وديع فلسطين حبشي
1-ميلاده، ونشأته، وتعليمه:
ولد وديع في بلدة "أخميم" التابعة لمديرية "جرجا" في أول أكتوبر(تشرين الأول) عام 1923 لأبوين مصريين صعيديين، وكان أبوه "فلسطين حبشي" موظفا في حكومة السودان، فسافر بعيد مولده في رفقة والديه إلى "عطبرة" بالسودان، ومكث هناك إلى عام 1930م عندما أحيل أبوه إلى المعاش، وسافر إلى مصر ليتقاعد هناك.
يقول لي (في رسالته المؤرخة في 17/9/1978): "وبعد سنوات الطفولة التي قضيتها في السودان حيث كان يعمل والدي موظفاً في الحكومة وحيث دخلت رياض الأطفال الفرنسية، انتقلنا إلى القاهرة، وأقمت فيها إلى هذا اليوم. ولم تزد صلتي بالصعيد على الشهر الأول من عُمري. وعلى الرغم من هذه الصعيدية الأصيلة في نشأتي، فقد عشت كل عمري والناس يسألونني: متى هاجرت من فلسطين؟ قبل النكبة أو بعدها؟ وأنا لا أعرف فلسطين إلا من كتب الجغرافيا، فلا زرتها في أيام فلسطينيتها الأولى، ولا زرتُها بعد أن تغيَّرتْ أسماؤها إلى الضفة الغربية وغزة والقدس العربية والقـدس المحتلة وإسرائيل، ولا سبب لهذا الخلط إلا أن أبي كان اسمه فلسطين حبشي (وياله من خليط جغرافي كاريكاتوري)".
وفي العام التالي أي سنة 1931م توفي أبوه، ولم تكن سنه إذ ذاك تزيد على ثماني سنين، فعاش في رعاية أمـه، وفي كنف أسرته حتى أتم دراسته وخرج إلى الحياة العملية.
يقول عن تعليمه في الرسالة السابقة نفسِها: "أما تعليمي، فقد قضيت سني الدراسة الابتدائية في مدرسة الجيزة الابتدائية الأميرية ،وسني الدراسة الثانوية في المدرسة الإنجليزية للبنين في جزيرة الروضة، والدراسة الجامعية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة حيث درست الأدب مع التخصص في الصحافة، ونلت درجة البكالوريوس في الأدب والصحافة سنة 1942م، وكان عمري أقل من 19عاماً".
2-وظائفه:
تخرج وديع فلسطين في قسم الصحافة من الجامعة الأمريكية عام 1942م، وفور تخرجه عمل بجريدة "الأهرام"، وفي الفترة ما بين (أول مارس 1945-ديسمبر 1952م) عمل محررا في "المقطم" و"المقتطف"، فرئيساً للقسم الخارجي بالمقطم ، فمحرره السياسي والدبلوماسي، وناقده الأدبي، ومعلقه الاقتصادي وممثله في المؤتمرات الصحفية حتى انتهى به الأمر إلى ممارسته لجميع اختصاصات رئيس التحرير دون أن يُكتب اسمه بهذه الصفة على "ترويسة" الجريدة (كما يقول في رسالته المؤرخة في 23/3/1975م).
ولقد نشر في "المقتطف" عشرات المقالات والدراسات (تأليفاً وترجمةً) كما كتب فصولاً في العلوم، والنقد الأدبي، والقصة، وكان القارئ يجد له في العدد الواحد أكثر من مادة منشورة.
ويقول (في رسالته السابقة):
"في السنين الأربع الأخيرة من عمر دار المقطّم والمقتطف عُيِّن لها مجلس إدارة من أعضائها، فكنت عضواً في ذلك المجلس، وكانت لي بذلك هيمنة شبه كاملة على الدار، مع أني كنت أصغر الأعضاء سنا، وذلك بسبب ما دان لي من شُهرة، ثم بسبب تنوُّع ثقافاتي، و"سيولة" قلمي، حتى كنت أكتب بمفردي أكثر من ثلاث صفحات يوميا في "المقطم"، وهو جريدة بحجم الأهرام، وكنت إلى جانب ذلك أحرر في "المقتطف"، وأكتب في مجلات العالم العربي الأدبية، وأُدرِّس الصحافة في الجامعة الأمريكية، وأُحاضر في الجمعيات والندوات، وأُشرف على الشؤون الإدارية والتحريرية للدار!".
