تفلسفا وعمقا. لنأخذ مثلا المفكر إدمون جابيس الذي يرى أن الكتابة إجهاد للنفس من أجل التعبير عنها، ضد الموت والغياب. ولأن الغياب، في غالب الأحيان، هو وجهة الكلمات، فإن الكتابة بذلك هي «علامة الضياع». في هذا المنعطف، تماما، يلتقي موريس بلانشو مع إدمون جابيس، إذ يعتبران الكتابة سردا « للغياب والفقدان»، واللغة جسرا للعبور من «الحضور إلى الغياب والعكس صحيح».
إن محنة الكتابة عند إدمون جابيس ناجمة في الأساس عن تموقع اليد الكاتبة – بما هي جسد أيضا- في منطقة البين- بين. بين المعنى واللامعنى، بين الحضور والغياب. هي منطقة «أنطولوجية غير مطمئنة»، الشيء الذي يجعلها مصدر اغتراب عميق تحس به الذات الكاتبة/ المنكتبة. لحظة الاغتراب هذه، تجعل الكاتب، كذلك، سجين منطقة الجذب بين الأنا والآخر، سعيا وراء الاختلاف عن الأنا بوصفه صميما ثقافيا، بالقدر الذي تسعى فيه هذه الأنا، في الوقت نفسه، إلى تحصيل أناها الأنطولوجي. أي الأنا في انتقالها من الوجود المزيف، بتعبير هايدغر، إلى الوجود الأصيل الممتلئ بالحرية والخلق، ذاك الذي يصطدم لا محالة بالموت.
والأكيد أن المتصفح لتاريخ الكتابة والكتب منذ أمد طويل، سيجد بأنه تاريخ مرير، ذلك أن محنة الكتابة وخطورتها، قد دفعت بعض من لفحتهم نارها إلى الانتقام منها بعنف شديد، وذلك بحرق هذه الكتب برغبة مازوشية/سيكوباثية خطيرة، سواء أكان المذنب والفاعل هو الكاتب نفسه أو السلطة المركزية بوصفها متضررة من هذا الفعل. ولنا في تاريخ حرق الكتب خير شاهد. وهو باب لا نريد فتحه ولا الخوض فيه لضيق المجال. وسنكتفي بإعطاء مثال واحد من الثقافة العربية الإسلامية وتحديدا من القرن الرابع الهجري، نراه مفيدا جدا في هذا السياق.
يتعلق الأمر بالفيلسوف المتصوف والأديب البارع أبي حيان التوحيدي الذي حرق مجموعة من كتبه التي رأى فيها سببا مباشرا في محنته وشقائه، بعد أن تنكر له الجميع ووجد نفسه غريبا في عالم لم يفهم ما كان يقوله. وقد عبر عن هذا الأمر بوضوح في كتابه الموسوم بـ«الصداقة والصديق» الذي يعتبر مرجعا مهما في وقتنا الراهن لكل باحث في مفهوم الصداقة، إذ يقول فيه :»فلقد فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، ووالله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع من ترى». الأكيد أن ضريبة الكتابة في تجربة هذا الرجل، كانت قاسية جدا، ذلك أن الجميع تخلى عنه حتى أولئك الذين كان يعتبرهم أصدقاء. الأمر الذي جعله يأخذ العزلة والتصوف مسلكا يحفظه من قسوة الغربة ومحنة الكتابة. لقد أضرم أبو حيان التوحيدي النار في العديد من كتبه، بعد أن تجاوز التسعين من العمر، ولم يسلم منها إلا ما نقل قبل عملية الإحراق. فقط لأنه اعتبر الكتابة مسؤولية، ولأن المسؤولية مكلفة جدا.
هذا الأمر يقودنا في خاتمة المطاف، إلى الاعتقاد بأن الكتابة، بقدر ما هي مسؤولية تجاه ما يأتينا من نداءات هذا الوجود، بقدر ما هي جذوة لافحة في يد الكاتب، تأكل منه لكي تظل حارقة دائما وأبدا. وبدون أن يهتم أيٌّ منهما (اليد والكاتب) بمآله ومصيره.
فطوبى لمن لفحته جذوة الكتابة.
* القدس العربي