في محطات القطارات والمطارات لا تلفت الانتباه سوى الحقائب، متراصة كانت أو مبعثرة أو متتابعة على السير الذي يدور بها. وحدها التي تجذب الأنظار، ويحرص من يحملونها فوق أكتافهم، أو يجرونها مندفعة بعجلاتها الصغيرة، على متابعتها جيدا، ويعرف كل منهم كيف يصل إلى حقيبته رغم تشابه الألوان والأحجام، سواء وضع...
لم أدرك أيامها أن صاحب الساقين النحيلين والوجه الضامر الذي يقف بين أعواد الهيش الهائجة فوق البركة الراكدة بوسعه أن يمنح أهل قريتي كل هذه الراحة. كنت أراه في الطلة الأولى للشمس على بيوتنا الخفيضة، يهبط من فوق الجسر متقافزا كأن تحته جمرًا، وفي يده منجل يلمع، ثم يغيب بين الشواشي الخضراء فلا يبين...
أغمض عينيه ليرى، بينما الحمار الذي يمتطيه يمضي في طريقه صامتًا متطلعًا في لهفة إلى حقل البرسيم الممتد عن يمينه. تحول النهار أمام مقلهما الأربع إلى ليل، ورأى نفسه يدخل إلى هذا المكان الغارق في الضوء الملون، ليلمح الوجوه التي تلمع خلف الطلاءات الفاخرة، منتشية بنور الشهرة، والعيش المريح.
كان فتى...
.. وبلغت تحولات الأديان مداها فى الحروب التى قامت باسم الأديان، فالإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة أشهرت سيوفها، بحثاً عن الأرض والثروة والمجد، وقفزت على دفاعية الحرب وعدالتها حسبما يفرض القرآن العظيم، وحوّلتها إلى حروب هجومية، مدعية أنها تنشر دين الله. وأفرطت المسيحية فى هذا حين انطلقت جيوش...
من المستحيل أن نجد شعباً بلا قصص.
. هكذا يقول الناقد الفرنسى رولان بارت، لكنه لم يلحظ أنه أيضاً لا يوجد شعب بلا دين. فالدين ضرورة، حيث لا استغناء عن الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى وامتلاك إطار واسع وعميق لتفسير الظواهر الإنسانية والكونية. والفلسفات التى تحدثت عن «موت الإله» لم تلبث أن حولت...
مع ضحي كل جمعة يجلس شعبان صامتا بين بوابير الجاز. ينفخ في هذا لتسليك الفونية المسدودة حتي يندفع الكيروسين إلي أعلي فيشتعل. ويلحم هذا بالقصدير ليسد ثقبا صغيرا يجعل الوابور يفرغ الهواء فلا يزهر باللهب. ويقيم أرجل هذا بعد أن تآكلت أو كسرت رأسه فيجبرها أو يغيرها مما يوجد معه من قطع غيار مستعملة أو...
وحده يسير, وتراب الجسر يشعل النار في قدميه الحافيتين, وجمرة تحط علي رأسه من أثر حزمة القصب التي يحملها منذ ساعتين, متباطئا تحتها, والنسائم تعبر ثقيلة من تحت إبطيه المفتوحين علي غبار الطريق.
حين وصل إلي شجرة السنط السامقة التي تعلو حقلنا, أناخ جسده, وحط عن رأسه حزمه القصب, ورفع هامته, تاركا...
ماتت وداد، وجدوا جثتها متعفنة في شقتنا القديمة البسيطة، التي لا تزورها الشمس، ويلثم الهواء نوافذها الضيقة من بعيد، ثم يهرب، كما هرب الناس من حول جثة أختي، واضعين أكفهم على أنوفهم. أنا لم أهرب، ولم أضع يدي على أنفي، بل اقتربت منها، وملت عليها في هدوء، وسحبت شهيقًا طويلًا، وشممت أطيب رائحة...
لم يبك عليها وهي تغيب أمام عينيه تدريجيا حتي انطفأت شمعتها إلي الأبد. لم تنجب ولدا فاعتبرته ابنها, وأخذته من أمه التي هي ابنتها. الجدة العجوز تهدهد سكرات الموت وهو إلي جانبها لا يفعل شيئا سوي التحليق في سقف الغرفة الضيقة, وترويض العجز التام والفادح. ورآه الناس علي حاله فتعجبوا وهم الذين توقعوا...
في الرشفة الثالثة من كوب الشاي الساخن اقتحمت أذني كلمته الجارحة. التفت فوجدت فمه مفتوحا عن آخره, وسبابته ممدودة الي الأمام, ومقلتيه ثابتتين في تحد, يكاد أن يتطاير منهما شرر, وقبالة ناظريه ترقد مساحة صامتة من الفراغ. كان واقفا فجلس, وسحب نفسا من الشيشة تاركا الدخان يخرج من منخريه,
ثم أناخ رأسه...
احمرت إشارة المرور فتوازى أتوبيس صدئ يتلاصق فيه الناس كأنهم يوم الحشر مع سيارة فارهة يلمع جسدها النظيف فى وقدة الظهيرة، سائقها والسيدة الرشيقة التى تجلس خلفه وإلى جوارها ابنتها الصغيرة رائعة الحسن لا يشعرون أبدا بالصهد الحارق الذى يلفح وجوه العابرين، ولا يتصببون عرقا كركاب الأتوبيس، الذين يتخالط...
حين أبلغنى باكيًا بأنهم قطعوا الجميزة وبنوا مكانها بيتًا عاليًا من حجر وأسمنت، استيقظت أحزانى، ووجدت نفسى أتضاءل فى مقعدى اللين، حتى عدت الطفل الذى كنت، أقف تحت ظلالها الوارفة، تملؤنى الهيبة والامتنان، لأصطاد وجوه أجدادى التى تتساقط من فوق فروعها العفية إلى حجرى، ثم أمد كفيَّ فى الفراغ لتتلقى...