يقول عن عمله بالصحافة (في رسالته المؤرخة في 17/9/1978):
"كان طبيعيا أن أشتغل بالصحافة، وأنا من أوائل المصريين الذين يحملون درجة عالية في هذا الفن … ومن هنا أطللت على الحياة الأدبية والحياة العامة صحفيا في بادئ الأمر، ثم متأدبـاً، وكان مجتمع "المقتطف" هو أول احتكاك عملي لي بأدباء العالم العربي على أوسع نطاق، وهم قد كانوا يزوروننا في ندوة الجمعة، أو على مدار أيام الأسبوع، فانعقدت بيني وبين أعلامهم صلة وُثقى رَفَدَتْ حياتي الأدبية بما لا سبيل إلى حصر آثاره".
وقد عمل وديع فلسطين بعد عام 1952م في وظائف تتعلق بالترجمة مما شغله عما كان يريد إنجازه في الأدب، يقول (في رسالته المؤرخة في 25/2/1975م):
"… والحقيقة أنني وإن كنت "سيّال القلم" كما وصفني أمس نائب رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، فإنني أعد نفسي مقلا بالنسبة لما كنت أكتبه وأنا في أول الشباب، ثم بالنسبة لما في ذهني من موضوعات أحب الكتابة فيها ورغبات أشتاق إلى تنفيذها. ولكنني مضطر إلى صرف نحو 18 ساعة يوميا في العمل المتصل برزقي، وعليَّ أن أتدرَّع من إنـكشاريات الحياة التي تُطاردني … وتُعكِّر صفاء ذهني، فلا يبقى لي بعد ذلك من الوقت أو الجهد أو صفاء البال ما تهون معه تأدية تبعات الأدب على الوجه الذي أُحب".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 2/4/1990م) عن عمله في مجال الترجمة الذي لا يُباريه فيه أحدٌ من الأحياء الآن:
"كان صديقي خليل مطران يقول:
أُخـْلي مكاني للّذي يسمو إليهِ بغيرِ حُزنِ
لا تندبنّي للعظائم بعدهـــا، لا تندبنِّي
وإني مثله قد أخليت مكاني وانسحبت من الميادين جميعاً وحسبي أنني أجري الآن في ميدان لا يُباريني فيه أحد [يقصد ميدان الترجمة]، ولو كانت له جائزة أوليمبية لظفرت بها ربما وحدي".
3-ثقافته:
سألت الأستاذ وديع فلسطين عن مصادر ثقافته، والكتب التي قرأها في مطلع حياته، فقال (في رسالته المؤرخة في 30/9/1975م): "إن مطالعاتي في أول عهدي بالحياة كانت مطـالعات باللغات الأجنبية، وكانت تتناول جميع فروع المعرفة، أدباً وعلماً وعلم نفس واقتصاداً وسياسةً وتراجم … وما إلى ذلك، أما قراءاتي العربية فكانت تسير على غير منهاج مقرر؛ فقد أُطالع كتاباً إنكليزيا في علم النفس، فيقودني حب الاستطلاع إلى معرفة المرادف العربي للمصطلحات الإنكليزية، فأعكف على قراءة كتاب عربي وهمي الأول المقارنة بين المصطلحات ومعرفة مدى توفيق الكاتب في ترجمتها".
"وقد أكون في مجلس من مجالس الأدب، فيُشير واحد من الحاضرين إلى أديب لبناني اسمه أمين نخلة لم يسبق لي أن سمعت باسمه، فأحاول تلافياً لتقصيري وجهلي اقتناء جميع كتبه ودواوينه وقراءاتها. وكنت أعمل نفس الشيء بالنسبة للأدباء المختلفين، فأشتري جميع كتب المازني وأطالعها الواحد بعد الآخر. ثم أنتقل إلى طه حسين، وسلامة موسى، والمنفلوطي، وشوقي … وهلم جرا".
"كما أن هناك كتباً كانت تأتيني من المؤلفين بحكم اشتغالي "بالمقطم"، وهذه كنت أقرأها مهما يكن موضوعها، متوخِّياً أن أُتابع المصطلحات والألفاظ العلمية وكيفية سكِّها على أيدي المؤلفين المختلفين".
