نحن الآن أمام شاعرين قذف بهما إلى غياهب السجن، ورسفا في القيود والأصفاد قدرا من الزمان، فلجأ كلاهما إلى القريض يبثه وجده، ويطارحه أساه!
والسجن رهيب موحش، ترتعد له الفرائص، وتقشعر منه الأبدان، وكما يفزع الأسد المكبل في قفصه الحديدي، فكذال يفزع الشجاع الصنديد حين يهاجمه الظلام في بقعة لا يراوحها...
أما حافظ فقد جعل الأم مدرسة كصاحبه، وزاد فرفعها إلى قمة عالية فكانت عنده أستاذ الأساتذة الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، كما شبهها بروض زاهر، فذكر أنها ليست أثاثا يقتنى في الدور ولا درراً تصان في الأحقاق، فيجب أن تتبوأ مكانها في المجتمع. وهو مع هذه الصيحة يحتاط أكمل احتياط، وينظر إلى البداية...
سنتكلم اليوم عن الغزل السافر ونعني به ما قالته المرأة، لتذيع غرامها على رءوس الأشهاد، فينقله عنها البعيد والقريب، فهي إذن لا تخشى ملامة أو مسبة، بل تقدم جريئة على تحمل ما يهددها في موقفها الجريء.
ونعلن بادئ ذي بدء أننا لن نتعرض إلى غزل الجواري فيما نحن بصدده من الحديث، لأننا نبحث عن النسيب...
شعر المرأة في مجموعة قليل ضئيل فأنت تجد الموسوعات الأدبية تزخر بأشعار الرجال في شتى المواضيع، دون أن تطلع للمرأة غير البيتين أو الثلاثة في الفصل الطويل، ولا يرجع ذلك غبن أو تقصير في جنب المرأة كما قد يتوهم فريق من الناس، بل لأن المؤلف يحرص على أن يختار لقرائه أنفس ما وقعتعلية عينيه من رائع...
كتب بديع الزمان الهمذاني مقاماته الذائعة، فكانت نهجاً ممتازاً في الأدب العربي، وقد حاول تالوه أن يلحقوا به فما استطاعوا، لأنه كان يتحدث عن مشاعر صادقة تموج في نفسه، وكان يرصد أبعاداً نائية يحاول تقريبها لمن لا يراها في مجتمعه الجائش المضطرب، وقد خفي ذلك عن مقلديه فظنوا مقامات الهمذاني تمريناً...