وقف في الطابور مع بقيّة الخلق، إنه اليوم الثالث على التوالي الذي يدحرج فيه جرَّته
إلى الأمام كلما آثرت الرجوع إليه هكذا إلى أن يصل إلى مركز توزيع الغاز، كما أنّه الوعد الألف على التوالي بأن حِملَ الغاز سيصل اليوم من معمل التعبئة، لقد سمع أحدهم يقول:
- إن المسلّحين قطعوا خط الغاز ولم يصل شيء إلى...
وحدي من سمع همس الشظايا حين سمع الجميع أصوات الصراخ وتجبُّر الرُعب الذي نصبَ رحاله في سوق الخضار، كان يوماً سورياً هادئاً – أو هكذا بدا لي – ابتعدت فيه عن زحمة الأخبار، فضلتُ الابتعاد عن شبكات التواصل الاجتماعي التي عزلتني عن كل شيء وأسرتني بين تغريداتها ومنشوراتها وصورها لدهر.
قررتُ يومها أن...
مقهور... مكسور... ومشبع بالحزن، بت أمتصه كما يمتص الإسفنج الماء، أو كأرض متعطشة للمطر. أمشي في شوارع هذه المدينة باحثاً عن صدر أمي لأرتمي عليه..وعن يدها الدافئة لتمسح بها على شعري وتقول لي بأنني كنزها وهبة الله لها الأبدية ولكن هذه المدينة أصبحت قاسية تعرف بإتقان كيف ومتى تسرق منا...
تركت الحقيبة فوق سريري وقد فتحت فمها لابتلاع كل ما أرميه في عمقها، وجلست بجانبها أنقل نظري بينها وبين باب خزانتي القديمة التي ملأتها فيما مضى بالملابس والعطور وكل ما يمكن أن يتخيله عقل أنثى، ما زال الكثير من الفساتين والقمصان معلقاً لم يمسسه بشر بعدما هجرته، فقد اعتبرت أمي مسألة إعطاء ملابسي لمن...
الريح شمالية، والمطر غزير يرشق كل خبء يمكن للفئران أن تحتمي به، بما في ذلك الشرفة التي اجتمع تحتها عدة رجال، حُشر بينهم منتظراً الباص معهم.
البرد قارس، لم يدرأه عنه معطفه السميك الذي ورثه على التتالي من والده الذي أخذه عن جده.
أغمض عينيه باحثاً في ذاكرته عن دفئها، غير أن الصوت القوي المفاجئ...
وجهي احترق
جسدي مثخن بالجراح... وروحي متهالكة!
أقف أمام مرآتي وذلك الصوت العابر للسنوات الست يصم أذني، ألمح في المرآة رفات امرأة تتنفس! هذا ما بقي مني، مرآتي يا مرآتي! من هذه الغريبة التي أراها في قلبك؟ فتجيب بوقاحتها المعهودة! أرى الانعكاس بركانا يتهيأ للإنفجار وتدمير كل شىء في دربه...غير...
مرت عمي، يا مرت عمي.
هكذا كان يناديها حين يضربه الأولاد أو حين يلاحقه كلب الجار العجوز الذي يلتهمها بنظراته كلما عبرت الطريق أمامه أو كلما رآها تهرع ملهوفة نحو هذا الصبي الصغير الذي تحولت شقاوته إلى مرارة ممتعة فيها من العبء ما ينهك، وفيها من اللذة ما يُنسي شقاء ما كان.
تركض بلهفة نحوه، تضرب...