"و لعلك لا تصدِّق أني منذ تخرجت في الجامعة عام 1942م، وأنا لا أمشي في الشارع إلا ومعي كتاب، أقرأه في الترام أو في الأتوبيس أو في المقهى أو في الشارع أو في انتظار "ركوبتي". وعندما كانت لديّ سيارة وسائق، كنت أصرف الوقت من بيتي إلى مكتبي أو إلى مواعيدي في القراءة. ومعنى هذا أنني كنت وما زلت أشتري الكتب بالعشرات، عدا ما يأتيني هدية من القراء والمؤلفين. وكانت سنوات عمري الأولى تتسع للكتابة في الصحف تعريفاً بكل كتاب أطالعه، أما الآن فقد صار مُتعذِّراً عليّ أن أكتب عن كل كتاب فصلا مستقلا. ولعل لديّ مئات من المقالات في نقد الكتب والتعريف بها نشرتها في صحف كثيرة "كالمقتطف"، و"الأديب"، و"المقطم"، و"الآداب"، و"العلوم"، و"اليقظة العربية" السورية، و"منبر الشرق"، … إلخ".
"كما أن مطالعاتي كانت تتغير وفقاً لاهتماماتي اليومية؛ فعندما كنت غارقاً في الصحافة كانت تستهويني كتب السياسة ولا سيما كتب المذكرات الخاصة للزعماء مثل: روزفلت، وترومان، ومنتغمري، وتشرشل، وآتلي، ومكملان، وفورستال … وسواهم. كما كانت تهمني ـ بوجه خاص ـ الكتب التي تتناول الشرق الأوسط. ولما انصرف اهتمامي إلى الاقتصاد كثرت مطالعاتي في كتب الاقتصاد ولا سيما التي تتناول البترول والقطن والمواد الخام ومشكلات النقد وكتب فلاسفة الاقتصاد الجدد".
"ولئن غلب عليّ الآن المطالعات الأدبية، فما زلت أجد متسعاً من الوقت لقراءة الكتب العلمية (وأفضلها كتب فؤاد صرُّوف) وكتب الاقتصاد وعلم النفس والكتب التي تتنـاول الصحافة وعلومها وتاريخها وفنونها. وهكذا ترى يا أخي أنني سأموت وعلى صدري كتاب كالجاحظ قديماً وسلامة موسى حديثاً".
ولقد دخل الأديب وديع فلسطين الأدب من باب الصحافة، فحينما عمل في مطلع حياته العملية بصحيفة " المقطم" ومجلة "المقتطف" مارس هواية الأدب ممارسةً جادة، يقول (في رسالته المؤرخة في 23/4/1975م): "يوم أن كنت أعمل بالصحافة لم تفتني مناسبة أدبية دون الكتابة فيها على الفور، فرثيت خليل مطران والمازني وأبا شادي ومَن عرفت من المستشرقين، وتـحدثت عن كل كتاب صدر وأُتيحت لي فرصة مطالعته، ولخصت كل محاضرة أدبية سمعتها، وسجلت كل ما ترامى إليَّ من أخبار الأدب، واحتفيت بكل أديب عربي زائر لمصر، وشاركت في كل معركة أدبية".
وظل على ذلك حتى عام 1952م حتى احتجبت "المقطم" و"المقتطف"، وباحتجابهما احتجب الأديب المصري الكبير وديع فلسطين عن الحياة الأدبية فترة من الزمن، وقد سألته في إحدى رسائلي عن السبب، فأجـاب (في رسالته المؤرخة في 23/3/1975م): "أما سؤالك عن سبب احتجابي عن الحياة الأدبية في مصر، فلا أهتم بنشر كتاب، ولا أحرر في "الهلال" أو "الثقافة" أو "الجديد" … وردي على هذا أن الحياة قد توَّبتني عن طلب الشهرة في مصر، بعدما رأيت أن الهيئتين الوحيدتين اللتين تحاسبانني على هذه الشهرة همـا هيئة الضرائب بما تتوهّمه من عشرات الآلاف التي تعود عليَّ من الأدب كل عام، وهيئة مباحث أمن الدولـة العليا التي مازالت تسلِّط عليَّ مخبريها وتراقب تليفونـاتي وبريدي وكأنني أعتى مجرمي الدنيا. أما هيئات الثقافة بجميع أسمائها ومسمياتها، فهي وإن عرفتني بجميع أعضائها، فلا تعرفني بتشكيلها الرسمي وأجهزتها الحكومية. ولهذا آثرت أن أُهاجر بكل حرف أكتبه إلى الخارج، ولاسيما إلى مجلة "الأديب" التي ترحب بكل ما أُوافيها به منذ ثلاثين عاماً، وما دام الأدب مبتوت الصـلة برزقي، وما دمت أطل على الحياة الأدبية باعتبار ذلك مجرد هواية، فهذا حسبي".
لقد أغلقت مجلة "المقتطف" وجريدة"المقطم" في عام 1952م، وقد أثر هذا الإغلاق على نفسية وديع فلسطين ، يقول (في رسالته المؤرخة في 3/4/1975م):
"أرجو ألا تنسى أن الجيل الذي أنتمي إليه قد فُجع أشد فجيعة في جميع قيمه العليا حين رأى جميع كُوى الثقافة تُوصد في عنف وبلا رحمة في وجهه. لقد كانت لنا في أول الشباب مجلات مثل "المقتطف" و"مجلة علم النفس" و"الرسالة" و"الثقافة" و"الكاتب المصري" و"الكتاب" و"العالم العربي"، فلما جاء العسكر، مـاتت هذه المجلات جميعاً دون أن تنذرف عليها دمعة. وكانت لنا في مطالع العمر منابر يتحدث منها أعلام المفكرين في عصرنا: منبر في الجامعة الأمريكية، ومنبر في جمعية الشبان المسلمين، ومنبر في الجمعية الجغرافية، ومنبر في جمعية الاقتصـاد السياسي والتشريع، ومنبر في جمعية الشبان المسيحية، ومنبر في نادي دار العلوم، ومنبر في رابطة الأدباء، و[منبر في] رابطة الموظفين، فجاء العسكر وبطشوا بهذه المنابر جميعاً وبالمتحدثين منها. ثم كانت هناك ندوات أدبية، فصار روَّادها من المُخبرين أكثر من روادها من الأدباء، وسرعان ما زُج بجميع أعضائها في السجون نميمةً وغدراً. وكنا يا صاحبي نقرأ الكتب والمجلات الإفرنجية بُعيْد صدورها، نراها تملأ المكتبات، ونشترك فيها مقابل بدلات معتدلة، وباسم الرقابة، وباسم النقد النادر، وباسم الوقاية من السموم المبثوثة في هذه الكتب، مُنعت منعاً باتًّا من دخول مصر، فانعزلنا عن العالم تماما".
" كل هذا حدث في جيلنا، ولا بدّ أن نصارح أنفسنا ونصارح الدنيا بحقيقته، فكان طبيعيا أن نهجر الثقافة، لاسيّما ونحن نرى الدولة بأجهزتها تعدُّ الثقافة جريمة شنعاء، ونحن نرى جميع المفكرين يُبطش بهم أشد بطش، فيقررون الهجرة فراراً من هذا الجحيم. وأنا شخصياً هاجرت كما هاجر مئات من أساتذة الجـامعات، ولولا تغيُّر الظروف لما عدت، ولما عاد منهم من عاد".
ومما يدل على ثقافة وديع فلسطين العالية أنه أجرى عدداً من الحوارات مع أعلام بارزين في مجالات مختلفة أثناء عمله في "المقطم" و"المقتطف". يقول (في رسالته المؤرخة في22/10/1976م):
"الذين أجريت أحاديث معهم وأنا في دار "المقطم" و"المقتطف" كثيرون، منهم نهرو، ولياقت علي خان، وكريشنا مينون، وألدوس هكسلي، وويل ديورانت (صـاحب كتاب "قصة الحضارة")، والأمير عبد الكريم الخطابي، والعالم عبد الفتاح جوهر، والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، وأحمد حلمي باشا رئيس وزراء فلـسطين، وعشرات من زعماء العرب الذين كانوا يزورون مصر في تلك الفترة".
1-ميلاده، ونشأته، وتعليمه:
ولد وديع في بلدة "أخميم" التابعة لمديرية "جرجا" في أول أكتوبر(تشرين الأول) عام 1923 لأبوين مصريين صعيديين، وكان أبوه "فلسطين حبشي" موظفا في حكومة السودان، فسافر بعيد مولده في رفقة والديه إلى "عطبرة" بالسودان، ومكث هناك إلى عام 1930م عندما أحيل أبوه إلى المعاش، وسافر إلى مصر ليتقاعد هناك.
يقول لي (في رسالته المؤرخة في 17/9/1978): "وبعد سنوات الطفولة التي قضيتها في السودان حيث كان يعمل والدي موظفاً في الحكومة وحيث دخلت رياض الأطفال الفرنسية، انتقلنا إلى القاهرة، وأقمت فيها إلى هذا اليوم. ولم تزد صلتي بالصعيد على الشهر الأول من عُمري. وعلى الرغم من هذه الصعيدية الأصيلة في نشأتي، فقد عشت كل عمري والناس يسألونني: متى هاجرت من فلسطين؟ قبل النكبة أو بعدها؟ وأنا لا أعرف فلسطين إلا من كتب الجغرافيا، فلا زرتها في أيام فلسطينيتها الأولى، ولا زرتُها بعد أن تغيَّرتْ أسماؤها إلى الضفة الغربية وغزة والقدس العربية والقـدس المحتلة وإسرائيل، ولا سبب لهذا الخلط إلا أن أبي كان اسمه فلسطين حبشي (وياله من خليط جغرافي كاريكاتوري)".
وفي العام التالي أي سنة 1931م توفي أبوه، ولم تكن سنه إذ ذاك تزيد على ثماني سنين، فعاش في رعاية أمـه، وفي كنف أسرته حتى أتم دراسته وخرج إلى الحياة العملية.
يقول عن تعليمه في الرسالة السابقة نفسِها: "أما تعليمي، فقد قضيت سني الدراسة الابتدائية في مدرسة الجيزة الابتدائية الأميرية ،وسني الدراسة الثانوية في المدرسة الإنجليزية للبنين في جزيرة الروضة، والدراسة الجامعية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة حيث درست الأدب مع التخصص في الصحافة، ونلت درجة البكالوريوس في الأدب والصحافة سنة 1942م، وكان عمري أقل من 19عاماً".
2-وظائفه:
تخرج وديع فلسطين في قسم الصحافة من الجامعة الأمريكية عام 1942م، وفور تخرجه عمل بجريدة "الأهرام"، وفي الفترة ما بين (أول مارس 1945-ديسمبر 1952م) عمل محررا في "المقطم" و"المقتطف"، فرئيساً للقسم الخارجي بالمقطم ، فمحرره السياسي والدبلوماسي، وناقده الأدبي، ومعلقه الاقتصادي وممثله في المؤتمرات الصحفية حتى انتهى به الأمر إلى ممارسته لجميع اختصاصات رئيس التحرير دون أن يُكتب اسمه بهذه الصفة على "ترويسة" الجريدة (كما يقول في رسالته المؤرخة في 23/3/1975م).
ولقد نشر في "المقتطف" عشرات المقالات والدراسات (تأليفاً وترجمةً) كما كتب فصولاً في العلوم، والنقد الأدبي، والقصة، وكان القارئ يجد له في العدد الواحد أكثر من مادة منشورة.
ويقول (في رسالته السابقة):
"في السنين الأربع الأخيرة من عمر دار المقطّم والمقتطف عُيِّن لها مجلس إدارة من أعضائها، فكنت عضواً في ذلك المجلس، وكانت لي بذلك هيمنة شبه كاملة على الدار، مع أني كنت أصغر الأعضاء سنا، وذلك بسبب ما دان لي من شُهرة، ثم بسبب تنوُّع ثقافاتي، و"سيولة" قلمي، حتى كنت أكتب بمفردي أكثر من ثلاث صفحات يوميا في "المقطم"، وهو جريدة بحجم الأهرام، وكنت إلى جانب ذلك أحرر في "المقتطف"، وأكتب في مجلات العالم العربي الأدبية، وأُدرِّس الصحافة في الجامعة الأمريكية، وأُحاضر في الجمعيات والندوات، وأُشرف على الشؤون الإدارية والتحريرية للدار!".
يقول عن عمله بالصحافة (في رسالته المؤرخة في 17/9/1978):
"كان طبيعيا أن أشتغل بالصحافة، وأنا من أوائل المصريين الذين يحملون درجة عالية في هذا الفن … ومن هنا أطللت على الحياة الأدبية والحياة العامة صحفيا في بادئ الأمر، ثم متأدبـاً، وكان مجتمع "المقتطف" هو أول احتكاك عملي لي بأدباء العالم العربي على أوسع نطاق، وهم قد كانوا يزوروننا في ندوة الجمعة، أو على مدار أيام الأسبوع، فانعقدت بيني وبين أعلامهم صلة وُثقى رَفَدَتْ حياتي الأدبية بما لا سبيل إلى حصر آثاره".
وقد عمل وديع فلسطين بعد عام 1952م في وظائف تتعلق بالترجمة مما شغله عما كان يريد إنجازه في الأدب، يقول (في رسالته المؤرخة في 25/2/1975م):
"… والحقيقة أنني وإن كنت "سيّال القلم" كما وصفني أمس نائب رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، فإنني أعد نفسي مقلا بالنسبة لما كنت أكتبه وأنا في أول الشباب، ثم بالنسبة لما في ذهني من موضوعات أحب الكتابة فيها ورغبات أشتاق إلى تنفيذها. ولكنني مضطر إلى صرف نحو 18 ساعة يوميا في العمل المتصل برزقي، وعليَّ أن أتدرَّع من إنـكشاريات الحياة التي تُطاردني … وتُعكِّر صفاء ذهني، فلا يبقى لي بعد ذلك من الوقت أو الجهد أو صفاء البال ما تهون معه تأدية تبعات الأدب على الوجه الذي أُحب".
ويقول (في رسالته المؤرخة في 2/4/1990م) عن عمله في مجال الترجمة الذي لا يُباريه فيه أحدٌ من الأحياء الآن:
"كان صديقي خليل مطران يقول:
أُخـْلي مكاني للّذي يسمو إليهِ بغيرِ حُزنِ
لا تندبنّي للعظائم بعدهـــا، لا تندبنِّي
وإني مثله قد أخليت مكاني وانسحبت من الميادين جميعاً وحسبي أنني أجري الآن في ميدان لا يُباريني فيه أحد [يقصد ميدان الترجمة]، ولو كانت له جائزة أوليمبية لظفرت بها ربما وحدي".
3-ثقافته:
سألت الأستاذ وديع فلسطين عن مصادر ثقافته، والكتب التي قرأها في مطلع حياته، فقال (في رسالته المؤرخة في 30/9/1975م): "إن مطالعاتي في أول عهدي بالحياة كانت مطـالعات باللغات الأجنبية، وكانت تتناول جميع فروع المعرفة، أدباً وعلماً وعلم نفس واقتصاداً وسياسةً وتراجم … وما إلى ذلك، أما قراءاتي العربية فكانت تسير على غير منهاج مقرر؛ فقد أُطالع كتاباً إنكليزيا في علم النفس، فيقودني حب الاستطلاع إلى معرفة المرادف العربي للمصطلحات الإنكليزية، فأعكف على قراءة كتاب عربي وهمي الأول المقارنة بين المصطلحات ومعرفة مدى توفيق الكاتب في ترجمتها".
"وقد أكون في مجلس من مجالس الأدب، فيُشير واحد من الحاضرين إلى أديب لبناني اسمه أمين نخلة لم يسبق لي أن سمعت باسمه، فأحاول تلافياً لتقصيري وجهلي اقتناء جميع كتبه ودواوينه وقراءاتها. وكنت أعمل نفس الشيء بالنسبة للأدباء المختلفين، فأشتري جميع كتب المازني وأطالعها الواحد بعد الآخر. ثم أنتقل إلى طه حسين، وسلامة موسى، والمنفلوطي، وشوقي … وهلم جرا".
"كما أن هناك كتباً كانت تأتيني من المؤلفين بحكم اشتغالي "بالمقطم"، وهذه كنت أقرأها مهما يكن موضوعها، متوخِّياً أن أُتابع المصطلحات والألفاظ العلمية وكيفية سكِّها على أيدي المؤلفين المختلفين".
"و لعلك لا تصدِّق أني منذ تخرجت في الجامعة عام 1942م، وأنا لا أمشي في الشارع إلا ومعي كتاب، أقرأه في الترام أو في الأتوبيس أو في المقهى أو في الشارع أو في انتظار "ركوبتي". وعندما كانت لديّ سيارة وسائق، كنت أصرف الوقت من بيتي إلى مكتبي أو إلى مواعيدي في القراءة. ومعنى هذا أنني كنت وما زلت أشتري الكتب بالعشرات، عدا ما يأتيني هدية من القراء والمؤلفين. وكانت سنوات عمري الأولى تتسع للكتابة في الصحف تعريفاً بكل كتاب أطالعه، أما الآن فقد صار مُتعذِّراً عليّ أن أكتب عن كل كتاب فصلا مستقلا. ولعل لديّ مئات من المقالات في نقد الكتب والتعريف بها نشرتها في صحف كثيرة "كالمقتطف"، و"الأديب"، و"المقطم"، و"الآداب"، و"العلوم"، و"اليقظة العربية" السورية، و"منبر الشرق"، … إلخ".
"كما أن مطالعاتي كانت تتغير وفقاً لاهتماماتي اليومية؛ فعندما كنت غارقاً في الصحافة كانت تستهويني كتب السياسة ولا سيما كتب المذكرات الخاصة للزعماء مثل: روزفلت، وترومان، ومنتغمري، وتشرشل، وآتلي، ومكملان، وفورستال … وسواهم. كما كانت تهمني ـ بوجه خاص ـ الكتب التي تتناول الشرق الأوسط. ولما انصرف اهتمامي إلى الاقتصاد كثرت مطالعاتي في كتب الاقتصاد ولا سيما التي تتناول البترول والقطن والمواد الخام ومشكلات النقد وكتب فلاسفة الاقتصاد الجدد".
"ولئن غلب عليّ الآن المطالعات الأدبية، فما زلت أجد متسعاً من الوقت لقراءة الكتب العلمية (وأفضلها كتب فؤاد صرُّوف) وكتب الاقتصاد وعلم النفس والكتب التي تتنـاول الصحافة وعلومها وتاريخها وفنونها. وهكذا ترى يا أخي أنني سأموت وعلى صدري كتاب كالجاحظ قديماً وسلامة موسى حديثاً".
ولقد دخل الأديب وديع فلسطين الأدب من باب الصحافة، فحينما عمل في مطلع حياته العملية بصحيفة " المقطم" ومجلة "المقتطف" مارس هواية الأدب ممارسةً جادة، يقول (في رسالته المؤرخة في 23/4/1975م): "يوم أن كنت أعمل بالصحافة لم تفتني مناسبة أدبية دون الكتابة فيها على الفور، فرثيت خليل مطران والمازني وأبا شادي ومَن عرفت من المستشرقين، وتـحدثت عن كل كتاب صدر وأُتيحت لي فرصة مطالعته، ولخصت كل محاضرة أدبية سمعتها، وسجلت كل ما ترامى إليَّ من أخبار الأدب، واحتفيت بكل أديب عربي زائر لمصر، وشاركت في كل معركة أدبية".
وظل على ذلك حتى عام 1952م حتى احتجبت "المقطم" و"المقتطف"، وباحتجابهما احتجب الأديب المصري الكبير وديع فلسطين عن الحياة الأدبية فترة من الزمن، وقد سألته في إحدى رسائلي عن السبب، فأجـاب (في رسالته المؤرخة في 23/3/1975م): "أما سؤالك عن سبب احتجابي عن الحياة الأدبية في مصر، فلا أهتم بنشر كتاب، ولا أحرر في "الهلال" أو "الثقافة" أو "الجديد" … وردي على هذا أن الحياة قد توَّبتني عن طلب الشهرة في مصر، بعدما رأيت أن الهيئتين الوحيدتين اللتين تحاسبانني على هذه الشهرة همـا هيئة الضرائب بما تتوهّمه من عشرات الآلاف التي تعود عليَّ من الأدب كل عام، وهيئة مباحث أمن الدولـة العليا التي مازالت تسلِّط عليَّ مخبريها وتراقب تليفونـاتي وبريدي وكأنني أعتى مجرمي الدنيا. أما هيئات الثقافة بجميع أسمائها ومسمياتها، فهي وإن عرفتني بجميع أعضائها، فلا تعرفني بتشكيلها الرسمي وأجهزتها الحكومية. ولهذا آثرت أن أُهاجر بكل حرف أكتبه إلى الخارج، ولاسيما إلى مجلة "الأديب" التي ترحب بكل ما أُوافيها به منذ ثلاثين عاماً، وما دام الأدب مبتوت الصـلة برزقي، وما دمت أطل على الحياة الأدبية باعتبار ذلك مجرد هواية، فهذا حسبي".
لقد أغلقت مجلة "المقتطف" وجريدة"المقطم" في عام 1952م، وقد أثر هذا الإغلاق على نفسية وديع فلسطين ، يقول (في رسالته المؤرخة في 3/4/1975م):
"أرجو ألا تنسى أن الجيل الذي أنتمي إليه قد فُجع أشد فجيعة في جميع قيمه العليا حين رأى جميع كُوى الثقافة تُوصد في عنف وبلا رحمة في وجهه. لقد كانت لنا في أول الشباب مجلات مثل "المقتطف" و"مجلة علم النفس" و"الرسالة" و"الثقافة" و"الكاتب المصري" و"الكتاب" و"العالم العربي"، فلما جاء العسكر، مـاتت هذه المجلات جميعاً دون أن تنذرف عليها دمعة. وكانت لنا في مطالع العمر منابر يتحدث منها أعلام المفكرين في عصرنا: منبر في الجامعة الأمريكية، ومنبر في جمعية الشبان المسلمين، ومنبر في الجمعية الجغرافية، ومنبر في جمعية الاقتصـاد السياسي والتشريع، ومنبر في جمعية الشبان المسيحية، ومنبر في نادي دار العلوم، ومنبر في رابطة الأدباء، و[منبر في] رابطة الموظفين، فجاء العسكر وبطشوا بهذه المنابر جميعاً وبالمتحدثين منها. ثم كانت هناك ندوات أدبية، فصار روَّادها من المُخبرين أكثر من روادها من الأدباء، وسرعان ما زُج بجميع أعضائها في السجون نميمةً وغدراً. وكنا يا صاحبي نقرأ الكتب والمجلات الإفرنجية بُعيْد صدورها، نراها تملأ المكتبات، ونشترك فيها مقابل بدلات معتدلة، وباسم الرقابة، وباسم النقد النادر، وباسم الوقاية من السموم المبثوثة في هذه الكتب، مُنعت منعاً باتًّا من دخول مصر، فانعزلنا عن العالم تماما".
" كل هذا حدث في جيلنا، ولا بدّ أن نصارح أنفسنا ونصارح الدنيا بحقيقته، فكان طبيعيا أن نهجر الثقافة، لاسيّما ونحن نرى الدولة بأجهزتها تعدُّ الثقافة جريمة شنعاء، ونحن نرى جميع المفكرين يُبطش بهم أشد بطش، فيقررون الهجرة فراراً من هذا الجحيم. وأنا شخصياً هاجرت كما هاجر مئات من أساتذة الجـامعات، ولولا تغيُّر الظروف لما عدت، ولما عاد منهم من عاد".
ومما يدل على ثقافة وديع فلسطين العالية أنه أجرى عدداً من الحوارات مع أعلام بارزين في مجالات مختلفة أثناء عمله في "المقطم" و"المقتطف". يقول (في رسالته المؤرخة في22/10/1976م):
"الذين أجريت أحاديث معهم وأنا في دار "المقطم" و"المقتطف" كثيرون، منهم نهرو، ولياقت علي خان، وكريشنا مينون، وألدوس هكسلي، وويل ديورانت (صـاحب كتاب "قصة الحضارة")، والأمير عبد الكريم الخطابي، والعالم عبد الفتاح جوهر، والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، وأحمد حلمي باشا رئيس وزراء فلـسطين، وعشرات من زعماء العرب الذين كانوا يزورون مصر في تلك الفترة".